خارج الشرعية، خارج السياق (2)
سلسلة قراءات في الأبواب المتعلقة بالمُحذّرين العرب ولجنة المتابعة في تقرير “لجنة أور”
النائب عبد المالك دهامشة
في إستعراضها للبند المُخصص للمُحذّرين العرب في تقريرها الذي نشر مؤخرًا، ذكرت لجنة التحقيق الرسمية “لفحص الصدامات بين قوات الأمن وبين مواطنين إسرائيليين في أكتوبر 2000″، أن اللجنة في تعرضها للنائب عبد المالك دهامشة، فحصت ما يلي: “… السؤال الذي يواجه اللجنة هو ما إذا كان النائب دهامشة دعا الوسط العربي إلى المقاومة العنيفة وما إذا كانت هذه الأمور متعلقة بأحداث العنف التي وقعت في أكتوبر”. (ص 532- كل الإقتباسات الواردة في المقالة مأخوذة من التقرير الرسمي الصادر عن اللجنة). في تطرّقها لهذين الأمرين وجدت اللجنة النائب دهامشة “مذنبًا مع سابق الاصرار والترصد” (الصياغة شخصية). فيما يلي ما اعتمدته اللجنة في تقريرها، والتعقيب السريع عليه:
– هدم البيوت: حاولت اللجنة من خلال رصدها لتصريحات النائب دهامشة، فحص مدى تأثير هذه التصريحات حول هدم البيوت، على المواطنين العرب وتصرفاتهم في أكثر من موقع. المثال الأول الذي تورده اللجنة يأتي بعد أعمال العنف والمواجهات التي وقعت في اللد في حزيران 1999، على خلفية هدم بيت من دون ترخيص. وهناك أقتبس دهامشة بقوله “إن الجمهور العربي مستعد لكل نضال ولكل مسّ في إطار النضال على الأراضي العربية… حكومات إسرائيل لم تُنهِ حتى اليوم الحرب معنا. ما زالت حرب 1948 مستمرة. وهم يريدون طرد كل العرب من بيوتهم ومن أراضيهم..”. في قراءة أولية لهذا التصريح يمكن فهم ما أزعج أعضاء اللجنة فيه. ولكن في قراءة ثانية وثالثة، ألا يمكن القول إن حرب 1948 ما زالت مستمرة فعلا، في الضفة وغزة ظاهريًا، وفي الداخل على المستوى الثقافي والحياتي والوجودي؟ ثم أن إسرائيل تسعى بالفعل لإخراج أكبر عدد من العرب من داخل حدودها، وآخر هذه المحاولات (المكشوف منها) هو إقتراح إفرايم سنيه (حمامة “العمل”) إستبدال عرب المثلث بمستوطنات!
في هذا السياق وفي سياق كل الاقتباسات الآتية تتطرق اللجنة دائمًا إلى ما تسميه “الدعوة لمواجهة الشرطة وحرس الحدود”. اللجنة تتجاهل في كل المرات أن الشرطة وحرس الحدود تدخل قرانا ومدننا لتهدم بيوتنا، وتشغّل من أجل ذلك كل وسائل القوة والعنف. هل ترى اللجنة أن رد العرب يجب أن يكون بتقديم كؤوس المياه لهم؟ الدفاع عن البيت هو حق مقدس، وكما صاغه النائب محمد بركة في حينه: “الحق في المأوى أهم من طاعة القانون”. يريدون من العرب أن يختنقوا في بيوتهم المكتظة وأن يحتملوا هراوات العسكر القادمين لهدم هذه البيوت بإسم القانون المميز ضدهم أصلا. لا يوجد عربي في هذه البلاد يشكك فيما قاله دهامشة، من باب الدفاع عن النفس، وبالتالي فإن عامل التحريض في مثل هذه التصريحات لاغٍ بالضرورة. من واجب القيادة أن تعبر عن نبض واحتياجات الشارع- وهذا ما تفعله.
في سياق هدم البيوت تورد اللجنة أمثلة أخرى، مشابهة في جوهرها، مثل: نية هدم ثلاثة بيوت في سخنين في نهاية أيار 2000؛ نية هدم بيت في أم الفحم في مطلع أيلول 2000؛ وأيضًا، وبالتأكيد، تصريح دهامشة في إجتماع لجنة المتابعة بتاريخ 13 أيلول 2000، بـ “كسر أيدي وأرجل الشرطيين الذين يأتون لحراسة عملية هدم البيوت غير المرخصة في الوسط العربي”. (ص 533). في هذا المثال تورد اللجنة مسوغات واهية حول إلغاء عنصر الدفاع عن النفس من تصريح دهامشة واعتباره دعوة واضحة للعنف كخطوة مبادَر لها. هذا لاغٍ بالطبع لأن تصريح دهامشة، في صيغه المتعددة والكثيرة، يتطرق إلى حملات مخطط لها سلطويًا تستهدف التعامل مع إنعدام الأراضي والتمييز في الترخيص بواسطة كفة البلدوزر.
– مصادرة الأراضي: في هذا الصدد تعتبر اللجنة أن النائب دهامشة ربط أكثر من مرة بين أحداث جرت مؤخرًا وبين “يوم الأرض” في العام 1976. ومع أن اللجنة اعترفت (ص 536) بأن هذا الموضوع هو أكثر المواضيع أيلامًا للعرب في الداخل، إلا أنها انتقصت من شرعية القيادة العربية بالتصريح والتعامل مع هذا الموضوع بما يليق من الحدة والوضوح أمام هذا التهديد. وللتأكيد تورد اللجنة: “إذا لم تغيّر السلطات من سياستها فسيقع إنفجار غضب عند الجمهور الفلسطيني في الداخل”. أليس هذا صحيحًا؟ ألا يقوله كل عربي وكل يهودي عاقل منذ أكثر من عشر سنوات؟.. ما المشكلة هنا؟
– المسجد الأقصى: في هذا الباب تورد اللجنة الكثير من الأمثلة حول تصريحات للنائب دهامشة يحذر فيها من المسّ بالأقصى والاستعداد لتقديم الشهداء في حالة المس به، وهو مستعد لأن يكون أول شهيد من أجل ذلك. يبدو من خلال قراءة الأمثلة أن لا مشكلة في قبول صياغاتها- ظاهريًا على الأقل. المشكلة الأساس في هذا الباب هي نفي الشرعية الأساسية والمبدئية المحفوظة لدهامشة ولمسلمي الديار بالتمسك بأماكنهم المقدسة. لا يوجد يهودي متدين غير مستعد لتقديم روحه من أجل “هار هبايت”، كما الحال عند المسلمين المتدينين. من حق دهامشة أن يفصح عن أيمانه ومعتقداته وما يفكر به ويحس به تجاه ذلك. أنا شخصيًا غير مستعد للموت من أجل الأقصى، ولكن سيكون من الاجحاف والقمع منع أي شخص من فعل ذلك، أو قول ذلك. القيم المطلقة التي يتبناها كل شخص، في أساليب حياته ومعتقداته، هي أموره الخاصة، ما لم يضر بغيره. هنا يُطرح السؤال: هل شكلت تصريحات دهامشة في هذا السياق تحريضًا على الدفع للموت و”الاستشهاد”؟ من الصعب الأيجابة بنعم على هذا السؤال لأن من هو مستعد للاستشهاد في سبيل الأقصى، ليس بحاجة إلى النائب دهامشة أو غيره ليفعل ذلك!
المأخذ الأساسي الذي تأخذه اللجنة على النائب دهامشة، في نهاية تلخيصها للباب المتعلق به، هو: “.. لكن النائب دهامشة لم يُبدِ في تطرقاته المستوى الكافي من المسؤولية المتوقعة من رجل جمهور والوفاء المطلوب لسلطة القانون، خاصة وأنه رجل قضاء وبرلماني. أقواله تشجع على التوجه للعنف وهي تُقال بأسلوب حاد مثل “كسر الأيدي والأرجل” وعمليات “شهداء”. وبهذا ساهم في تأليب العواطف قبل الأحداث العنيفة في أكتوبر 2000 وخلالها”. (ص 541)
على الرغم من وعي اللجنة لموقع النائب دهامشة القيادي ولزوم تعامله مع القضايا الحارقة الخاصة بجماهيره، وريادتها على كل الأصعدة، فإنها تتهمه بعدم المسؤولية لفعله ذلك، وعدم إلتزامه كفاية بالقانون. المتوقع من نائب منتخب وقائد جماهيري أن يفعل ما فعله دهامشة حتى الآن. إذا كان في ذلك مشكلة بالنسبة للجنة وللدولة فليغيّروا ديمقراطيتهم.
الشيخ رائد صلاح والحركة الاسلامية- الجناح الشمالي
تمامًا مثلما أوردنا ما حدث مع النائب عزمي بشارة و”التجمع” (“فصل المقال”، 5 أيلول الجاري، ص 14)، فإن الباب المخصص للشيخ رائد صلاح، كمُحذّر من جانب اللجنة بحسب البند 15، يشمل الشيخ صلاح نفسه، بالاضافة إلى حركته السياسية. لهذا مغزيان: الأول، وهو إلصاق التهم بالنهج العام الذي تتبع له الشخصية المحذرة، وعدم الاكتفاء بتطرقات عينية؛ والمغزى الثاني، والأهم في نظري، هو إلصاق التهمة بقياديين آخرين في الحركة، ممن وردت إقتباسات على ألسنتهم في الاستعراض، قد يسدوا مسد الشيخ صلاح أو يتولوا مهامًا مستقبلية عنه، وبالتالي يمكن القول مستقبلا إن “العنوان كان على الحائط”.
في تطرقها للشيخ صلاح طرحت اللجنة الأسئلة التالية: “هل مرّر الشيخ رائد، في الفترة التي سبقت أكتوبر 2000 وخلالها، رسائل، أو كان مسؤولا عن تمرير رسائل، لتشجيع إستخدام العنف والتلويح به كطريقة لتحصيل مطالب الوسط العربي والمسلم في دولة إسرائيل، وما إذا كان شغّل نهجًا من البروبغندا المتطرفة لتأليب العواطف حول موضوع الأقصى الحساس، ومن ضمن ذلك تحت إدعاء وقوع مجزرة مخططة هناك، وما إذا كان مرّر رسائل تنفي الشرعية عن دولة إسرائيل”. (ص 542)
– “دعم العنف”: اللجنة تبدأ بمثال عمّا حدث في المواجهات الصعبة مع الشرطة في “أحداث الروحة”، حيث “شوهد صلاح وهو يشجع المتظاهرين بنداءات تحميسية.” (ص 542). كما أنه كال المديح لما حدث هناك بعد إنتهاء الأحداث، ووصف الأحداث بأنها “تجربة مُقَوية”. (ص 542). كما أنه دعا، بحسب اللجنة، “الجمهور العربي في إسرائيل إلى مواجهة السلطات.” اللجنة لا تتطرق لطبيعة المواجهات وطابعها. بالنسبة للجماهير العربية في الداخل، وقاموس ومصطلحات العمل الجماهيري العام، فإن المواجهة تشمل تنظيم مظاهرات عادية ومرخصة وتشمل الاعتصام مقابل مبنى رئيس الحكومة في القدس وتشمل حملات تبرعات وتشمل الكثير. تعامل اللجنة مع كلمة “مواجهة” في هذا السياق على أنها دعوة للجهاد مثلا وفقط، هو تعامل مسطح وفيه الكثير من التغييب لإمكانيات العمل الجماهري الشرعي. كما أن اللجنة تتهم صلاح بدعوته العرب لـ “المبادرة” بدلا من الاكتفاء برد الفعل. ما قيل الآن عن “المواجهة” يسري أيضًا على “المبادرة”.
– “الأقصى في خطر”: اللجنة ترى في تنظيم مهرجانات “الأقصى في خطر” “النشاط الأبرز للشيخ صلاح وأنه كان حملة سياسية واسعة.” (ص 543) اللجنة تتعامل مع دعوة الشيخ صلاح لحماية الأقصى والذود عنه من مؤامرة إسرائيلية سلطوية تماديًا وتجاوزًا للعمل الشرعي. ولكن، أليس من حق قائد جماهيري ذي شعبية واسعة أن ينذر جماهيره ومؤيديه من إحتمالات لمخاطر، حتى لو لم تثبت صحتها مئة بالمئة؟ أليس ذلك واجبه الذي يُفرض عليه من مجرد كونه ممثلا لهم؟ أعضاء ومؤيدو وداعمو الحركة الاسلامية يرون في الأقصى رمزًا دينيًا رفيعًا. كل تعامل مع موضوع “الأقصى في خطر” خارج هذا السياق هو تعامل أمني ومحكوم بنظرة تسطيحية ومغرضة.
وإضافة، أوردت اللجنة أمثلة على لسان من سمتهم “نشطاء كبار” من الحركة الاسلامية أعربوا عن إخلاصهم لقضية الأقصى وورود إحتمال الشهادة وسفك الدماء دفاعًا عنه. مرة أخرى نعود إلى قضية الأيمان الخاص بكل إنسان وحقه في التعبير عنه. من واجب الدولة فهم هذه الدوافع وتذويتها، ومحاولة إستيعابها كما يليق بأية ديمقراطية متنورة، بدلا من تحويلها إلى سوط تجلد به من يؤمن بذلك.
– شرعية دولة إسرائيل: أوردت اللجنة في تقريرها: “على الرغم من حذرهم في موضوع شرعية دولة إسرائيل، وشعورهم بأنهم يقيمون علاقات متبادلة عملية مع مؤسساتها، إلا أن الشيخ صلاح ورجال حركته لم يمتنعوا دائمًا عن الإدلاء بتصريحات تحوي فيها ما يمكن أن يُفسر كإلغاء الشرعية (عن دولة إسرائيل).” (ص 545) وتضيف اللجنة: “في نظرهم، ليست إسرائيل إلا فلسطين المحتلة عام 1948”. (ص 547). وما المشكلة هنا؟ أليست إسرائيل تقوم على أنقاض أرض فلسطين التاريخية؟ هل كون إسرائيل القوية والمهيمنة يعطيها الحق بإلغاء التاريخ؟ بغض النظر عن الاعتراف بدولة إسرائيل أم لا (وهو سؤال غبي في جوهره: إذ كيف يمكن ألا تعترف بأمر واقع تعيش فيه؟؟)، فإن التاريخ الذي سبق قيام دولة إسرائيل هو تاريخنا ووجودنا. على الدولة أن تفهم ذلك، كما عليها أن تفهم أن لا تناقض بين من يقول إن إسرائيل أمر واقع وشرعي وإنها تقوم في نفس الوقت على أنقاض فلسطين التاريخية. على أنقاض من تقوم إذًا؟ على أنقاض أوغاندا؟
* * *
لم يكن الهدف من التطرق إلى ما ورد في تقرير “لجنة أور” الاستعراض الشامل والوافي لما قيل وكتب عن المُحذّرين العرب الثلاثة. الهدف الأساسي كان محاولة توضيح أمر أساسي مشترك للحالات الثلاث: أن لجنة التحقيق الرسمية (كما المؤسسة الاسرائيلية) لم تستطع الترفّع عن مظاهر أجواء التحريض على القيادة العربية السياسية الشرعية، ولم تقوَ على التخلي عن النظرة المسبقة إليهم بهذا المنظار. ما يبعث على إستفظاع هذا التوجه، على الرغم من أنه مسبوق وبكثرة، هو إرفاقه بفصول أخرى “جيدة” للعرب: فصول عن المساواة وعن الأراضي وعن فشل وتعفن الشرطة. وبإسم التوازن الأزلي في هذه الدولة، سيُقبل تقرير “لجنة أور” على أنه تقرير “جيد”، على الرغم من أنه في العديد والغالب من جوانبه سيء جدًا. سيء في الكتابة العينية والصياغات التي تكرس وتخلد التحريض والتهميش اللاحقين بالعرب وقيادتهم؛ وسيء من ناحية الخطاب العام المضمّن في التقرير والذي ينبني في الأساس، وأولا وأخيرًا، على المساواة بين الضحية والجلاد.
من أجل حماية أنفسنا من مغاب هذا التقرير الاشكالي، علينا أن نتبنى خطاب “التقرير سيء جدًا، مع بعض الأيجابيات”، بدلا من “التقرير جيد جدًا، مع بعض التحفظات”. هذا مطلوب لكي لا نُنعت بالمنافقين في المعارك الجماهيرية القادمة التي ستواجهنا بها المؤسسة بما جاء في “تقرير أور”، الذي طبّل العديد منا وزمّر له!
(يتبع)
(نشرت هذه المادة في “فصل المقال، أيلول 2003)