في الحضيض التاسع!
فيلم “في الشهر التاسع”، الذي كتبه وأنتجه وأخرجه علي نصار، والذي عُرض في السينماتك في حيفا، الأحد الماضي، هو فيلم سيء. ذلك على الرغم من أن القصة التي يرتكز اليها الفيلم هي قصة واعدة سينمائيًا، وفيها الكثير من المواطئ التي يمكن أن تشكل ركيزة قوية لعمل فيلم يكون أكثرَ من جيدٍ جدًا. علي نصار أخطأ في العديد من الأمور، أهمها فيما يلي:
السيناريو: سَلَطة
القصة التي يرويها الفيلم هي قصتان في الواقع. قصة “حمّال طيزو في السل”، وهي خرافة شعبية فلسطينية عن هذا الحمّال الغامض الذي كانوا يخيفون به الأطفال العرب، بأنه يخطفهم في الليل ويبيعهم لليهود؛ والقصة الثانية مأخوذة عن إحدى القصص الفلسطينية التي ملأت كتاب “باب الشمس” للروائي اللبناني الياس خوري، عن الفلسطيني الذي تسلل من لبنان الى قريته الجليلية ومارس الحب مع زوجته وحبلت منه ولدًا. نصّار دمج هاتين القصتين في قصة واحدة طويلة، وهذا أمر معهود في السينما وغير سيء بالمرة. ولكن عند مزج قصتين لخلق فيلم روائي طويل يجب على كاتب السيناريو أن يراعي الذكاء -وكحد أدنى المعقولية- في هذا المزج. فالفيلم تدور أحداثه في العام 1991، وقسم آخر منه في العام 2001، بعد عشر سنوات (ولهذا باب آخر أيضًا). كيف أرادنا نصار أن نقتنع بأن القوم في القرية العربية في إسرائيل للعام 1991، ما زالوا يؤمنون بخرافة “حمّال طيزو بالسل” التي نشأت قبل النكبة وتطورت ما بعدها، في الأزمنة المظلمة إياها؟ كيف أرادنا أن نتعامل بجدية مع محاولته الواهية لخلق حالة من الرعب، نحن نعلم بأنها وهمية وسخيفة؟ هذا أمر مستحيل ويكاد أن يكون ضيقَ أفقٍ وهو بالتأكيد إهمال لا يُغتفر. وحتى لو أراد نصار أن يستغل خرافةً قديمةً للتدليل على واقع جديد، موجود، أو في طور النشوء، فيجب عليه في الأساس أن يدعم هذه الخرافة بملابسات وحيثيات حياتية جديدة، تجعل الدمج بين الرمز وبين الواقع المُرَمّز صيغة مزدوجة من المراوحة بين الحالتين. إن الارتكان الى أن المُشاهد سيصدق هذه المحاولة الشفافة هو أولاً وأخيرًا إستخفاف بعقل المشاهد، وثانيًا وأيضًا إستخفاف بمهمة تشكيل الملامح الأساسية والواضحة للسيناريو، كقصة جديرة بأن تُروى.
مأخذ آخر في دمج القصتين هو تغليب قصة واحدة على الأخرى، بحيث أن القصة الأولى تصير ديكورًا سطحيًا للقصة الثانية. فقصة المحارب الفلسطيني الذي تسلل الى القرية واختبأ في المغارة تنحتْ جانبًا، الى خلفية الأحداث، مما جعل شخصية خليل المتسلل (جوليانو خميس) شخصية كاريكاتورية، لا ماضي لها في لبنان، ولا حاضر سوى في مغارة معتمة ينتظر زوجته (نسرين فاعور) لشهرين وأكثر لتتسلل اليه مع أخيه أحمد (أشرف برهوم)، ليمارس معها الحب. هذا هو الثائر المحارب؟ كيف أنه لم يشتَق لرؤية أمه (سلوى نقارة) وأصدقاءه وبيته؟ ألم يكن في صراع مع نفسه أو مع أخيه للذهاب أو عدم الذهاب للقرية؟ وإذا لم تكن رؤية أمه مهمة فعلا الى هذا الحد، فلماذا أصر على توديعها عند محاولة هربه مع زوجته الحامل الى لبنان، على الرغم من المخاطرة الكبيرة؟
بالاضافة طبعًا، وربما بالأساس، ركاكة الحوارات بين الشخصيات، حتى الى درجة تشكيلها معوقًا حاسمًا في منع الممثلين من بناء شخصيات مقنعة. الممثلون في الفيلم، في غالبيتهم، وبالأخص أشرف برهوم، نجحوا في بناء “شكل” خاص بالشخصية، من ناحية المميزات الحركية والتعامل مع الكاميرا. لكنهم جميعًا وبدون استثناء، فشلوا، وهذا ليس ذنبهم، في تجاوز هذا الانجاز الى تكامل أو شبه تكامل بين ما تبثه الشخصية وهي في الحركة والشكل وبين ما تقوله كنص. البون شاسعٌ وأحيانًا مخجل في بعض المقاطع (خصوصًا مع الطفل أمل الذي يروي له عمه أحمد قصة الفيلم، حيث يخال المرء أحيانًا أن أمل إبن العاشرة، هو معيد في قسم العلوم النفسية في جامعة كامبريدج).
وبعض الملاحظات الفنية لكتابة السيناريو: ما هذه البلبلة في بدء الفيلم سنة 2001 ثم القفز الى 1991 دون الافصاح عن ذلك، ثم الانتقال الى 2001 مرة أخرى ومن ثم رواية بقية القصة بالاسترجاع؟.. ولماذا كل الشخصيات في الفيلم أحادية الأبعاد وجامدة ولا تتطور؟ وكيف يمكن أن سناء الثورية (رائدة أدون) التي تخطب بالجماهير في بداية الفيلم (الفتاة العربية المستقلة وغير التقليدية) لا تتوقف عن البكاء والترديد طيلة الفيلم: “بدك تتجوزني؟”.. وكيف أن سناء في مشهد البركة تقول لأحمد في البداية: “أنا بهمنيش حدا إنو يشوفونا مع بعض” وبعد أقل من خمس جمل، حين يأتي رجال القرية تبدأ بالنواح بأنهم سيقتلونها؟.. وأيضًا: إذا كنت تكتب فيلمًا عن خرافة، فاكتبه بأساليب الخرافة. لا تكن جامدًا جديًا مثل الموت. فُكّ ربطة العنق، وعُبّ نفسًا من النسيم العليل واضحك قليلاً على الشخصيات وعلى الخرافة وعلى الدنيا. صدقني، سيضحك الجمهور معك. وبالتالي، وبالضرورة، سيبكي معك أيضًا.
الاخراج: بدائي جدًا
علي نصار لم يحضّر واجباته البيتية. واضح -ولا حاجة لأن تكون مختصًا في السينما لكي ترى ذلك- أن اللغة السينمائية التي عمل بها نصار في الفيلم هي بدائية وتكاد تكون معدومة. المشاهد متفاوتة في تواترها وفي الدالة الدرامية، الممثلون يختلف أداؤهم ومستواهم التعبيري- الدرامي من مشهد الى آخر. هذا عمل المخرج بالأساس: أن ينقل القصة المكتوبة الى قصة مرئية ومسموعة. في هذه النقلة يمكن أن تصبح قصةً رائعةً فيلمًا سيئًا، ويمكن لقصة جيدة أن تصبح فيلمًا رائعًا. نصار لم يأخذ بعين الاعتبار، في معظم مشاهد الفيلم، الجمالية الداخلية للمشاهد، لم ينتبه الى “الميزانسين” بأي شكل من الأشكال، لم يدقق في بلورة عمود فقري درامي يحمل المَشاهد الى المستوى اللائق، لم يهتم كما يجب في التشديد على توحيد لهجات الممثلين على اعتبار أنهم من قرية واحدة، وأحيانًا كان الممثل الواحد يتحدث بأكثر من لهجة واحدة!! ناهيك طبعًا عن المشاهد “الرمزية” والأحلام التي تكررت في الفيلم كثيرًا، حيث ساعدت من ناحية ضعفها وسطحيتها، في تسخيف جزء كبير من القصة وبعث الملل والضيق عند المشاهدة.
سقطة أخرى كبيرة ومعيبة جدًا في الفيلم، لا يقدم عليها طالب سنة أولى في مدرسة للاخراج، هي تعامل نصار مع العُري الذي تخلل الفيلم. ففي أحد المشاهد الأخيرة في الفيلم تقف مجموعة من النسوة، في مشهد رمزي وتعبيري، متشحاتٍ البياضَ، عارياتِ الصدرِ وممسكاتٍ نهودهنّ بأيديهن، رافعاتٍ رؤوسهنَ الى السماء، في وقفة تضرعية كلاسيكية الى الخالق. من أجل ذلك استأجر نصار خدمات كومبارس روسيات، لم يهتم حتى بأن يكُنّ ذوات سحنات شرقية. ولكن، الطامة الكبرى كانت مع الحل الذي كان في المشهد لنسرين فاعور. فنسرين كانت تقف مع النساء الأخريات، وهي الشخصية المركزية في المشهد بحكم موقعها في القصة وفي الفيلم. وماذا كان الحل؟ أن تغطي نسرين صدرها بيديها، دونًا عن باقي الكومبارس الروسيات اللواتي كشفن عن صدورهنّ بوضوح. لست في معرض ذم نسرين لأنها رفضت أن تفعل مثلهنّ. هذا حقها الكامل. لكل ممثل وممثلة حدوده الحمراء ليس من حق أحد أبدًا التدخل فيها. المشكلة كانت في السهولة غير المحتملة التي اتبعها نصار في أن تضع يديها على صدرها وانتهينا. كأن الجمهور الذي دفع ثلاثين شيكلا لرؤية فيلمه هو مجموعة من الحثالات الجاهلة، الحافية العارية، التي ستفرز لعابها لمجرد رؤية النهود الروسية المكشوفة ولن ينتبهوا الى الفضيحة المعيبة في المشهد. أين المشكلة مثلا في أن تضع كل النساء في المشهد أيديهن كما تفعل نسرين؟ لماذا تدمير مشهد يمكن أن يكون ممتازًا وتحويله الى شاهدٍ صارخٍ على الازدواجية المبكية التي يحياها نصار: الأفانغارد مقابل “لأ عزا.. عيب!!”.
وأيضًا: لماذا أدخل علي نصار نفسه في مشهدين في النهاية؟ وكأنه بهذا يقول لنا: أنا هيتشكوك، أوقع أفلامي بلقطة في كل فيلم. ولكن نصار لم يستوعب أبجديات هذه الخدعة، التي هي بحاجة أولا وقبل كل شيء لأن تكون هيتشكوك، وثانيًا، لأن تكون عاقلا بعض الشيء في اختيار المشهد الذي تدس نفسك فيه كمخرج، والمدة الزمنية لظهورك في المشهد وما الذي ستفعله أصلا في المشهد. هيتشكوك كان يقف لمدة أربع أو خمس ثوان دون أن يفعل شيئًا. مجرد إضافة بصرية. علي نصار اختار أن يسير على الصراط المستقيم في المشهد الركيك إياه ومن ثم أن يعزف على القيثار اليوناني الكبير بحنوٍ وعطفٍ. والسؤال الذي ينتصب ساخنًا: لماااااذذذاااااا؟…..
النواحي الفنية: مؤذية
الفيلم مليء حتى الازعاج المؤلم بالبرق والرعد. مثل أفلام الرعب الرخيصة في السبعينيات التي كانت تعتمد على الصوت الحاد كوسيلة لخلق التوتر. الموسيقى لم تخدم رؤية الفيلم (إذا كانت موجودة أصلاً) في دعم الجو العام لخلق خرافة شعبية تمس كل واحد منا. التوليف (المونتاج) كان سيئًا وفظًا في بعض الأحيان. الهليكوبتر التي استعملوها في الفيلم على أنها مروحية عسكرية أو شاباكية هي مروحية لرشّ الأسمدة والمبيدات (حتى طفل في الصف الرابع كان بوسعه أن يلاحظ ذلك). وحدّث وحدّثْ ولا حرج…
إذا أردنا الدخول الى كل مشهد ومشهد وإبراز التفويتات والهفوات التي حصلت فيه، في أبجديات العمل السينمائي، بمسؤولية كاملة من المخرج، لاحتجنا الى كل صفحات المجلة! “في الشهر التاسع” هو فيلم سيء ومسيء. مسيء لنا جميعًا. هل هذه هي السينما الفلسطينية التي نعرف أن ننتجها في سنة 2002؟.. أنا أعرف كفلسطيني متابع أن الجواب هو لا. ولكن هل يعرف غير الفلسطينيين، ممن سيرون الفيلم، ذلك؟
عزيزتي
وبعدين؟؟
(نشرت هذه المادة في ضمن زاوية “ع الهدا” في مجلة “الناس”، 2002)