جوليانو لا ثانيَ له
الجمهور الكريم،
عائلة جوليانو وأصدقاءه؛
في الرابع من نيسان من العام الماضي انكسر جوليانو فينا، لكنّ صورته لم تهتزّ. على العكس: زادت بهاءً وجمالاً ووضوحًا. صحيح أنهم قتلوه، لكنهم خلّدوه أيضًا. اجتماعنا اليوم هنا بفضله، تمامًا مثلما كنا نجتمع في المسرح والسينما والميادين، بفضله ومعه.
هذا انتقام صغير ربما، ما يشبه أضعف الإيمان، أن نقف اليوم ونقول لهم: جوليانو معنا.
لكنّنا نفتقد جوليانو. في زمن عزّ فيه الوضوح وعزّ فيه العناد والتضحية، نفتقد ابن صليبا وآرنا، المناضليْن الكبيريْن، ونرثي حالنا.
كيف يمكن أن يُقتل فنان كبير مثل جوليانو مير-خميس ولا تهتزّ الدنيا؟
كيف يمكن أن يظلّ القاتل طليقًا حُرًا عِربيدًا، فيختنق العدل وتموت قصائد الحياة؟
القاتل لم يقتل جوليانو بطلقات المُسدّس الجبان مرة واحدة، بل هو يقتل جوليانو كلّ يوم. في كلّ يوم يمضي والصّمت يملأ الجريمة يتلقى جوليانو رصاصاته الخائنة ونزداد نحن حزنًا.
لكنّ جوليانو لم يكن ليرضى لنا باليأس؛ هذا الجميل المندفع أبدًا كيف يرضى باليأس لنا، وله ولمسرحه ومسرحنا؟
نبحث في زوايا الذاكرة عنه، لكنّ الذاكرة كلها له. حضوره طاغٍ حتى في غيابه، غيابه طاغٍ مثل حضوره.
كم جوليانو لدينا وكم جوليانو صنعنا؟ ليس الكثير للأسف. شعبنا يزخر بالمناضلين والفنانين ومُحبّي الحياة والعمل، لكنّ تفاني جوليانو ما يزال يضعنا أمام التحدّي الأكبر. تحدّي الذوبان الأكبر في الفكرة والعمل سوية.
الفكرة والعمل هما جوليانو. هذان الجّناحان حملاه بعيدًا ليطير فوق المستحيل ويسخر منه. كان يفكّر بعمق المُتأني ويعمل بعجالة الجائع للحرّية. هذا هو التحدّي الصّعب الذي وضعه جوليانو لنا: كيف يتحوّل صدى الرّصاص الغادر إلى موسيقى للحياة.
لم يكن جوليانو يحب الكلمات الكبيرة، خصوصًا وهو ينحت الصخر في مخيم جنين، لكنه بطل نادر، شخصية دراميّة شكسبيرية مضت نحو حتفها بإيمان عميق بأنّ هذا هو قدرها المحتم. حمل المسرح على كتفه وطفق يزرع بذوره في فلسطين الجميلة. فلسطين التي احتضنته في حياته وتحتضنه الآن في مماته.
نحن نقولها بحزم كما كان جوليانو سيقولها: من قتلني؟ من أخرسني؟ من سكب الماء البارد على نار الحبّ؟ تبًا لكلّ عقيدة تستسهل القتل باسم المجتمع أو الدّين أو اليقين المطلق بالصواب.
نسأل السلطة الفلسطينية وجهات التحقيق: من قتل جوليانو؟ من سعى لوقف مشروعه وإسكات نبضه الجميل؟ من يكره المسرح والفنّ والتفكير لهذا الحد؟ ولماذا لا يزال حرًا طليقًا وكأنّه انتصر؟
لن ينتصر!
نحن لسنا أبطالاً مثل جوليانو، ولكننا نحبّ جوليانو بما يكفي لنسأل مرة تلو الأخرى: من قتلك يا ابن المناضلين؟ من أخرس ابتسامتك العذبة وجموحك المجنون الأصيل؟ ولماذا لم تهتزّ الدنيا ولماذا يَخال لنا أنّ التقصير ليس تقصيرًا فقط، بل هو تواطؤ ساكت ومسكوت عنه؟
نريد أن نعرف القتلة ونريدهم أن يُحاكموا كي يُزهر الورد ثانية على تراب جوليانو. لماذا صمتنا ونصمت؟ هل حياة الفنان رخيصة أم أننا تعبنا من الموت فاستسلمنا له؟
جوليانو دائم الخضرة، دائم الفرح، دائم الغضب، دائم الجّموح، دائم الحديث عن الغد. جوليانو يصفعنا على طريقته الخاصة في كلّ يوم يمضي ودمه عالق على جنبات مدخل الحرية في مخيم جنين للاجئين.
أصدقاؤه هناك يحملون النعش بألم، لكنهم منذ مقتله يحملون نصوصه التي لم تكتمل ويبثون الحياة فيها لأنّ لا غد لهم ولنا، من دون ذلك.
وبقدر ما نحبّ جوليانو نخشى عليه من أنفسنا… هل سيتحوّل إلى ذكرى سنوية عابرة، ومتى سنتعب من إحيائها وننصرف إلى أشغالنا؟
أسئلة صعبة لكنها حاضرة مثله، صعبًا وعنيدًا ولا يخاف.
نحن نحبّ جوليانو لأنه لا ثانيَ له.
جوليانو لا ثانيَ له،
جوليانو لا ثانيَ له…
(ألقيت هذه الكلمة في حفل الأربعين على مقتل الفنان جوليانو مير خميس في مسرح الميدان في حيفا)