الفرح يأتي في الصباح
الفرح يأتي في الصباح. مع الإغفاءة الأولى بعد الصحو، مع صوت الجارة التي تطلب من إبنتها الصغيرة للمرة الألف أن تفرك أسنانها قبل الحليب. مع الصوت الأجش الصادر من المذياع، ينبئ بوتيرة الحرب المتصاعدة هناك، بين دجلة والفرات. الفرح يأتي من دجلة والفرات، من أصوات الدم الأخرس على شاشات التلفاز. من الصورة الخضراء التي تبعثها كاميرات الليل الذكية. أحلم بأنني طائر أخضر يحلق فوق الحرب السمجة، الباردة، المتتالية بين الفقرات الدعائية. أطير فوق الغيم الأبيض وأدندن لي قليلا من فيروز، قليلا من نينا سيمون وألعب الساكسفون مثل بل كلينتون، مُبتكر السيجار اللولبي. أحلق فوق الحرب وأرقص بين القذائف والرصاصات الذكية. أرقص بينها مثل عصفور صغير لم يذهب إلى الروضة بعد. أتهجأ فوق الغيم أحرف إسمي الأولى، وأشير إلى البيوت المشتعلة وأصرخ بفرح: حريقة!!
الفرح يأتي في الصباح. على أجنحة المارينز المحلقة في أحداق عيوني. أفرك عينيّ ببطءٍ، لعل المارينز الأسود يسمح لحلمي بأن يحتضر لوحده، على مهلٍ، مع كأس الويسكي الذي يحبه. أتأمل المارينز الأسود وأتذكر كوخ العم توم وما فعله به المارينز الأبيض. فأضحك. أدير رأسي إلى الحائط الآخر وأضربه بجبهتي. أنا المارينز الصديء، أتقن ضرب رأسي بالجدران وشاشات التلفاز، وأحمل بشارة عجزي إلى أمي الحزينة، تنظر إلى حيفا البعيدة وتتضرع ألا يقع صاروخ عليها، فيأتي على فلذة كبدها. كم كنا سنكون أغبياء وعديمي القيمة، لو أننا لم نحصل على أمٍ تتضرع صوب مدينة إبنها الحبيب وتطلب من الله ألا يقع الصاروخ عليه، وأيضًا- ألا ينهزم صدام!.. الفرح يأتي مع الصباح، وأنا أنتظره كل صباح في نفس الزاوية، خلف حاوية القمامة الكبيرة الخضراء، عند الدرج الصاعد إلى شارعي الجميل. الفرح يأتي مع الصباح، ويشرب القهوة في المقهى البُني المتفائل أبدًا، عند ناصية الشارع الجميل، ويقرأ ما تقوله النجوم لمواليد برج الحزن…
الفرح يأتي في الصباح. أزدرد لعابي وأنا أبوّل كوابيس الليلة الطويلة، في جرن المرحاض الأبيض. أتكئ على صندوق الماء البلاستيكي من فوق (ماذا يسمونه؟؟) وأحلم بأنني لن أعمل اليوم، ولن أستيقظ، ولن أذهب إلى مكان. أحلم بمرجة كبيرة مزروعة بالماريحوانا، تحت شباك غرفتي. أحلم بأني مزارع نشيط، أحصد الماريحوانا وأحزمها حزمًا حزمًا، وأرتبّها في صندوق كبير ذاهب إلى الحرب. أحلم بالمارينز الذين سيدخنون هذه الحِزَم وأستيقظ لأسحب القبضة التي ستحرر سيل الماء ليغسل بول كوابيسي، وكأن بولي لا قيمة له. أهز رأسي بقوةٍ، أحلم بأني رامبو مع “كلاشن” وأمامي جماهير المارينز: أفتح النار والدخان من فوهة رشاشي وأرقص على صوت الدم المنسكب من صدور الجنود الأحباء… أرقص على الواحدة والنص، وعلى الثانية وعلى الثالثة، ثم أنطلق في دبكة عربية شمالية، كما يعرف أهل الجبل الذي أنا منه، أن يدبكوا. أحرر الزناد من سبابتي وأوبخ الجنود القتلى على أرضية مراحيضي، أن قفوا، أن إفتحوا عيونكم، لأنكم هكذا، وأنتم ميتون، لن تروا الفرح الذي يأتي في الصباح!
* * *
صرت مثل الأهبل (هي كتبت لي قبل أسبوعين أنني أهبل. إسألوها)، أنتظر صوتًا آتيًا من أسلاك غير مرئية، تمتد تحت شوارع غير مرئية، ترتفع في هوائيات غير مرئية. ماذا فيه، ذلك الصوت، يجعلني أحبه أكثر، يومًا فيوم؟.. (أعتقد أننا نبحث عمّن نحبّه في الحرب، ويحبّنا، فيكون لموتنا معنًى. نصير مثل القطط والكلاب في الشتاء. الحرب هي شتاؤنا الذي نبحث فيه عن شهوة تحتضننا في البرد والمطر. نبحث عمّن نحبّه في الحرب، ويحبّنا، فيكون لموتنا معنًى، يكون من يبكي على شاهدنا الأصمّ بحرقةٍ ولوعة.) ذلك الصوت القادم من شفاهٍ تحب الطعام اللذيذ، وتحب النكات اللذيذة وتحب الكلام اللذيذ. الفرح يأتي في الصباح فلا يجدني. أكون جالسًا عند حاسوبي أنتظر بريدها الألكتروني. أضغط على المفتاح الذي يجلب بريدها فلا يأتي بريدها، فأضغط ثانيةً، فلا يأتي ثانية، وهكذا. أضغط ولا يأتي، ثم أضغط فلا يأتي، ثم أقول إنني صرت أهبلَ، إنني عدت لأكون مراهقًا مثيرًا للشفقة، فحتى قبل أيامنا هذه، لم يحبّوا على التلفون وعلى البريد الألكتروني. لو علمت أمي أن فلذة كبدها يحب “على التلفون”، لزادت إلى دعائها اليومي: “يا رب، أبعد عنه الصواريخ، ولا تجعل صدام ينهزم، وأقنعه بأن يتزوج قبل أن أموت، أو قبل أن يفقد عقله”.
الفرح يأتي في الصباح، فأتطلع إلى صورتها على شاشة حاسوبي. كم هي جميلة. أعرفها منذ ألف سنة، حين كانت الرسائل بالحمام الزاجل، وبألف باخرة وبألف ناقة وبألف يد. أعرفها إلى درجة أنني أتذكر لون بشرتها البيضاء، وملمس شعرها الفاحم، ورائحة الفستان الصيفي الذي يحتضن جسدها في الصورة، مع أنني لم ألتقِ بها أبدًا. أشعل سيجارة وأتذكر البحة المدمرة في صوتها (لم أقل لها ذلك حتى الآن)، ورنة ضحكتها الوقحة والهادئة هدوء الواثق. “واثق الخطوة يمشي ملكًا”. لا بد أنها واثقة الخطوة، تمشي ملكًا. أنظر إلى صورتها وأحلم بأننا طيرين أخضرين نطير فوق الغيوم، وبين القذائف والرصاصات الذكية، ونمارس الفرح على أسماع النساء المنتحبات على فلذات أكبادهنّ، الذين لم ينجوْا من الحرب، لأن الله كان مشغولا بتلبية دعاء أمي. أحلم بأنني أجدّل لها ضفيرتين طويلتين تتمايلان على ظهرها البديع إلى بداية عجيزتها. أحلم بها هكذا، مع ضفيرتين طويلتين تتمايلان على ظهرها إلى بداية عجيزتها، تغني للفرح الآتي في الصباح: “ضاق خلقي يا صبي من هالجو العصبي”… وأنا أيضًا!
الفرح يأتي في الصباح، فيفسد عليّ شوقي لها. المشكلة ليست في الاشتياق. المشكلة في الاشتياق إلى شيء ليس موجودًا. إلى تلك المرأة التي لم تكن تلك المرأة. إلى ذلك الرجل، الذي لم أعُدْهُ. إلى ذلك اليقين بأن كل ما تريده من الدنيا موجود في قبضتك، رهن إشارتك، طيّعًا، لذيذًا، مُشبِعًا، في حلم صباحي جميل. أحلم بأنها تجلس قبالتي في الفرشة وتروي لي أضحوكة عن الأهبل الذي أحب صوتُا يأتي من الأسلاك اللامرئية، الممتدة تحت شوارع غير مرئية… ونضحك، ونشفق عليه. تشفق هي عليه، أكثر مني، إلى درجة أنها تبدأ بالبكاء عليه. أكفكف لها الدمع، أطبطب على كتفيها، أحتضنها، أقبلها على رقبتها وخديها وعينيها، وأطلب منها ألا تبكي هكذا، لأن هذه خرافة. فلا يوجد إنسان يعشق صوتًا على التلفون، سوى في الخرافات. تضحك. تبتسم وتقول إنها تعرف واحدًا مثله، وإنه لا يعيش في خرافة. بل يعيش في الصباح الذي يأتي إليه الفرح كل يوم، فلا يجده. أشفق عليه، فأبدأ بالبكاء، فتكفكف لي دمعي، وتطبطب على كتفيّ، تحتضنني، تقبلني على رقبتي وخدي وعينيّ، وتطلب مني ألا أبكي هكذا لأن هذه خرافة. ونضحك معًا.
الفرح يأتي في الصباح. الحرب تأتي في المساء. وهذا عادل جدًا. الفرح في الصباح والحرب في المساء. منصفٌ جدًا. لا يجب أن يأتيا معًا، لأن الوقت ضيق والحياة تسير. وأنت وحدَكِ من لا تتركين نظري طيلة اليوم. أشعر بالحزن حين أسمع صوتك متعبًا، عبر الأسلاك غير المرئية. أرغب لو أنني هناك معك، في الأماكن غير المرئية، تحت الشوارع غير المرئية، بين الهوائيات غير المرئية، لأمسح بيدي على شعرك، وأدعك لك كتفيك بزيت من الفرح. أسمعك ولا أراك. وهذا غير منصف أبدًا…
الفرح يذهب في الصباح. الحرب تأتي في الصباح.