زامّور محمود
ها قد وُلد محمود أخيرًا. إذا كنتم تقرأون هذه المقالة ظهيرة الجمعة، فانه يكون قد مرّت على ولادته أحد عشر يومًا ونيّف. محمود حبيب الله سيكون إسمه في فلسطين التاريخية، إبنًا أولاً لإياد وسهير. كنت في مواقع أخرى قد تطرقت الى محمود جنينًا. وهذا كان سهلا علي جدًا. ولكن هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها عن محمود وهو إنسان، مع يدين ورجلين وصوت يشبه صوت زامور الخطر. هذا بالاضافة الى حمامته التي تبشر بالخير والطول والخصوبة، كما نتأمل ذلك جميعًا. فعلى كاهل حمامته تقع مسؤولية تبييض وجه العائلة في الحب المتاح والليالي الملاح.
وُلد محمود وهو يزن ثلاثة كيلوات وسبعمئة غرام. وزن لا بأس به، إذا تذكرنا أنه وُلد في بداية المجاعة التي بدأت تهب رياحها في بلاد السمن والعسل. ولكن هذا الوزن ليس بالمبالغ به أبدًا، وهذا ما يجعل الصعوبة البالغة التي رافقت ولادته في غاية الغرابة. فمحمود رفض أن يتشقبع كما يفعل خلق الله كلهم قبل الولادة. حتى اكتمال الشهر التاسع كان ما زال رأسه الى فوق ورجلاه الى تحت. عنه قال الشاعر: “منتصب القامة أمص إبهامي”. وبعد أن بدأ الخوف والتوجس بضرب جذورهما في نفس أم وأبي محمود، توكلا على الله وذهبا الى الحكيم النسائي ليشقلب محمود، فيتسنى خروجه. وكنت هنا في حيفا، وهم في القدس، أنتظر من أبي محمود هاتفًا يبلغ باليقين. فإذا لم يتشقبع محمود العنيد فعندها سيضطرون لفتح بطن أم محمود الغالية (يا عضرا!!) لاخراج هذا التيس العنيد. ولكن إذا تشقبع فانها ستعود الى البيت لتنتظر الطلق بصبر حامل. وتشقلب محمود، وعمّ الخير المدينة. فتنفسنا الصعداء، وكان ذلك في بداية الاسبوع الثاني لشهر آب للسنة الثانية بعد الألفين.
ولما اشتد الطلق دقني أبو محمود هاتفًا فاندققتُ دقا. وكان ذلك عصر الأحد، الخامس والعشرين من آب الجاري. وكنت عاهدت نفسي والجميع على أن أحضر الولادة في العاصمة الأبدية لكي أدخن خارج الغرفة، مثل الديكة التي كانت تظهر في برامج الرسوم المتحركة ونحن صغار. خاصةً أن أبا محمود لا يدخن (وهذه جريمة نكراء لها باب آخر). ولكن في تلك الليلة كانت الأمسية التضامنية للعزيزة الفنانة فلنتينا أبو عقصة في “فتوش”، وكنت من الذين سيلقون كلمة عصماء، فتعذر عليّ الهطول الى القدس، فولد محمود من دون أحد يدخن خارج غرفة الولادة، فكان من لحظته الأولى عصبيًا وشرسًا وبذيء اللسان. فعضّ المَُولدة وصفع الطبيب وألقى بدلو ماء على وجه أبيه الذي انهار بعد أن شفطوا محمود بالشفاطة. فمحمود قضّى تسعة أشهر ونيف يجيء ويذهب مع أمه وأبيه بين محسوم وآخر، وبين انفجار وآخر، وبين جندي وآخر. فقرر أن هذا المكان لا يعجبه. فتأخر في التشقلب وأجبر أمه على الصراخ (11) ساعة أثناء وضعه، الى أن ملّ منه الجميع. فأحضروا شفاطةً ألصقوها في نافوخه الصغير (هنا أغمي على أبي محمود) ثم شدّوه شدًا. فبدأ بالخروج رغمًا عن حبل سُرته. واحتارت العزيزة أم محمود بمن تعتني: بمحمود أم بأبيه. فكان حالها كحال القائل: “أحلاهما مُرّ”.
ولما أصبح الصباح يمّمتُ شطر القدس، ووصلت اليها في موعد الزيارة المسموح وكان هذا فأل خير. فمستشفى هداسا “هار هتسوفيم” قلعة حصينة، فيه العسس والحرس، والكاميرات والبوليس السري، وفي ساحته منجنيق يدك الأعداء دكًا. وكان أن دخلتُ إلى الغرفة فعانقت الوالدين ثم تطلعت الى محمود فكدت أفرط بكاءً دون أن أخطط لذلك. كيف يمكن لانسان جديد، لا دخل لك به، لا في صنعه ولا في قرار صنعه، كيف يمكنه أن يقلب عاليك سافلك وسافلك عاليك، فيزعزع أيمانك ويخلخل ضبانات عقلك؟.. محمود فعل بي ذلك. ولولاء الحياء لعادني استعبار، إلا أن المولى سلّم. فحولت الذهول الى فرح، والأسئلة الى يقين وقبلته أيما تقبيل.
ومحمود تحول طبعًا الى محور كل شيء في العائلة. عمته أخرجت كونتينر الملابس الذي اشترته له من بلاد العم سام، ومحمود الجد اشترى الحلويات الشرقية، والجدة المقدسية استعادت كل تاريخ أطفال العائلة، بينما انبرت الجدة الحيفاوية تتغنى ببياض محمود تيمنًا بشعره الفاتح وبشرته التي مثل القشطة. والكل تجند لجلب الخزائن الجديدة لمحمود لأنه لا يصح أن يأتي محمود الصغير الى البيت وغرفته ليست جاهزة بعد. مع العلم أنه لن ينام فيها قبل شهر أو اثنين على الأقل. محمود لا يعلم الآن ما يدور حوله. هو ينظر الينا ونحن منحنون فوقه نصنع له وجوهًا وأصواتًا بلهاء وغبية ويسأل نفسه: هل سأقضي حياتي مع هذه الثلة من المجانين؟..
… ثم بدأ محمود يبكي… تذكرون حرب صدام؟ ذلك الزامور السمج، الثقيل، المرعب؟ هكذا يبكي محمود. محمود ابن اليومين، الذي لا يزيد طوله عن (40) سنتيمترًا، يصرخ مثل ناقوس الفزع: واع، واع، واع… والحكي مثل متل الشوف. ولماذا يبكي محمود؟ لا أحد يعرف. حتى الترضيع لم يكن ليسكته أحيانًا. كان يبكي ويبكي كأن البكاء سينتهي قريبًا. وكان الجميع يقف من بعيد، ننظر الى أم محمود وهي تحاول أن تسكته بما تيسر من حليبها، ولكن عبثًا. فصرنا ننضغط ونروح ونجيء في أمكنتنا، والعجز يذبح فرحتنا، وكان أنني في مرة وددت أن أحمله وألقي به من الشباك. ولكنني بعد أن تيقنت من أنه سيبكي أكثر في هذه الحالة، عدلتُ عن الفكرة. وفي الليلة الأولى له في البيت عنّ له أن يمضي الليلة بكاءً. وبعد أن انتهينا، أبو محمود وأنا، من الحديث عن الحياة ومتاعبها وهمومها، خاصةً بعد مقدم زامور الخطر، في الثالثة صباحًا، توجهت الى الركن القصي من البيت الكبير (الغرفة الشهيرة بسيبيريا) ووددت أن أنام على الفور. ولكن هيهات. فزامور الخطر الذي يبدو أن محمود بلعه في التناسخ السابق، اشتغل على الفول فوليوم. ولكنني في هدوء الظلام لم أنزعج. كنت بين اليقظة والنوم وكان زامور محمود يأتي من البعيد واضحًا ولكن خجلاً بعض الشيء. فدبت في أطرافي رعشة الحب العارم ووددت لو أنني أقوم لأحمله وأهدهده على ذراعي. إلا أنني توجستُ من أن تكون أم محمود في قمة الترضيع، فأفاجئها في فعلتها تلك. ولمن لا يعرف، لدى ابي محمود سيف مسلول، يعلقه فوق رأسه عندما ينام، ولا يهاب استعماله أبدًا. فقلت أنام الليلة وغدًا أهدهده على ذراعيّ، ونمتُ…
احصائيات (دائرة الاحصائيات المركزية): في سنة 2000 ولد في اسرائيل 40831 طفلا عربيًا؛ في سنة 2001 ولد 41438 طفلا عربيًا؛ في الأشهر الخمسة الأولى من هذه السنة ولد 15516 طفلا عربيًا. في سنة 2000 توفي في اسرائيل 3464 مواطنًا عربيًا؛ في سنة 2001 توفي 3551 مواطنًا عربيًا؛ في الأشهر الخمسة الأولى من سنة 2002 توفي 1657 مواطنًا عربيًا. في سنة 2000 تزوج في اسرائيل 9218 زوجًا عربيًا وتطلق 73 زوجًا؛ في سنة 2001 تزوج 7826 زوجًا عربيًا وتطلق 839؛ في الاشهر الثلاثة الاولى من هذه السنة تزوج 910 أزواج. في سنة 2000 كان معدل عدد الانفار في العائلة العربية (4.8).
بعد أن وُلد محمود، إبن صديقيّ، علمتُ للتو بأنني أريد واحدًا مثله. محمود لي أنا، يحمل إسمي، وينظف جيوبي من الدراهم ويتهرب من تلفوناتي وهو في الجامعة. عندما تقرأ والدتي هذه المقالة ستتصل بي بالتأكيد وستصرخ عبر السماعة: ها أنت تريد الأطفال!! فلماذا تحرمنا من حفيد، أنا وأبوك، في الوقت الذي يبعثر فيه كل أبناء جيلك الأطفال، على اليمين وعلى اليسار!.. ولا شك في أنها ستفقع بالبكاء. فهكذا الأمهات. يصرخن ثم يبكين. لا يكفي أنهن يمسحن بك البلاط، فهنّ يبكين بعد ذلك. وعليك أن تبلع إهانتك وحنقك وتسأل بحنان وهدوء: يما ليش متعصبني؟.. أختي خبّرتني في إحدى محادثاتنا السرية، بعيدًا عن مركز استخبارات الوالدة الحبيبة، أن أمي تحتفظ بلعبة صغيرة على شكل طفل جميل وتعامل هذه اللعبة على أنها واحدة من أحفادها. فكلنا في البيت لم نتزوج حتى الآن، ولا يلوح في الأفق أي بشير بذلك. ومما يدل على إزدياد الوضع سوءًا هو دخول أبي أيضًا في ممارسة الضغط الجسدي المعتدل عليّ، بصراحةٍ وبدون الانتظار الى أن تفتح أمي الموضوع. صار هو يطرقه بإصرار ودون توجس. هكذا الوضع منذ حوالي السنة. عندما سأعود الى القرية في إحدى زياراتي النادرة سيقف الاثنان أمامي بالتأكيد وسيرفعان هذه المقالة في وجهي وسيقولان بصوت واحد: زقطناك!!
(نشرت هذه المادة في ضمن زاوية “ع الهدا” في مجلة “الناس”، 2002)