ليليان تنتقل للسكن عند سمير
جامعة حيفا من أغرب الأماكن التي عايشها سمير في حياته القصيرة. الدراسة للّقب الجامعيّ الأول استغرقته خمس سنوات بدل ثلاث، وأرهقته ماديًا ومعنويًا حتى تحوّل اللقب الجامعي -فخر العائلة- إلى كابوس ثقيل نغّص عليه حياته خارج الجامعة. مع الوقت، وبعد بداية عمله في متحف حيفا كمساعد تقنيّ، في سنته الجامعية الثانية، أخذ يتردّد على الجامعة أقلّ وأقلّ حتى أصبح من النادر جدًا أن يتواجد فيها لأكثر من يوم أو اثنيْن في الاسبوع. وحتى وإن حضر فإنّ معظم وقته كان يقضيه في المقاهي المتعدّدة في الجامعة مع أصحابه ومعارفه. هناك تعرف على عنات، وهناك أحبها.
قام الدال نقطة عن كرسيه مادًّا يده لسمير.
“أهلا سمير، لماذا تأخرت؟”
“كيف تأخرت؟.. لقد خرجت فورًا من البيت، إذا أردت فألقِ اللوم على الباص البطيء.”
“لا بأس. النصف ساعة هذه مكّنتني من التفكير بهدوء بما حصل. أنا الآن أكثر صفاءً.”
“شوّقتني يا رجل!”
“هل ترغب ببعض القهوة؟”
“بسرور، ولكن عليّ قبل ذلك التحدث إلى السيدة جولي..”
“آنسة..”
“آنسة جولي.. لقد تواعدنا على اللقاء في “المقهى الصغير” في الثامنة، وعليّ الاعتذار لها.”
“إذًا فاتصل بها ريثما أحضر القهوة.”
“إذا اعطيتني الرقم فسأُسرّ لذلك.”
“رقمها؟ لا أملك رقم هاتفها، ظننت أنه بحوزتك.”
“لا. كيف لا تملك رقم هاتفها وكدتما تبكيان سعادة في المعرض عندما دخلت؟”
“لقد غادرت المعرض ووعدتني بالاتصال، وها هي تتصل بك وليس بي.”
“الأغرب أنها اتصلت إليّ إلى الجريدة عند عباس. كيف علمت أنني هناك بحق السماء؟”
“حسنا، دعنا الآن من جولي ومغامراتها ودعني أقصّ عليك ما حصل.”
في الطريق إلى البيت استعاد سمير رواية الدال نقطة الغريبة ولكنه لم يستطع نسيان السؤال الذي شغله طوال الوقت: كيف عرفت جولي بأنه كان عند عباس في الجريدة؟.. من أين تعرف عباس؟.. تذكر حفل الافتتاح ليلة البارحة ورجّح أنها تعرّفت إلى عباس بعد سقوطه الذي جذب انتباه الجميع. وقد يكون الدال نقطة أخبرها باسمه وبأنه صديقي. ولكن الدال نقطة لم يذكر أمامي أنه حدثها بعباس وعن صداقتهما.
في البيت، كانت هناك ثلاث مكالمات على الآلة المسجلة: “هالو مسيو هاليدي. أين أنت؟.. أنا بانتظارك في المقهى كما اتفقنا. باي”؛ “سمير، أين أنت؟.. اتصل بي حالما تصل، قد أكون ما زلت في الجريدة”؛ “سمير ليليان تتكلم. لقد طردتني أولغا من البيت. سأتصل في الليل”.
أول ما فعله سمير هو التوجه نحو الجيران. كأنه اعتاد مكالمات عباس الطارئة ولم تعد تُثيرهُ، وكأنّ الآنسة جولي لن تشتري معرضه بأكمله..
“شالوم أولغا، ليليان موجودة؟”
“ليليان تركت البيت.”
“تركت البيت؟.. كيف؟”
سماع روايتها لن يضرّ أبدًا.
“نعم، اليوم. لا أودّ رؤيتها هنا لا هي ولا أخاها.”
“ولكن إلى أين ستذهب؟.. هل لديها أقارب هنا غيركم؟”
“لا. من ناحيتي يمكنها الذهاب إلى الجحيم… هل من شيء آخر؟”
“لا شكرًا.. إذا حصل ورأيتها فاطلبي منها القدوم إليّ.”
“حسنًا.”
غريب أمر هذه المرأة. زوجها مُختفٍ وتلقي بأخته إلى الشارع. لو حصل هذا عندنا (نحن العرب) لاستدعت كلّ عائلتها من قريب ومن بعيد ولكانت ليليان الآن أعزّ صديقة عندها. الهاتف يرنّ.
“آلو… نعم (انتقل للإنجليزية).. لن تعلمي يومًا مدى أسفي، أرجوك سامحيني.. أنا أقدّر تفهمك جدًا.. شكرا لك.. الآن؟.. آه ما زلت هناك… فهمت.. طبعًا.. لا لا أبدًا ولا أية غلبة.. باي..”
في الوقت الذي كان فيه سمير يغلق باب الشقة بالمفتاح، كانت ليليان قد وصلت الطابق نفسه. استدار ليراها واقفة تحته والحياء على وجهها.
“ليليان!.. أين أنت؟ لقد قلقت عليك جدًا.”
“كنت أتسكّع قليلا.. لقد طردتني.”
“سمعتُ مكالمتك. تعالي أدخلي”، قال وأدار المفتاح ثانية في الباب.
“لا. لا حاجة، أرى أنك خارج.”
“لا يهمّ، تعالي أدخلي الآن.”
لم يشعر قط بهذا المقدار من العطف على إنسان. لماذا يهمّه أمرها إلى هذا الحدّ؟ “لا أظنّ أنه الجنس، أنا أعرف نفسي جيدًا، ليس لهذا الغرض”.
“ماذا الآن؟”
“أولا تعالي نتفق على أنك لا تضايقينني بالمرة، وأزيلي من رأسك فكرة إزعاجي نهائيًا.”
ابتسمتْ. جلس وأشعل سيجارة.
“ثانيًا، يمكنك البقاء عندي إلى أن تتدبري أمرك أو أن يعود غريغوري، وهذا نهائي.”
ها هو يرشح أبوية وحنانًا. تمامًا كما كان والده يرشح عندما كان يقنعه بقبول مساعدة مالية منه.
“لا أدري، هذا كثير جدًا.”
“ولا كثير ولا شيء.. نحن جيران والرسول عندنا أوصى بسابع جار.”
“لم أعرف أنك متدين، ابتسمت.”
“متدين في الأمور الجيدة فقط”، ابتسم هو أيضًا.
“وربما في الأمور الهيّنة أيضًا”، زادت من ابتسامتها.
“ماذا تقصدين؟”
“يعني، من السهل القول إنك متدين في أمور معينة مثل الإيمان والإحسان للجّار ولكنك لا تقوم بواجباتك الدينية الأخرى، الكثيرة والمنغّصة، وكأنّ حسنة واحدة تصنعها في الشهر تكفي لسدّ رصيدك للجنة.”
“ما هذا؟.. لم تمض عليك خمس دقائق في شقتي وها أنت قد بدأت بتحليلي نفسانيًا. من المثير للاهتمام أيّ تحليل سأتلقى بعد أسبوع.”
“فعلا مثير للاهتمام”، ابتسمت أكثر.
جولي في المقهى، يا الهي!
“حسنا ليليان، بما أننا اتفقنا على الأمور الهامة فيمكنني الاستئذان منك للذهاب للقاء شخص تأخرت عليه كثيرًا.”
“حسنا. هل ستبقي المفتاح معي؟”
“بل سأقفل عليك من الخارج. فليس عندنا نساء تخرج من البيت وحدها.”
ضحكا. اتجه نحو الباب مسرعًا وقبل أن يغلقه تذكر شيئًا:
“على فكرة، أنا ملحد..”
(إلى صفحة الرواية)