تسجيلات غير محايدة لأفول نجم: من أبو عمار إلى عمار
أنا سعيد سعادة غامرة لإنّ عمار الفلسطيني لم ينجح. فكّروا للحظة لو أنه نجح: عندها كانت الشعوب العربية الغادرة، من البحر إلى النهر، ومن الخليج إلى المحيط، ستبرئ ذمتها من الفلسطينيين لخمسين سنة قادمة. عندها كانت الأنظمة ستسحب البساط من تحت رجلي “أبو عمار” لتنصّب عمارَ خليفة للمؤمنين: للمؤمنين بالديمقراطية المتلفزة وبالفن الحديث وبقدرة عمار على هزم أيمن هزيمة نكراء في أغنية “يا طلة خيلنا من وادي إربد”!
أنا سعيد جدًا لأنّ عمار لم ينجح لأنني لا أومن بالوهم الذي يبيعونه للعرب النائمين والمخدرين والغاطّين في سبات عنيد. فالشعوب العربية مسؤولة عن تخلفها، تمامًا كمسؤولية الأنظمة العميلة عن هذا التخلف. لماذا ينتفض الفلسطينيون ولا يخافون من رصاص الاسرائيليين، بينما ينام المصري في قنوات المجاري ويصيح عندما يلحقه “دوش” من الخراء: عاش الرئيس؟! هل رصاص شارون أخف وطأة من رصاص القذافي؟؟ ما الذي يجعل الأردني يقبل بأكل المهانة من يد ملكه المليك؟ أهي نفسية عربية سحيقة المهانة والعنتريات الغبية والشعور بالدونية والارتكان إلى “إن شاء الله”؟ وإذا كان الله يلعب في السياسة، فلماذا لم يبعث 13 مليون إس إم إس لنصرة عمار، ممثل الشعب المدافع عن الأقصى؟؟ أم أنه يخاف من زمجرة القذافي؟؟
الديمقراطية: صوّتوا لعمار أو لأيمن، لا يهم، المهم أن تصوتوا. إبعثوا إس إم إس وتوكّلوا. مارسوا حقكم الديمقراطي في التصويت، فقد تكون هذه المرة الوحيدة التي ستصوتون فيها في حياتكم. حتى موعد “سوبر ستار 3!!!”. يفتح العربي التلفاز المصنوع في أمريكا، يُحكم جهاز استقبال الدّش المصنوع في تايلاند، يجلس على الكنبة المستوردة من أيطاليا، يضبط عمامته ودشداشه المصنوعيْن في أمريكا الجنوبية، يُخرج موبايله المصنوع في اليابان، يبعث إس إم إس بواسطة قمر صناعي مصنوع في سويسرا، ويشاهد برامج مستوردة من بريطانيا، ليمارس ديمقراطية عربية قحة! “أنا بصوّت عالإس إم إس، يعني أنا بحسّ”.
إنضموا معنا إلى واحة الديموقراطية الجديدة: ديمقراطية الذوق الفني. فنحن أمة طربجية. من الشيخ زرياب إلى الحاجة وفاء وهبي. نحترف العنتريات الراقصة، نحيي فلسطين على الشاشات (زقفي حاميي لو بتريدوا…) ونبعث إلى الأسرى أسمى باقات الورد، وتواقيع عمار وأيمن. فعمار “يمثل طموحات الشعب الفلسطيني في الاستقلال”، كما صرّح والده حسن (عزا عزا عزا…). ونبعث إلى كلّ أم فلسطينية ثاكلة صورة ممهورة بأوتوغراف النجم الصاعد؛ ووالله، ولا يمين عليّ، لو لم يكن عمّار يغني الآن في “السوبر” لخرجتُ إلى التظاهر مع الأسرى. فنحن علينا جميعًا أن ندعم فلسطين، بروحنا وأفئدتنا وإس إم إسّاتنا…
“المستقبل”: ربما هي الصدفة المحضة، أو ربما هي تدابير “اليد الخفية” التي زوّجتْ ما بين “السوبر ستار” وبين “المستقبل”. فتلفزيون “المستقبل” هو المكان الأمثل لمثل هذه المسابقة: المستقبل، بكل ما يحمله من معانٍ. والمستقبل العربي اليوم يسبح مطمئِنًا في “الدِّش” الفضائي اللاقط لخمسمئة قناة متلفزة، تُغني العرب عن التفكير وعن العمل وعن السعي للتغيير.
المستقبل العربي اليوم طافحٌ بالأغاني السريعة والطعام السريع والخطابات السريعة والهزائم السريعة. الرائي لبرنامج “سوبر ستار” والهستيريا المستقبلية التي طبخها لنا (ترقبوا ترقبوا: سوبر ستار 3!!!) يعرف جيدًا أنّ صناعة الحلم العربي تخطّت حدود البادية والنُوق ومضارب الخيام الصحراوية، إلى بدلات منمقة وفساتين مزركشة وأخصائيي تجميل وتسريح وسشوارات وخبيرات لحمالات النهود ورافعات الشُّعور، ناهيك عن “لجان التحكيم المهنية”، التي تسدّ بوز كلَّ منتقد: فماذا تفهمون أنتم إلى جانب الياس الرحباني؟!
ومستقبل الياس الرحباني مستقبل يستند إلى “أخصماك آه” و”جفنه علّم الغزل”، ولذلك فإنه في الحلقة الأخيرة في الأسبوع الماضي قال مخاطبًا عمارَ: “هيْدا (هيْدا؟ يعني قصدك الأغاني خيي؟..) إثبات إنو التزاهرات الفنية أفضل وأرقى من التكسير والتزاهرات العنيفة”. يعني: حِلو عن مؤخراتنا يا فلسطينيين، واتركوا الانتفاضة و”العنف” وسلموها إلى العليّ القدير، واجلبوا صور شهدائكم إلى استوديو “المستقبل” وارقصوا معنا على الواحدة والنصف، وعلى الثانية إلا ربع، صباحي. ونعدكم يا فلسطينيين، نعدكم وعدَ شرفٍ عربيٍ رفيعٍ، أنّه علينا الجيره ما ننام الليله!
الغناء: وأين الفرحة العارمة بالضبط، في أنّ فلانًا يغني أفضل من فلان؟ لا أعرف بالضبط كيف تحولت القدرة على الغناء إلى رمز وطني عربي شامل، في الوقت الذي ما زلنا فيه نستخف بالفن ونحتقر أهله، ونسبّ كلّ من يجرؤ على الجهر بنزعاته الفنية، بأنه عواطليّ ودنيء ولا شكّ سيموت من الجوع لأنه لم يصبح محاميًا تهتزّ له الأصقاع الأربعة! منذ متى تحوّلنا إلى أمة تضع الفن في أعلى سلالمها، ونرى في المغني صلاح الدين الجديد؟ حتى المبتدئ المُنشّز- وكل الذين أعانتني الصدف على رؤيتهم في هذا البرنامج منشّزون أحمقة. كيف يستوي أننا نقتل أخواتنا ونساءنا ونقمع المختلف فينا ونحتقر الجديد والمثير، وفي نفس الوقت نذوب هيامًا وسهر، في حلقة “خبز وحشيش وقمر”؟
أهو الانفصام المذهل في تركيبة العربي اليوم؟ أهي الهزائم والاذلال وتحوّل العربي إلى كيس قمامة ملقى على هامش مزبلة التاريخ، بحيث يتحوّل برنامج فيه تصويت وقليل من التنافس إلى حمّى مجاهدة، ذات رسالة خالدة؟ تحولت صالوناتنا وأحاديثنا ومدارسنا وأماكن أعمالنا إلى مونولوج واحد لا ينتهي: شفت عمار؟ شفت أيمن؟ شفت المذيعة؟؟ صرنا مثل حلازين بائسة، نحمل على ظهورنا قوقعات التخلف والذل والانحطاط، ونوهم أنفسنا بأننا نتمشى على جذع ياسمينة شهية، ملؤها الألوان والروائح الطيبة والوجه الحسن.
ونغني. ونقول إنّ الغناء دواء الروح ومعينٌ على الصبر. جميل. ولكن على الصبر على ماذا؟ على الثورات العربية لنيل الحرية من الطغاة وعملاء الغرب؟ على ساعات العمل المضنية في المصانع المتقدمة والمشاغل الحديثة والمكاتب المثمرة؟ نحن في عصر “وداوني بالتي هي الداء”. نغني في اليأس “فراقيات” تقطع الأوصال، وفي العلانية مع عمار وأيمن، ورقصني يا جدع!
أبو عمّار: يركب على الموجة الصاعدة. يستغل كل فرصة، كأيّ سياسيّ، ليركبَ على “نجاحاتِ” الغير. هو وأحمد قريع تجندا لتشجيع الفلسطينيين على التصويت لعمار. تركا كلّ شيء وتجندا لعمار. لأنهما يعرفان أنّ عمار الآن هو فياغرا فلسطين. منتصب القامة يغني، مرفوع الهامة يصدح. وكلّ ما هو مرفوع على أعمدة القضية ينفع في الأزمات. صوتوا لعمار، لأنّ عليكم بعد حين أن تصوّتوا لأبي عمار.
عمار: في هذا العصر الرديء من التفكك والانحلال الفلسطينييْن سطع نجم عمار كالمخلّص. أخيرًا، حزمة من نور فوق تلال فلسطين المغتصبة. أخيرًا، جاء من “يرفع صوتنا” (أعذروني، ولكنّني شخصيًا أفضل أن يرفع صوتي شعبان عبد الرحيم). جاء من يُعلي كلمتنا، ويرفع العلم الفلسطيني المنسيّ في برنامج “برايم تايم”، يشاهده أهل الدشاديش والعمائم والحطّات وأهل البراقع والأخمرة وأغطية “النينجا” السوداء. من المثير جدًا فحص قدرة المرأة العربية المسجونة في ملابس التخلف، على تحمل الضغط والتوتر في هذا الحرّ، وهي ترافق عمار وأيمن. ومن المثير أكثر ما إذا كان زوجها يسمح لها بمشاهدة الشبان المتقصّعين على المسرح برقة وعذوبة.
العرب: قتلني نزار قباني حين قال: “نحن قوم لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية”. نحن قوم ننام على صوت أحزاننا مثل المخدرين. ننام ونستزيد. أكثرَ أكثر. مددٌ مدد. لأيمنَ عضد. ولعمار السند.
نحن قوم تنازلنا عن كل شيء، من أجل ساعتين في الأسبوع من قفز وغناء و”ديمقراطية” إس إم إس. لقد اخترنا منافينا في بيوتنا وأوطاننا، طواعية. اخترنا أن نقلّص حيّز وجودنا إلى “دِشّ” متطور ديجيتال. اخترنا أن ننحشر في زاوية التاريخ لنرقب العالم وننتظر تقليده ببشاعة وبذوق فظ. نحن ما قيل عنّا: “سايبين الشقة كلها وقاعدين في أوضه واحدة”!
(نشرت هذه المادة في موقع “عرب 48″، 30 آب 2004)