5 ملاحظات على الإضراب عن الطعام
علاء حليحل
(1)
أعتقد الآن بعد مرور ما يكفي من الوقت، وفي قليل من العبثية ومع ما أمكنَ من الجدية، أنّ المتضرر الأكبر من قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي هم المرتشين والفاسدين من مقربي السلطة الفلسطينية، الذين كٌشف عن أنّهم يزوّدون الجدار العنصري بالإسمنت المسلح- كما لو كان كفاحًا مسلحًا. وهذا ليس غريبَ الحدوث أبدًا، إذا تذكرنا قضية أحمد قريع، الذي من المفترض أنه “رئيس الحكومة” الفلسطيني (حكومة؟؟ رئيس؟؟ على من؟؟ هل كذّبنا كذبة “الأقرع ومعلمه” وصدّقناها؟؟)، حين روت العناوين عنه أنّ مصنعًا للباطون تابعًا له يزود الباطون الجاهز للجدار. وعندها تهرّب قريع بكثير من الدهاء وبقليل من اللياقة من هذا الكشف، فقال إنه باع المصنع لإبن خالة عمة جدته، أو ربما جده، أو جاره، أو أنه –خير اللهم اجعله خيرًا- مرق في شي يوم من جانب المصنع، أو أنّ كلبته الشقراء التي تجرها خادمته السيريلانكية بوّلت على مدخل المصنع- أو شيء من هذا القبيل، لا أذكر تمامًا، فسامحوني. لقد تهرّب قريع وتهرّبْنا نحن، كفلسطينيين على اختلاف جوازات سفرنا، وانعدامها، من الخروج في تظاهرات ضد الفساد الذي تمثله هذه القطاعات، ولم نقلب الدنيا ونقعدها في سبيل كنسِهِ –هو وغيره- سويةً مع موبقات الاحتلال!
ولكنّ الفرصة متاحة الآن. فقرار محكمة العدل الدولية الأخير هو قرار ممتاز لنا كفلسطينيين، وهو في ذات الآن جديٌ وملزم إلى درجة تجعلني أشعر بالقلق الشديد من مسلكياتنا كفلسطينيين في المرحلة القادمة- وهي مرحلة جديدة لا شك على عدة مستويات. فهناك حاجة الآن لقيادة شعبية موحدة تلقي جانبًا كل الرموز الغبية التي وقع بها الشعب الفلسطيني: رئيس دولة فلسطين (وليست هناك دولة)؛ رئيس حكومة فلسطين (وليست هناك حكومة)؛ وزراء حكومة فلسطين (وليست هناك وزارات)؛ أجهزة أمنية كثيرة (17 عددها) وليس هناك أجهزة ولا أمن. لقد تحوّلت المدن الفلسطينية إلى غابات وحشية، يقوم فيها بعضٌ من أعضاء الفلسطينية المرتزقين ومدفوعي الأجور من أموال الإغاثات، بقتل من لم يستطع قتلَه جيش الاحتلال، في سبيل قبض “معاشات المقاومة”! الفلسطيني الصامد يبكي كل ليلة على أصوات معدات أطفاله الفارغة. فهل من يسمع سوى الخمسة عشرة قاضيًا في لاهاي؟
(2)
لا بدّ من الإشادة –ولو بقليل من التأخير- بدور النائب عزمي بشارة ورفاقه المضربين عن الطعام والمعتصمين في الخيمة (حتى لو كلّفني هذا مقالاً عصبيًا مراهقًا في “الاتحاد”، رفيقة دربي). فالإشادة تأتي بالأساس لنجاحهم في تحقيق ولو القليل من إعادة دور القيادة الكلاسيكي الذي افتقدناه –هنا وهناك- في تأليب الرأي العام والمبادرة لخطوات فيها من الفعل أكثر من الردّ ، بكثير. خاصةً أن “التجمع الوطني الديمقراطي” كان الجهة الفلسطينية الوحيدة من ربوع فلسطين التاريخية (وللأسف. وين الملايين؟؟) الذي قدّم مذكرة موقف للمحكمة الدولية، وهي المذكرة التي تبناها بحرارة أمين جامعة الدول العربية. ولعلّ الاضراب عن الطعام يزيد بقناطير مُقَنطرَة عن أيّ استجواب ضد الجدار أو نقاش في الهيئة العامة للكنيست، لأنّ هذه الوسائل البرلمانية الهزيلة تحوّلت منذ زمن إلى فرصة نادرة –ليس إلا- لغالبية النواب العرب للظهور على شاشة مُتلفزة ما، وهم يصرخون تجاه شارون وحناجرهم مُندلعة: “أنا بوَرجيك عند الماما”!
(3)
كُتبت التعليقات وحُكي أكثر منها وأمْلِلَ الكثير الكثير منها، عن هذا الاضراب الذي بدأه بشارة، كما أنّ البعض لم يكتب أيّ شيء ولم يُعقّب بأيّ شيء- ولا أعرف أيهما أخطر كرسالة موجهة إلى وعي الناس ولا وعيهم. وأهمّ ما جاء في هذه أنّه عمل انفرادي واستغلال للظروف من أجل تحصيل المكاسب- الاعلامية على الأغلب. وكأنّ السعي من أجل لفت نظر الاعلام المحلي (على الرغم من تعتيمه) والعالمي إلى قضية الجدار صار موازيًا في عاره وشناره كمن يمسكونه على ولد! وكانت أظرف التعقيبات في هذا السياق -لا شكّ- أنّ بشارة فتح إضرابه عن الطعام لكي “يعمل ريجيم” ويخبط عصفورين بحجر. وعندها كان الرواة يروون هذه التهابيل ويهزّون كروشهم (الفعلية والمجازية) التي بحاجة إلى ريجيم حقيقي (ومجازي)، وهم يضحكون بفخرٍ على عِظَم مداركهم وحنكتهم المِسبارة السبّاقة، في تقييم الأمور سياسيًا وإعلاميًا. يعني: “عارفينلو”. طيب وإذا كنتم “عارفينلو” لماذا لم تهزّوا كوارعكم قبله؟ ومتى أصبح الذكاء الاعلامي واختيار التوقيت السليم للفت الانتباه مؤامرة، تمتدّ عُراها لا شكّ صوب السي آي أيه وتنتهي بمقدرة الله -رفيق درب الكثير من الرفاق اليوم- في خنادق البوليس السري في موزمبيق؟؟
(4)
لعلّ أكثر ما برز في هذه التعقيبات مقال وصلني عبر الأيميل، كتبه مأزومٌ يدّعي أنه فنانٌ، نشره عبر البريد الالكتروني مُعتمدًا (وبحق) على شبكة الدسّ والنقل العربية في الانترنت لنشر مقاله بأسرع من البرق. وهو نشره بهذه الطريقة لأنّ جريدة حزبه لم ترضَ بنشره له (تصوّروا: حتى جريدة حزبه لم ترضَ بنشر هكذا مقال- وهذه نقطة في صالح الصحيفة حقيقةً ومن دون أية سخرية)، فقرّرَ أن يستغلَّ التقنيات الانترنتية التي أهدانا إياها العم سام (ورامسفيلد وجورج وغيرهم) لينشر هُبّلياته على الملأ الشبكي المُتخيّل. لقد وصل الهوس بالبعض إلى درجة الاستماتة في “الكشف” عن “عورات” بشارة ورفاقه، بأيّ ثمن، وتحت أيِّ تجنّنٍ وافتراء. في لحظات الضيق والبكاء على أطلال ما تبقّى لنا من حنين على بعضنا البعض، أقول بغضب وحرقة: نحن أمة أمَةٌ! لأننا عبيدٌ لمصالحنا الضيقة ولمكاسبنا الحزبية. وإلى أن نُشفى من غبائنا هذا، أدعو الجميع إلى شحذ هممهم للردّ بشراسة أكبر على الخطوة الذكية القادمة التي سيقوم بها بشارة. فقد عوّدتمونا على هذه الحلقات المسلسلة، وصرنا لا نعرف العيش من دونها.
(5)
لماذا الحديث عن هذا الآن؟ لأنه يبدو فعلاً أننا أمّة أمَة. مع أنّ شاعرنا الدرويشي قال إننا لسنا أمة أمَة، وبعث لابن خلدون احترامه (يُنظر إلى قصيدة “على حجر كنعاني في البحر الميت” لمن يحبّ التعمّق في المعاني). وأنا من هنا أبعث لابن خلدون احترامي وأخبره بأنّ مقدمته صارت مؤخرةً وبأنّ من يدقّ على الخزان ولو من باب أضعف الأيمان، صار يُدقّ على رأسه بمطارق الغيرة والبغضاء. فكيف تجرّأ هذا الذي، على أن يبدأ بإضرابٍ عن الطعام، ولم يدعُنا؟؟ وكأنّه ذاهب إلى منسفٍ عربيٍ أصيلٍ؛ وكأنه سائسٌ في حظيرة هذا الوطن، عليه كلما خطط لتظاهرة ما أن يدعو المحبين و”أهل العرس” ووجهاء القبيلة إلى جاهة الاحتجاج، على أنهم ضيوف مُعزّزين.
وقد كان بالامكان أن تُفهم هذه الشكاوى من “الانفرادية في العمل” لو أنّ منتقدي خطوته هذه كانوا يحرثون الأرض ذهابًا وعودةً، ليلَ نهارَ، صيفًا وشتاءً، ويبعثون ببرقيات الدعوة إلى بشارة ومن أضرب معه، فكان أولئك يخنثون فلا ينضمون إلى حملاتهم المستعرة. فقبل خيمة الاضراب لم يُسمع عن حزب عربي أو حركة عربية عوّق عليهم بشارة ورفاقه حماسَهم النضاليَّ وخطف الكاميرات الموجهة إليهم وهم ينامون عِرق الجدار الفاصل العنصري، يتأبّطون حرًا وقرًا وجوعًا. ولولا نشاط حركة “تعايش” الرائعة، التي علينا كلنا أن نحني هاماتنا أمامها، لما خرج ابن امرأة (ورجل) ضد الجدار، من قلب الخمول الجماهيري بين الفلسطينيين في إسرائيل.
المشكلة العويصة أنّ نفس المنتقدين كانوا سيهاجمون بشارة لو لم يقمْ بهذه الخطوة ويتهمونه بأن “مثقف مُتعالٍ لا يخرج إلى الشعب”. وإذا صرنا مُتحيّرين من أية جهة يُباس الأقرع، فليُخبرْنا على الأقل من أية جهة سيشتم في المرة القادمة!
(نشرت هذه المادة في “فصل المقال، آب 2004)