قواعد العشق الأربعون: صوفيّة Take away/ علاء حليحل
|علاء حليحل|
قد تجدون ما سأقوله الآن عن رواية “قواعد العشق الأربعون” غريبًا، وربما مستهجَنًا لتناقضه، إلاّ أنّ هذه الرواية مكتوبة بإتقان وجودة عاليتيْن، ومع ذلك فهي رواية غير جيّدة كما يمكن للمرء أن يتوقّع. هذه هي الرواية الأولى التي أقرأها للكاتبة التركيّة إليف شافاق، التي تحقّق نجاحات ملحوظة في بلدها والعالم، والتي يشير الناشر في مقدّمة هذه الرواية إلى أنّها باعت حتى الآن 600,000 نسخة من “قواعد العشق”.
تروي “قواعد العشق الأربعون” قصتيْن متوازيتيْن: قصة شمس التبريزي وجلال الدين الرومي (القرن الثالث عشر)، وقصة إيلا وحبيبها عزيز الصوفيّ، إيرلنديّ ومسيحيّ المولد (وقتنا الراهن). وتتنقل الرّاوية بين هاتيْن الحقبتيْن عبر فصول متتالية تحمل أسماء الشخصيات المختلفة في كلّ عصر، مُنوّعةً في هُويات الرُّواة ووجهات نظرهم السرديّة، ما أكسب الرواية خفةً ورشاقةً في التنقّل بين العصريْن المختلفيْن، مُبقيةً على رابط واحد كبير ومتين بين الفترتيْن، وهو رواية “الكفر الحلو” التي كتبها الصوفي المعاصر عزيز عن شمس والرومي، وأرسلها إلى دار نشر، أوكلت لإيلا مهمّة قراءتها والتوصية بنشرها أم لا. هذه الأسس السرديّة الأساسيّة التي تقوم عليها الرواية، وكرواية حسنة الاتقان والصّنعة، تندمج هذه التقنيات لتؤلف حالة أدبيّة جميلة وجذابة، أعتقد أنها تأسر لبّ القارئ وتدفعه للاستمرار في قراءة الرواية، دفعًا.
ويجب القول أيضًا إنّ شافاق روائيّة حذقة، تشقّ طريق القصة بتشعّباتها بمهارة عالية، وبلغة سرديّة سلسلة غير منهكة، وتفسح المجال أمام شخصيّاتها للبوح والمناجاة والسرد والكلام. إنها رواية منفتحة على كلّ الجهات، تدعو القارئ للغوص والمتعة والإفادة، وهي بهذا تحقّق إنجازًا أدبيًّا لا يُستهان به في سياق النوع الأدبيّ الذي بدأ يطغى في السنوات الأخيرة، وهي الروايات المستوحاة من التاريخ القديم وأحداثه.
ما المشكلة إذًا؟
المشكلة بنظري، كإنسان مُحبّ للصوفيّة وفكرها وأدبها، أنّ هذه الرواية مكتوبة وفق وصفة “الفاست فود” الأمريكيّة، لتكون وجبة روحانيّة للمجتمع الغربيّ الرأسماليّ المغترب عن الروحانيّات، لدرجة أنني تساءلتُ –كشرقيٍّ مسلم- عن سبب حرق وقتي وإهداره في قراءة نصّ ينزع للرواج عبر جرعات روحانيّة تحقنها البطلة الأمريكيّة الأربعينيّة في عروق جسدها الميت من الروتين. وتتمثّل هذه الجرعات بأربعين قاعدة للعشق، ترد في الرواية بشكل مستمرّ، على لسان أبطال الحقبة الماضية. ومع مرور الوقت وتراكم القواعد، تحوّلت هذه القواعد إلى مصدر إزعاج وإنهاك، خصوصًا وأنّ الكثير منها مُقحَم في سياق السرد عنوةً وبالقوّة، ما حوّل هذه القواعد إلى نصوص زائدة وفائضة –بنظري- خلت من مضامينها الحقيقيّة، لتصبح أقرب ما يمكن من الكاتشوب والمايونيز على شطيرة الهامبرغر.
أنا أتخيّل أنّ الكثير من العرب والمسلمين الذين سيقرؤون الرواية سيحبونها حبًّا جمًّا، والسبب بسيط: نحن مغتربون ومنقطعون عن حضارتنا وثقافتنا الإسلاميّة الحقيقيّة (وبضمنها الصوفيّة)، تمامًا كالغرب البارد الرأسماليّ، بحيث نتعامل مع الصوفيّة باعتبارها حضرات يرقصون فيها بتنانير واسعة. ومن هذا المنظور، فالكثيرون منّا لا يختلفون عن إيلا كثيرًا.
الأمر المزعج الآخر الذي برز في قراءتي للرواية هو تدهور شخصيّة شمس التبريزيّ من درويش صوفيّ رحّال وقريب من القلب، إلى طاغية روحانيّ يغتصب أفكار غيره ويرغم الجميع على الإتيان بأفعال يراها هو حقيقة مطلقة والطريق الوحيدة للتقرّب من الله. لقد أساءت الراوية تطوير شخصية شمس وأعتقد أنّها ظلمته برغبتها (السرديّة والدراميّة) لدفعه إلى نهايته التراجيديّة المعلنة منذ الصفحات الأولى. لم أحبّ شمس (الشخصيّة) في نهاية الرواية ولم أستسغ خيارات الراوية في تطوير الشخصيّة لهذه الدرجة من التعصب الذي يختبئ تحت رداء الانفتاح والسماحة الصوفيّة. لقد تحوّلت شخصية شمس إلى متطرفة ومتعصّبة كالداعشيّين تمامًا، وهذا يناقض أبسط أسس الصوفيّة التي تُنظّر لها الرواية.
مع تقدّم القراءة بدأ يشتدّ لديّ الشعور “البلاستيكيّ”، وكأنّني أمضغ بيتزا أمريكية مثلّجة خارجة من الميكروويف بغلافها النايلونيّ. لولا نزعة الراوية لإنجاز نصٍّ يدغدغ غدد اللعاب الغربيّة ويُذكّره بالهند وروحانيّات الشرق في الستينيّات، ولولا حرصها على تغذية النزعة البيضاء بالانبهار بهؤلاء الشرقيّين الروحانيّين، لكان بوسع هذه الرّواية أن تتألّق حقًا وأن تكون رواية مرجعيّة وروحانيّة من الدرجة الأولى. لكنّ شافاق لم تستطع مقاومة هذه النزعة، وللأسف ورّطت “قواعد العشق الأربعون” في جانر روحانيّات الـ Take away التي يحبّها الغرب جدًا، ويحبّ قراءتها أثناء أزمة جيل الأربعين أو انهيار مؤشّر الناسداك.