ساحة المدينة وقرميد الريف
الثقافة بحاجة إلى جمهور، والجمهور يتجمع عادة في المدن. إنها أبسط معادلة (تبسيطية) يمكن للمرء أن يتتبع بواسطتها أثر العلاقة الجدلية والمتماسكة بين المدن وبين الفعل الثقافيّ. وحيت تغيب المدينة تنشأ البدائل: دور السينما الصغيرة والمرتجلة في القرى الفلسطينية بعد النكبة؛ النوادي المسرحية الكثيرة جدًا التي نشطت في القرى الفلسطينية وعملت ضمن البعثات الدينية الغربية أو المدارس. المسرح من أبرز الأفعال الثقافية التي ترتبط بالمدن عادة: العروض اليومية أو الأسبوعية تعتمد على الجمهور المتدفق، كما أنّ حركة بيع الكتب تعتمد على جمهور قراء واسع يشتري ويقرأ، ناهيك بالسينما وصالات عرض الفن التشكيليّ والعروض الموسيقية وغيرها.
ولكن هل ما زلنا بحاجة إلى مدينة من أجل جمهور مُحبي الثقافة ومستهلكيها؟ ألا تتنقل المسارح بين المدن والقرى، وكذا معارض الكتب؟ هل تغيّر دور المركز التاريخيّ في علاقته مع الضواحي؟ الأرجح أنه تغير أو أنه في عملية تغيّر تحدث في أوجها. وهذه التغييرات في السياق الفلسطيني تكتسب خصوصية على مستوى النكبة وأفول دور المدن الفلسطينية كمراكز ثقافية، ولكننا نشترك مع العالم بأسره في تأثيرات السايبر والفضاء الإنترنتيّ الذي حوّل غالبية أفعالنا إلى فترواليّة ورقمية. ليس عليك اليوم أن تكون في ساحة المدينة كي تسمع “الطنين” وتكون جزءًا منه. عليك فقط بوَصلة إنترنت وحساب في “فيسبوك”.
لقد برزت عدة مدن فلسطينية في التاريخ الفلسطيني المعاصر، واكتسبت رمزية وجدانية كبيرة بعد النكبة، باعتبارها الشاهد الأقوى على الدمار والخراب: يافا، عكا، حيفا، اللد، الرملة… وبالتالي فإنّ الحضور الأكبر للمدن في حياة الفلسطينيين اليوم يكمن في المخيلة العامة والذاكرة المشتهاة. وكأيّ ذاكرة ونوستالجيا يجدر بنا دائما الحذر من المبالغات وكثرة تعداد المناقب. أي أنّ المدينة الفلسطينية المتخيّلة اليوم هي الحاضنة الأوسع لجيل المثقفين والمثقفات، كما أنّ مسرحيينا وسينمائيينا يحاولون دائما استحضار المركز الثقافي المفقود سواء أكان على مستوى الإنتاجات أم المخيال.
حين كتب غسان كنفاني (العكيّ) عن العودة إلى حيفا، فإنه كتب عمليًا رثاءً للمدينة الفلسطينية التي فتحت ذراعيْها قسرًا للغازي الجديد. تمامًا مثلما كتب طه محمد علي: “الأرض خائنةٌ/ الأرض لا تحفظُ الودَّ/ والأرضُ لا تُئتمن./ الأرض مومسٌ/ تدير مرقصًا/ على رصيف ميناء/ تضحك بكل اللغاتِ/ وتُلقمُ خصرها لكلِّ وافدٍ”. لم يعد مكانٌ للحبيب الذي هجرها، وحين يعود ليُطلّ عليها تقابله بندقية إسرائيلية وابن مُجنَّد. كما أنّ كتاب “المجموعة 778” لتوفيق فياض يستحضر عكا كديكور خلاب لمجموعة فوزي النمر التي لم ترضَ بضياع المدينة وسيطرة الشرطة والشاباك الإسرائيليين عليها. وفي فيلمه الممتاز “الزمن الباقي” يستحضر إيليا سليمان تاريخ الناصرة من لحظة تسليمها وسقوطها عام 1948 إلى الزمن الراهن. وكذا يفعل هاني أبو أسعد في أكثر المرثيات إضحاكًا سوداويًا للناصرة في فيلمه “الناصرة 2000”. إنه الزمن الباقي والمتبقي، زمن لا سيطرة لنا عليه، فقدنا زمامه ولثامه وصرنا ديكورا له، بدل أن يكون ديكورًا لنا. المدينة حين تُقتل يموت معها الخيال بالأساس. المدينة التي تعتاش على الغربة والفردانية هي المحفز الأكبر على الخيال، وهي القادرة على تحويل هذا الخيال إلى نصّ حيّ يبعث على مزيد من الخيال.
لقد قتل غياب المدينة في فلسطين 48 إحدى أهم دعامات الإبداع الثقافي واستهلاكه: ساحة المدينة. الساحة التي تغلي وتزبد بالإنتاجات والكتابات والاستعراضات والخلافات والنقاشات. ساحة تلتف من حولها المقاهي والمطاعم والمؤسسات كشرط أساسيّ لبناء الحالة المدينية التي يمكن أن ترعى الثقافة. لماذا نحن بحاجة إلى الحالة المدينية؟ لأنّ الريف حميميّ أكثر بكثير ممّا ينبغي. الفعل الثقافيّ الجدير هو فعل تقويضيّ واستفزازيّ وسيّال بالضرورة. ساحة المدينة تتسع لكلّ هذا ولذلك فهي هامة وحاسمة.
هذا لا يعني أنّ الريف لا يكون في حالات عديدة المسرح الأفضل لمن يريد الكتابة والاختلاء. الريف له إيقاعه الخاص وروتينه المختلف. إنه طافح بمزاياه المغرية ولكنه لا يستطيع أن يكون مركزًا يتحلق حوله الناس. على مثل هذا المركز أن يكون متحرّرًا من الروتين المعيشيّ ومن رتابة الحياة الهادئة. الفعل الثقافي هو أبعد ما يكون عن “هدأة البال”. إذًا، إنها ساحة المدينة التي تتمرّد على هذه الفرضيات، وعليها –في سبيل ذلك- أن تضحي بكثير من القيم والعادات كي تتحرر من نفسها ومن “الثوابت”. المدينة الثقافية الحقيقية هي تلك التي لا ثوابت فيها، ونحن كشعب يعيش على الثوابت منذ فجر القرن العشرين، علينا أن نعيد النظر في مدننا التي ازدهرت حتى النكبة: هل كانت مدننا حقيقية تسمح بنشوء ساحة مدينة لا ثوابت تحكمها إلا الثابت الوحيد في السياق الإبداعي: طرح الأسئلة؟
ولأنّ مدننا اليوم ليست مدنًا بأيّ شكل من الأشكال، فإنّ ريفنا أيضًا ليس ريفًا بأيّ شكل من الأشكال. نحن نعيش في حيّز جغرافيّ مسخ، بشع إلى أقصى الدرجات. معمارنا هجين حاولنا فيه تقليد اليهود الإسرائيليين، ولكننا فشلنا في ترويض القرميد الأحمر فوق شرفاتنا المُطلة على بستان البندورة والباذنجان. لذلك فإنّ السؤال عن غياب المدينة لا ينفصل بنظري بأيّ شكل من الأشكال عن السؤال الأكثر حرقة وألمًا: السؤال حول ضياع الريف.
كيف يمكن إنشاء مدينة حقيقية من دون ريف حقيقيّ؟ من أين سيأتي كتاب ومخرجو ومبدعات الجيل الجديد إلى المدينة كي يطرحوا الأسئلة الجديدة، إذا لم يأتوا من ريف حقيقيّ؟ سيأتون من جيتوات بالغة الاكتظاظ تائهة بين مقوّمات الحداثة الاستهلاكية وبين رغبة جارفة في الهروب من هذه الجيتوات. لكنّ هذا الهرب لا ينبع من الرغبة في أخذ الدور المدينيّ المعاصر بكلّ جوانبه؛ إنه ببساطة هرب بلا بوصلة، هرب مُفجع من حارة أضحت لا تُطاق إلى حارة في مدينة عربية أو يهودية-عربية أو إلى “مدينة” عربية، من أجل ظروف معيشية مادية أفضل. لقد فشل الريف الفلسطيني في إسرائيل بالتجدّد ولذلك فنحن عاجزون اليوم عن بناء مدينة فلسطينية حقيقية متجدّدة.
نحن نرثي المدينة الفلسطينية بكلّ مناسبة وفي كلّ بحث أو دراسة، لكننا لا نرثي الريف المفقود.
(نشرت هذه المقالة في مجلة “جدل” الصادرة عن مدى الكرمل في حيفا)