علاء حليحل: لولا السخرية لتحوّلنا إلى ندابين
حاورته: منصورة عزّ الدين
علاء حليحل كاتب فلسطيني شاب من عرب 48، وُلِد في قرية الجش بالجليل عام 74، ويعيش حاليا بعكا في فلسطين التاريخية- كما يحلو له أن يسميها. تخرج في جامعة حيفا ودرس السيناريو في تل أبيب. ويوزع وقته بين كتابة القصة والرواية، والكتابة للسينما والمسرح والصحافة حيث يرأس حاليًا تحرير جريدة “فصل المقال”، لسان حال حزب “التجمع الوطني الديموقراطي”، برئاسة د. عزمي بشارة.
يحلو لعلاء أن يسخر من تعدد المجالات التي يبدع فيها بأن يُشبه نفسه بالحاسوب الذي يدخلون إليه كل يوم قرصًا جديدًا: اليوم قرص الأدب، غدًا قرص المسرح، وبعده قرص الصحافة. لكنه لا ينكر أنّ هذا التنوع أفاده كثيرا من ناحية تنويعة المهارات والتقنيات والآليات التي يستعين بها في الكتابة، فهو يكتب أدبا يميل إلى صُوَرية السينما، ويكتب مسرحًا يميل إلى شاعرية اللغة، من دون اللجوء إلى البلاغة العربية الكارثية في سياق الكتابة المسرحية- وفقا لكلماته.
أصدر علاء رواية بعنوان “السيرك”، ومجموعة قصصية بعنوان “قصص لأوقات الحاجة”، وينتظر حاليًا صدور روايته “الأب والابن والروح التائهة” عن دار “ميريت”. من يقرأ هذه الأعمال سيلمح في لغة كاتبها الساخرة ومقاربته لأعقد القضايا بحسٍّ ساخر وبنوع من البساطة المخادعة رابطًا يربطه بالكاتب الفلسطيني الكبير إميل حبيبي. عندما قلت له هذا أخبرني بأنني لستُ الأولى التي تلاحظ هذه الملاحظة. هو يعتبر ربطه بحبيبي الكاتب على أيّ مستوى من المستويات شرفا ليس بالقليل، رغم الفارق الكبير بينهما من ناحية التجربة والمهارات والحسّ الفني والأدبي للنصوص كما يؤكد.. إميل حبيبي –وفقا لحليحل- هو مُعلم كبير في مجال الأدب. كما أنّ رواية “المتشائل” التي أبدعها “في لحظة صدق ووعي فلسطينييْن يندُران اليوم” هي في نظره مدرسة لكلّ فلسطيني يودّ الكتابة والتعامل مع الواقع المُعاش في دولة اليهود، وغيرها أيضًا.
لكن هل ما يزال واقع عرب إسرائيل الذي عبّر عنه حبيبي، وتحمل هو نفسه عبء تناقضاته ككاتب وكإنسان، هو ذاته الواقع المعاش اليوم؟
يرى حليحل أنّ المواضيع التي تطرق إليها حبيبي لا تزال حارقة ومطروحة بحدّتها، اليوم أيضًا. فمسألة الهوية والتعايش والنكبة/الاستقلال الإسرائيلي والذاكرة وجميع الأمور التي شغلت حبيبي في كتابته، هي الآن حاضرة في كتابات الجيل الجديد من الكُتاب الفلسطينيين. “ربما يشير هذا إلى تعقيد الواقع وحدّته أكثر بكثير مما يشير إلى الكُتاب أنفسهم. فبمعنى معين، نحن نطمح لنوع جديد من الكتابة والمضامين والتعامل مع واقع أسهل، ولكن فرص حدوث هذا هي واهية وتكاد تكون معدومة”.
من ناحية أخرى هو يعتبر أنّ السخرية هي المَوئِل والملاذ الأخير “لولاها لتحولنا إلى مجموعة من البكّائين والندّابين، وصارت كتابتنا مؤذية ومجحفة بحقنا وبحقّ أنفسنا كفلسطينيين وككُتاب. والله لو وضعوا القمر في يميني والشمس في يساري لما تنازلتُ عن السخرية”!
سألته: تستفيد لغتك من اللغة التراثية بشكل واضح سواءً أجاءت هذه الاستفادة بدافع السخرية من تلك اللغة أم بدافع خلق نوع من المفارقة. هذا يدفعني للتساؤل: ما علاقتك بالتراث؟ وما رؤيتك للغة ودورها في بناء النص؟
فأجابني بأنه لا نصّ من دون لغة، مع أنه يمكن التوصل إلى لغة من دون نص، قبل أن يضيف: “أعتقد أنّ على كل كاتب عربي شاب أن ينهل من مخزوننا الثقافي الكبير، وهو ليس بمُجبر على أن يكتب مثل الجاحظ أو أن ينحى منحى ابن رشد في استعراضاته الفكرية أو الذهنية، ولكننا نملك أساسًا وبنيانًا متينيْن يمكن أن يحملانا بعيدًا، حتى لو كتبنا بأساليب “غربية” عصرية، مثل القصة القصيرة والرواية والمسرح والسينما وغيرها. أنا أرى أنّ هناك حاجة لفهم آبائنا وأجدادنا حول ما كتبوا وما فكّروا به وما تركوه لنا، وبعد هذا الفهم أو الاطلاع، يمكننا أن نختار ما يصلح لنا وما لا يصلح. بمعنى أنّ العودة إلى الآباء والأجداد هي عودة من أجل التفحّص والاستكشاف والتعلم، وليست عودة من أجل إحياء أساليب ونزعات لا مكان لها اليوم في الكتابة العصرية في نظري.
ماذا عن المفارقة الناتجة من تجاور التراثى والعصرى، هل تقصدها؟
“المفارقة هي غاية أسعى إليها بالفعل عن طريق التوظيفات اللغوية والأسلوبية، وأعتقد أنها نابعة من محاولتي الدائمة لتذكير نفسي -والقراء (العرب)- من أين أتينا ومن كُنا، وإلى ماذا علينا أن نعود، رغم المفارقة المضحكة في ترديد أشعار لطرفة ابن العبد في حي وادي النسناس في حيفا في العام 2004، مثلا. هذه مفارقة أحبّها، وقد لا يحبها البعض، ولكنها مُسلية ومثيرة لي على الأقل، ومن خلال ردود الفعل التي أتلقاها- هي مثيرة للكثيرين أيضًا.
***
شخصيات علاء حليحل في معظمها من البسطاء والعاديين (شبّههم المترجم أنتوني كالدربانك بشخصيات جيمس جويس في “أهالي دبلن”) المشغولين بأمور بسيطة تلامس حدود العبث في بعض الأحوال، لكنها تكشف عن المأزق الوجودي والإنساني لهؤلاء البشر العاديين المطالبين أكثر من غيرهم بالتأكيد على أنهم موجودون في مواجهة دولة يحملون جنسيتها غير أنها تتمنى لهم أن يكونوا عدماً. الكتابة هنا بعيدة عن منطقة التعبير المباشر عن “القضية”. تلك المنطقة التي حرص كثيرون –ربما عن سوء نية– على حصر الأدب الفلسطيني فيها، كأنهم يريدون له ألا يوجد خارجها. يقول علاء: “ككاتب، أعتقد أنني أستطيع التعبير بجدارة عن حياتي ومحيطي، وأية كتابة عن الحواجز مثلا، أو العيش في ظل احتلال عسكري كما في المناطق المحتلة، ستكون كتابة مُزيفة وهشّة. مسؤوليتنا التاريخية ككُتاب هنا، إذا أجيز لي استعمال هذا المصطلح الكبير، هي أن نُوثق حياتنا وحياة الأقلية الفلسطينية في داخل إسرائيل. فنحن، زملائي الكتاب وأنا، خير من يستطيع فعل ذلك، كما أنّ زملائي وأخوتي في المناطق المحتلة هم خير من يمكنهم أن يكتبوا عن واقعهم المرير. ولهذا، فإنّ المواضيع التي تشغلنا تختلف عن المواضيع التي تشغل الفلسطيني في بيت حانون أو نابلس، وبالتالي قد ينشأ الاختلاف الذي يمكن أن يُحيل إلى نوع من الإدراك بأننا لا نكتب عن “القضية”. ولكنني في هذا السياق أعتقد أننا نكتب عن “القضية”، ولكن بمفاهيم جديدة وأدوات جديدة ووجهات نظر جديدة. وفي هذا السياق يمكن أن أشير إلى مضمون لإحدى مقولات شاعرنا الكبير محمود درويش، حين قال: كل فلسطيني، حتى حين يكتب قصته الشخصية الخاصة، فإنه يشارك في كتابة الرواية الفلسطينية الكبرى، لكونه جزءًا من الشعب الفلسطيني.”
إذا كان صاحب “السيرك” يرى أنّ المواضيع التي تشغل الكتاب من العرب في إسرائيل تختلف عن تلك التي تشغل الكاتب الفلسطيني في بيت حانون أو نابلس، فإنّ الواقع الثقافي الذي يعيشه هؤلاء يختلف كلية هو الآخر من ناحية همومه ومشكلاته عن الواقع الثقافي في الضفة والقطاع. فرغم أنّ الرقابة على المطبوعات والمسرح، مثلا، معدومة في إسرائيل وغير قائمة كما يؤكد حليحل، إلا أنّ هناك آلياتٍ أخرى متنوعة للرقابة تحلّ مكان الرقابة بمفهومها الكلاسيكي القمعي.
“الدولة الإسرائيلية مثلا لا تدعم النشر الأدبي العربي ولذلك فلا توجد عندنا دور نشر يمكن أن ننشر فيها إبداعاتنا، وبالتالي فنحن ننشر في القاهرة وبيروت وعمان. هذا أولاً. ثانيًا، تستطيع الدولة أن “تعاقب” أو “تقاطع” كتابًا مُعيّنين عن طريق عدم تشغيلهم في السلك التربوي والتعليمي أو عن طريق سدّ مصادر الرزق في وجوههم. كما أنّ المؤسسة الإعلامية والرسمية في إسرائيل تمارس دورًا تعتيميًا هائلاً على الثقافة العربية الفلسطينية هنا، وبالتالي فإنّ فرص التطور والنمو والمشاركة في الخطاب العام في الدولة والتأثير عليه هي معدومة كلية، وبالتالي هذا يشابه منع نشر آراء ومُنتجات الكُتاب العرب في ضمن سوق الآراء في الدولة اليهودية.”
***
أعرف أنك تجيد العبرية، وأنت -كما يبدو من كلامك- مشغول بالخروج من دائرة التعتيم تلك. ألم تفكر في الكتابة الإبداعية بالعبرية مثل أنطون شماس وسيد قشوع؟ سألته، فردّ بأنّ الكتابة بالعبرية هي أمر فيه الكثير من المجازفة، ولكن فيه الكثير من التحدّي له ككاتب عربي.
“أبدأ بالمجازفة: من أكثر الأمور المؤلمة والتي تحدث اليوم في المشهد الثقافي العربي العام، هو تحوُّل غالبية المثقفين والكُتاب إلى جلاّدين ضد بعضهم البعض باسم وطنية غير مُعرّفة وغير منطقية في الكثير من الحالات، وباسم الدين طبعًا. ولكن التعصب العلماني أو المديني عند الكثير من الكُتاب في عالمنا العربي يزيد أحيانًا عن التعصب الديني ويطفح على الجانبيْن. فالعداء للصهيونية –وهذا أمر طبيعي وإنساني من الدرجة الأولى- يتغلب أحيانًا على الرؤية الصحيحة لواقع الأمور الثقافية. وقد لجأتُ إلى هذه المقدمة الطويلة لأقول لك إنني أخشى ردود الفعل إذا ما كتبتُ بالعبرية، ومسألة تحويلي إلى صهيوني خائن هي مسألة غاية في السهولة، ولو لم تحدث حتى النهاية فيكفي أن يتحول المرء إلى لقمة سائغة في معمعة الشتائم والاتهامات اللا نهايئة. من جهة أخرى، أنا أكتب بالعبرية، رغم هذه المخاوف ورغم خشيتي، وقد تجاوزتُ مرحلة الخشية التي يمكن أن تمنعني عن هذه الكتابة، لأنني أريد أن أخاطب اليهودي الذي لا يقرأ العربية بلغته، بوسائله وفي عقر داره. أعتقد أنّ أهم ما في هذا النوع من الكتابة هو عدم تضويع البوصلة وعدم تقديم التنازلات المضمونية من أجل النشر والانتشار. هذا هو حرصي الوحيد. مثلاً: توجهتْ مؤخرا إليّ دار نشر عبرية كبيرة في إسرائيل وطلبوا مني أن أشارك في سلسلة كتب أدبية-تسجيلية، بكتاب سيكون عنوانه “اليهود”. أي أن يخرج العربي الفلسطيني، ابن الأقلية وابن المهزومين (حاليًا) في بيتهم وفي عقر دارهم، أن يخرج إلى الشوارع والأندية والكُنس والمستوطنات وساحات تل أبيب وأن يكتب عن “اليهود”، كطائفة بشرية، من وجهة نظر عربية فلسطينية نقدية مناهضة للصهيونية. أنا أعتقد أنّ هذه مهمة مثيرة وبها فائدة كبيرة لأنها ستصفع القراء اليهود هنا، وستجعلهم يفكرون بأنفسهم وبتصرفاتهم كما تبدو في نظر الآخر، الضعيف، المُهمّش، ضحية الصهيونية التي يتمسّكون بها بكل ما أوتوْا من مدافع وطائرات، ناهيك عن الوقاحة الجميلة الكامنة في مثل هذا النوع من الكتابة. أنا أعتقد مثلاً أن ما كتبه شماس وما يكتبه قشوع هو في غاية الأهمية. فقشوع مثلا، في زاويته الأسبوعية في ملحق “هآرتس”، يُلقي الضوء على تفاصيل حياته كعربي، في كل مجال يمكن أن يخطر ببالك، ويُخرج العربي من الخانة النمطية أحادية الأبعاد التي تُميّز تعامل الإعلام والجو العام العبري واليهودي معنا.”
في النهاية كان لابد أن أسأله: كفلسطيني يعيش في إسرائيل ويحمل جنسيتها هل تشعر بأزمة ما فيما يخص الهوية؟
“أزمة الهوية –من وجهة نظري- تنضم إلى أزمات أخرى، لا تقل إلحاحًا. وفي ظلّ الأزمات الأخرى تتفاقم أزمة الهوية إلى أبعاد جديدة تماما. فإذا كان وهم اتفاقات أوسلو حدا بجزء كبير من الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل، أو ما يُعرف بعرب الداخل أو عرب 48، نحو نوع ما من الأسرلة وقبول الواقع الإسرائيلي والاندماج في الدولة، فإنّ الانتفاضة الثانية قضت نهائيًا على هذه الأوهام. أعتقد أنّ العرب داخل إسرائيل يعانون اليوم أزمة هوية كبيرة، بعد فترة سنوات سيطر فيها الأمل بأنّ القضية الفلسطينية في طريقها للحل، وبالتالي مسألة المواطنَة والحياة الكريمة في وطننا وبيتنا. نحن اليوم من دون أمل بحلّ ما، ومن دون عيش كريم، ومن دون مُقوّمات أولية لبناء مجتمع مستقل في داخل المنظومة الإسرائيلية. أنا دائمًا ادعيتُ، وبإصرار، ولا زلتُ أدّعي، أنّ العرب الفلسطينيين مواطني إسرائيل يعيشون أكبر أزمة من بين أزمات المهجر والوطن الفلسطيني، لأننا خارج أيّ اتفاق كان أو سيكون، وحتى بعد حل القضية الفلسطينية، فماذا سيحلّ بنا؟.. هل سنصبح إسرائيليين أم علينا الهجرة إلى الدولة الفلسطينية العتيدة، أم أنّ علينا البدء بصراع جديد مع الصهيونية، في داخل حدود إسرائيل، حول تعريف الدولة وأسس بنائها؟… ومن سيخوض هذا الصراع معنا؟”…
(عن “أخبار الأدب”)