“أورفوار عكّا”: الخيال حرق الأسطورة/ رشا حلوة
|رشا حلوة| عن: “أخبار الأدب”
يقول الكاتب الفلسطيني علاء حليحل في مقدمة روايته حديثة الصدور “أورفوار عكّا”: “في صيف عام 2006، جالسني الشاعر حنا أبو حنا وقال لي ببساطة: قبل سنوات طويلة جدًا بدأت التحضير لكتابة رواية عن حصار عكّا وعن سفينة النساء التي أرسلوها من باريس إلى جنود نابليون لرفع معنويّات جنوده أثناء حملته على الشرق. تخيّل أنها وقعت في أسر المحاصَرين في عكّا وقتها. ما رأيك لو تكتب أنت الرواية التي لم أكتبها أنا؟”
عندها، وبعد أن أعجب حليحل بالفكرة، وافق على الفور. ومنذ ذلك الصيف حتى آذار/ مارس 2014، عمل الكاتب على روايته التي صدرت بطبعتين، الأولى عن “دار الأهلية” في عمّان، والثانية بطبعة فلسطينية محلية عن دار “كتب قديتا”، التي يحكي عنها حليحل بسخرية دومًا: “الدار العربية الوحيدة التي تصدر فقط لمؤسّسها، حتى الآن”.
هذه القصة، عن بداية كتابة الرواية والبحث الطويل المرفق لها، والتي يتحدّث عنها حليحل في كل المحافل، تعطي شعوراً للقارئ/ة والمستمع/ة بأنّ “أورفوار عكّا” عبارة عن رواية تاريخية تحكي عن فترة حصار نابليون بونابرته لعكّا إبّان فترة حكم أحمد باشا الجزّار، أي في عام 1799، إلا أنّ الرواية ليست تاريخية، رغم أنّها ترتكز على حقائق وشخصيات تاريخية، فهي رواية من صنع خيال وفانتازيا علاء حليحل.
إنّ الفعل الأدبي الذي قام به حليحل في روايته هو بداية “حرق للأسطورة التاريخية”، رغم أنّ الرواية غير معرّفة على أنها “رواية تاريخية”، لكنه بهذا التوجّه “حرق” الأسطورة غير القابلة للمسّ، أضف إلى إجراء بعض التغييرات التاريخية بحكم القصة الأدبية: فحكاية “الجزّار”(شخصية الرواية الرئيسة) وبطولته أمام أسطول بونابرته تُروى برواية واحدة مألوفة ومعروفة للجميع، بما فيها “بطولة أهالي عكّا بقيادة الجزّار وانتصارهم على الفرنسيين”، فيأتي حليحل بمادة أدبية لا تتطرق إلى “البطولة” ولا حتى إلى دور العكّيين في هذه المعركة، الذين لم يكونوا بالفعل جزءاً من جيش الجزّار الذي تكوّن من “المغاربة” و”البشانقة”. عن هذه النقطة، وحرق أسطورة البطولة العكّية أبان حصار عام 1799، قال حليحل مرارًا -وساخرَا أيضًا- إنّ الأمر كان سهلاً عليه لأنه ليس عكّيًا.
البشر الوحوش
“أورفوار عكّا” رواية لا تحكي عن الشعب، إنما هي رواية تحكي عن القادة والغزاة الذين أثروا على حياة الناس. فلا نعرف تمامًا من خلال الرواية تفاصيل ونمط حياة الناس في تلك الفترة. إنما بالتأكيد نعرف شكل المدينة في ذلك الزمن؛ الأزقة والأحياء وأماكنها الذي بقي جزء منها ودُمّر الآخر بحكم الغزوات التي مرّت على عكّا، وهو المختلف نوعاً ما عن شكلها اليوم في عام 2014.
شخصيات “أورفوار عكّا” المركزية رجال؛ حيث يشعر القارئ لأول وهلة بأنه أمام مشاهد ذكورية تمامًا، مع حضور للنساء على شكلين: الأول كمومسات (سفينة المومسات) والثاني كـ “دارينكا”، حبيبة الجزّار و”جوزفين”، حبيبة بونابرته، وفي هذا الحضور -أي حضور الحبّ- يتحول الوحشان (الجزّار وبونابرته) إلى بشر. أما عن حضور النسائي والمضامين النسوية، سوف أتحدّث عنها لاحقاً.
هذه “الأنسنة” نابعة من فكرة أنّ لا وجود “لشرّ مطلق وخير مطلق”. ومن أنّ الكاتب -كي يكتب شخصياته- عليه أن يحبّها رغم وحشيتها، فالشخصية الرئيسة في الرواية هو الجزّار (حيث كان بونابرته حاضراً بالرواية فقط من خلال “هلوسات” الجزّار)، وحليحل أحضر الجزّار، في مشاهد عديدة، وأضاف إلى شكل شخصيته المعروف (القاسي والقاتل)، جوانبه الهشّة والضعيفة والحساسة، خاصة في “الوقعة” التي احتوت مونولوغًا للجزّار. ففي “الوقعة الحادية والعشرون، 27 نيسان” (ووقعة هو الاسم الذي أطلقه حليحل على فصول الرواية)، يقول أحد مقاطع مونولوغ الجزّار: “لا أريد أن أموت هُنا. أشعر بالوحدة. هذه ليست بلدي. هذه الأرض العطشى للدماء منذ بداية الأيام ليست مسقط رأسي، ليست المكان الذي أريد أن أنام فيه نومتي الأخيرة.”.. إنه أحد مقاطع الصدمة، من أسئلة “جزّار” لنفسه.. كأنه صفعة على الوجه، مع العلم بأنّ الرواية خيالية، لكنك تسأل نفسك عند قراءة هذه “الوقعة” بالذات: “جزّار وبحسّ؟!”.
لهجة “خوش بوشية”
يستخدم حليحل في حوارات روايته لهجة “جديدة”، تجمع ما بين العربية والتركية والفرنسية أحياناً، هي “عامية” لكنها غير مألوفة. فأنا كقارئة من عكّا، لم أتعرف إلى “لهجة بلدي في عام 1799” والتي استخدمها حليحل في “أورفوار عكّا”. بداية، من أجمل النصوص الأدبية، سواء القصة أو الرواية وغيرها، هي التي تستخدم في الحوارات اللغة العامية للمكان، فالعامية قادرة دوماً على تقريب القارئ/ة أكثر إلى أجواء الرواية والمكان الذي يحتويها. بما يتعلق باللهجة التي استخدمها حليحل في روايته، فهي نتاج بحث طويل قام به الكاتب، ضمن سيرورة البحث التاريخي الذي رافق الكتابة، عن اللهجة التي استخدمها أهل المدينة آنذاك، إلا أنه لم يجد مرجعاً، فلم يوثق أحد اللهجة في تلك الفترة، فاعتمد حليحل الحقيقة التاريخية التي تقول إنه حين وصل ظاهر العمر الزيداني إلى عكّا، أحضر معه قبائل بدوية إليها، وبالتالي خلق حليحل “لهجة جديدة” ترتكز على البدوية بدمجها مع التركية بشكل خاص، حيث يمكن للقارئ/ة أن يتعلم التركية من بعض الكلمات في الرواية! وخاصة أنّ حليحل قام بإرفاق ترجمة لكلّ كلمة تركية أو فرنسية مستخدمة في النص.
بالإضافة للّهجة المستخدمة، يتميّز نص حليحل بلغة جريئة، لا تبتعد عن شخصية الكاتب التي عرفها القراء من جرأة معهودة، فيحتوي النص تعابيرَ تُصنف كأنها “فظة” و”قاسية”، سواء في المشاهد الجنسية، التي تتسم بالعنف، والمشاهد العنيفة عموماً. والتي لشدة اتقان حليحل بالكتابة، فهي تصل للقارئ كمشهد واضح، دقيق، فيه نفور وكذلك استفزاز له.. وهذا بحدّ ذاته ميزة من ميزات الرواية وموهبة الكاتب، أليس على الرواية أن تستفز قارئها إذاً؟
عابر للجانرات
امتدادًا من نقطة اتقان حليحل بنقل مشاهد الرواية بحرفيّة عالية، كأنّ القارئ يراها أمامه، فيرتبط هذا الاتقان بأن الكاتب يدمج في روايته جانرات أدبية عديدة، خاصة السينمائية والمسرحية. ففي مشاهد عديدة، يخيل للقارئ بأنه يشاهد مقطعاً من فيلم سينمائي، وفي مشاهد أخرى، كوقعة “مونولوغ الجزّار” وكذلك الحوار “المتخيل” ما بين الجزّار وبونابرته، يلتقي القارئ بمشاهد مسرحية تماماً. وهذا عملياً نابع أيضاً من تجربة وخبرة الكاتب بالكتابة السينمائية والمسرحية.
حضور الكاتب
يأخذنا علاء حليحل عبر 250 صفحة إلى 62 يوماً من عام 1799، رحلة حمل نفسه إليها ورسم لها عالماً متخيلاً ونقله إلينا، نحن القراء. لم يكن حضوره، كحليحل، واضحاً، في رحلته الأدبية الخيالية هذه، المليئة بالفنتازيا التي يتمناها من يحبّ السفر عبر الأزمنة، فمن منا لا يريد أن يعود إلى فترة تاريخية ما، سواءً أحبّها أم لا، ويعيش مع الشخصيات هناك كما يخيل له؟
كان حضوره عبر كتابة الخيال وشكل الرواية وحبكتها وشخصياتها، أي حضوره كمبدع وأديب، أضف إلى حضور فلسفته عن الحياة والمضامين الاجتماعية والسياسية التي مررها عبر أحداث الرواية وشخصياتها وهواجسها، بمتعة القراءة، العامل الذي يعتمد عليه حليحل كثيراً في كتابته، فيقول دائماً: “أنا بمزع الصفحة اللي كتبتها وما استمعت بكتابتها، فإذا أنا ما استمتعت، القارئ رح يستمتع؟”
هذه المتعة بالكتابة، التي أنتجت عنها متعة القراءة ورواية ستضيف إلى الأدب الفلسطيني الكثير، قادرة على تمرير فلسفة الكاتب عن الحياة، عن الحرب والسلم، والتفاصيل الحيّة بالمعارك، عن الحبّ، وبالأساس المضامين النسوية الحاضرة بقوة في رواية كلّ أبطالها “ذكور”، أضف إلى المقولة السياسية الأساسية للرواية، والتي تجسدت من خلال اقتباس للجزّار، الذي يعود في النهاية إلى “مسقط رأسه/ البوصنة” (حسب الرواية لا التاريخ)، حين يقول: “رزقي في بلدي.. كل غريب ومصيره يرحل يا فرحي.”