FACEBOOKLESS
إكتشفتُ، في غمرة حياتي الديجيتالية، أنني صرت أصرف الكثير من الوقت أمام الحاسوب في العمل مقابل بريدي الكَهربيّ وصفحتي في “فيسبوك”، إلى جانب الترجمة والكتابة (وطرق مواقع لا تلائم الجوّ الداهم للشهر الفضيل). واكتشفتُ أكثرَ أنّ مجمل الوقت الذي صرتُ أقضيه في متابعة “فيسبوكي” وتغذيته وصيانته والحفاظ على أواصر القربى مع “أصدقائي” الـ 493 الذين اكتسبتهم في نصف سنة، أخذ يتزايد يومًا بعد يوم، حتى صارت “ديوانة الفيسبوك” تحرق بضع ساعات من النهار –لا أملكها- فصرتُ كقول الشاعر:
سقى الله يومًا قَصَّرَ اللَّهوُ طُولَهُ / وظلَّتْ خياشيمُ الأَباريق تَرعُفُ
بروْضٍ تَمشَّى بينَ أَزهارهِ الصَّبا / فتحسبُها مذعورة حينَ ترجفُ
واكتشفتُ أكثرَ وأكثرَ أنني أشاطر 493 “صديقًا” شؤوني اليومية وأفكاري وصوري وأفلامي وما تقذفه حمم البريد الكهربيّ كلّ يوم، رغم أنني بالكاد أعرف 100 شخص من هؤلاء “الأصدقاء” شخصيًا! فاستغربتُ من هذه “الخُوشبوشيّة” التي زججتُ فيها نفسي، أنا الأنتي إجتماعيّ بجدارةٍ- فتأملتُ واستغربتُ.
وفي قرار خاطفٍ، سريع، لا رجعة عنه، قمتُ ظهيرة أمس بقطع الكهرباء عن حسابي في حديقة الوجوه هذه، معلنًا انتهاء علاقتي به (ولو إلى حين)، وذلك بين مستنكر(ة) ومستغرب(ة) ومستهجن(ة). وقد مضت عليّ حتى الآن 48 ساعة بالتمام والكمال وأنا facebookless، لا “ستاتوس” أغذّيه ولا “نُوتس” أضيفها ولا “إنبوكس” أنكشه ولا “أصدقاء” أضيفهم، ومع هذا، فأنا لا أشعر بأيّ نقص عضويّ أو نفسانيّ أو مَشاعريّ، وعجبي؛ فالنصف سنة التي ولّت أوهمتني بأنّ “كتاب الوجه” هذا غرض عصرانيّ ضروريّ للإنسان “الأبْديتيد” في حياتنا اللاهثة، مثل الهاتف المحمول والبريد الكهربيّ وقنوات الدِّش ومفاتيح السيارة الجديدة المتدلية من طرف جيب البنطال.
ومن دون أن أغرقكم بتنظيرات قد تعكّر مزاجكم حول “الفيرتوال” الذي حلّ محلّ “الواقع” وحول “السايبر سبيس” الذي حلّ محلّ “حيالله سبيس”، يسعدني أن أقول لكم إنني بخير، والجميع يُقرئكم السلام من أرض التخلف والرجعية، هنا في لابتوبي الذي لم يخشّ “فيسبوك” منذ 48 ساعة، ولم أسمع منه حتى الآن أية احتجاجات أو اعتراضات، اللهم إلا حشرجات البطارية المهترئة ومروحته التي تنافس المكيّف بهوائها الملتهب.
إذًا، فعملية استئصال الورم الخبيث لم تكن صعبة، رغم أنني حضّرت نفسي لنوبات “كريز” يرتفع فيها ضغطي وتتزغلل عيناي وتدبّ قشعريرة المدمن في بدني، طالبًا جملة “ستاتوس” فذلكية أو “نوت” جديدة تخلب الألباب أو رضًا ساديًا لذيذًا في تجاهل “طلب صداقة” من شخص(ة) ثقيل(ة) الظلّ، ثخين(ة) الزناخات. لم ألحظ حتى الآن عوارض فطام أو توتر في الكلى، ولم يغزّني بنكرياسي ولم يخذلني كبدي، وها أنا أكتب لكم من أرض اليباب، من الربع الخالي، حيث الحياة بلا تعقيبات تستدرّ التعقيبات، وصور عائلية حميمة تستدرّ تعقيبات حميمة.
وقد إلتاعت حماتي الفيسبوكية، كرّم الله ورقَ دواليها، حين رأتني أضيف صورة شذا الأولتراساوندية (“جَنينتنا” ابنة الستة أشهر بتوقيت ما قبل الولادة)، فبسملتْ وحوقلتْ واستعوذتْ وكبّرتْ، ثم عاتبتْ: “ديروا بالكو من صيبة العين!!” وهكذا، وللمرة الأولى، بدأت بتفحّص قائمة “أصدقائي” في “فيسبوك”، متقصّيًا أثر شخص(ة) “بعيون زُرق وسنان فُرق”، ثم تذكرتُ أنني لا أؤمن بالحسد وعيونه، وبأنّ العرب وصفوا الحاسد على أنه ذو “عيون زرق وسنان فرق” من أجل القافية فقط، كما يحبّ شعب العنتريات، فانصرفتُ عن هذه المخاوف ونبذتها (رغم أنني لم أضع صورة “دُشة” مرة أخرى؛ ولا تنام بين القبور…).
وقد بدأت نفسي تعوف هذا الـ “فيسبوك” منذ أكثر من شهرين، حين تيقنت، في إشراقة ليلية مظلمة، أنّ هذه المساحة الفيرتوالية صارت، تحت أناملنا، “ديوانة” عرب جديدة، نلتقي فيها للقلقة والدردشة وتمضية الوقت، تمامًا كما يلتقي معدومو الإنترنت في المقاهي الشعبية و”الكوفي شوبز” وأرصفة الطرق ومكاتب العمل والحافلات والتاكسيات والطائرات لطقّ الحنك. والحقيقة أنني لم أستفد من “فيسبوك” شيئًا يُذكر، اللهم إلا تعرفي على كاتب(ة) أو اثنين جيدين، وقد يعود هذا إلى عدم قدرتي على تسخيره بما يكفي من المهنية، أو إلى أنني أنتمي إلى جماعة لا تريد تسخيره لأمور تتجاوز “صباح الخير للجميع!” و”فقت اليوم مبعوص” و”طالعه على استراحه…” (وأنا مال أهلي؟!).
وكي أعفي الناس من أمزجة “ستاتوسي” وكي أستريح من أمزجة “ستاتوسهم”، سحبت الفيشه، فانسحبتْ وانسحبتُ.
فهل سأصمد؟؟
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 12 آب 2009)