عباس لن يصير فدائيًّا
حتى رائحة الكحول الحادة المنبعثة من فيه دومًا لم تكن لتمنعه من التمتع برائحة الشتاء الرطب المنبعثة من صفو صحو بعد منتصف ليلة ماطرة. الوقت: الواحدة بعد منتصف الليل في حيفا. أية ليلة. وعباس الجنوبيّ يصنع طريقه متكّئًا على سمير نحو شقته، عائديْن من بارهما المفضل. كان عباس أكثر ما يحبّه في تلك اللحظات الغناء. والغناء في تلك الظروف كان عبارة عن صراخ بشع يجمع بين جُمل وألحان عديدة جمعَها دماغ عباس المتعطل في وصلة واحدة طويلة كانت تصمّ آذان سمير.
آل الجنوبي لم يأتوا من الجنوب كما يليق باسمهم، لا من جنوب البلاد ولا من جنوب الكون. جاءوا -كما اعتاد مصباح الجنوبي السّرد على مسامع حفيده عباس- من البحر. أين من البحر، لا أحد يدري. ولا أحد يدري أيضًا الوجهة التي قدموا منها. ولكنهم جاءوا. قبل الرحيل الكبير بقليل. استوطنوا الجبال وعمّروها، وبأقلّ من عشرين عامًا كانت خيامهم الأولى قد تحوّلت إلى قرية عامرة، أهدت وطنهم الجديد أربعة من فدائيي هذا الوطن إبّان الحكم العسكريّ. عباس لم يتحوّل إلى فدائيّ، كما ودّ له جده مصباح الجنوبي، ولكنه تحوّل إلى صحفي سكّير.
الطريق من البار إلى شقته ليست بالطويلة، لذلك يحلو له أحيانًا وهو مائل على كتف سمير من جهة وملتصق بالجدار من جهة أخرى، أن ينتظر بعض النقاط لتضرب جبينه فجأة فيطلع بموال. في إحدى الليالي أثارت فيه النقاط عطشًا غير مسبوق للماء. كانت كل نقطة تشعل فيه جحيمًا جديدًا وقيظًا ملتهبًا. حثّ سمير على الهرولة وكان يقع بين خطوة وأخرى ثم يقوم لاعنا أبَ وأم الرصيف وموبّخا سمير على غفلته.
مرة، قبل وصولهما الشقة ببضع خطوات توقف عباس وفتح ذراعيه ومعطفه وصاح بأعلى صوته: “الحنفية!.. ستقتلني الحنفية!”
اقترب منه سمير بحذر وأمسك بيده اليسرى محاولا إنزالها. ركّز عباس نظره في عيني سمير ثم أمسك بتلابيبه ورفعه في الهواء، فهويا سوية على الأرض وتدحرجا قليلا.
لم يحِدْ عباس بعيدًا عن آل الجنوبي في الكثير من عاداته وصفاته رغم بعده المتعمّد عنهم. أكثر ما يذكّره بهم هرولته. ظهر مُنحن ويدان تتناوبان الجيئة والذهاب، للخلف وللأمام، كبندول الساعة المعلقة في ديوان جده. الحديث لمصباح الجنوبي:
“إعلم يا عباس أنّ الرجال لا تهرول إلا لشأن. فإن كان خيرًا فالهرولة متناسقة وإن كان شرًا فالهرولة مختلة.. فلا تقرب المختلين تسلم!”
“قم يا أخي، كفاكَ عربدة”، قال سمير وهو يحاول إزاحة عباس عنه.
“ألا ترى أنّ الحنفية ستقتلني؟.. عجيب أمرك.. أنظر إليّ، أنظر إلى فمي وشفتيّ.. ألن تقتلني الحنفية؟”
“ولِمَ تقتلك؟”
“لأنني رجل الصحراء.. لأنني رجل الصحراء..”
“أية صحراء هذه؟”
قام عباس وأخذ يعدو في الشارع مشيرًا بيده إلى البحر:
“هناك.. هناك.. الصحراء هناك والحنفية فوق ستقتلني.”
“لا تقترب منها ولن تؤذيك.”
صمت عباس. تفكّر قليلا، ترنّح ثم اتكأ على سيارة واقفة.
“كيف يمكنني ألا اقترب منها؟ وجدّي مصباح هل سيغفر لي ذلك؟”
“يغفر لك ماذا؟”
“أنني لن أصير فدائيًا…”
(إلى صفحة الرواية)