الاعلام في خدمة من؟؟
علاء حليحل
قرر مجلس الصحافة الاسرائيلي، أمس الأول الأحد، أن يجري متابعة من طرفه، وراء ما يحدث في سلطة البث الاسرائيلية . يأتي هذا القرار في أعقاب معلومات وأخبار ترشح مباشرة لمجلس الصحافة عن المسّ بالحرية الصحفية المهنية في سلطة البث، وطالب “المجلس” بتزويده بمعلومات عن تدخل إدارة سلطة البث في العمل الصحفي. “المجلس” وعد من يفعل ذلك بالحفاظ على سرية هويته، خوفًا على سلامة موقعه!
سلطة البث الاسرائيلية هي هيئة جماهيرية، تتمول من رسوم سنوية يدفعها كل من يملك جهاز تلفزيون أو راديو، وذلك بهدف ضمان إستقلال السلطة عن التمويل الحكومي. ولتأكيد هذا الفصل بين المؤسسة الجماهيرية وبين السلطة التنفيذية، تدير هذه السلطة هيئة عامة مكونة من (31) عضوًا، (30) منهم شخصيات جماهيرية بارزة تعكس شرائح المجتمع المختلفة، وممثل واحد عن الوكالة اليهودية. في الهيئة العامة اليوم عضوان عربيان: عاطف كيوف والمحامية مها منصور علي. لماذا إذًا هناك حاجة لإجراء متابعة وراء جهاز جماهيري مستقل، يديره مهنيون اعتباراتهم من المفروض أن تكون مهنية فقط؟.. القصة تبدأ منذ فترة طويلة، ولكنها تحددت وتبلورت حتى النهاية، بعد تعيين يوسف برئيل مديرًا عامًا للقناة الأولى (سلطة البث مسؤولة عن القناة الأولى، القناة 3، الفضائية الاسرائيلية، صوت إسرائيل بالعبرية وصوت إسرائيل بالعربية. ستجدون الكثيرون ممن سيقولون إن صوت إسرائيل بالعربية يتبع لقسم الاعلام في “الشاباك” الاسرائيلي- ولكن هذا باب آخر).
برئيل شارون
في الثامن والعشرين من أيار 2002، صادقت لجنة التعيينات في الدولة على تعيين يوسف (جو) برئيل مديرًا عامًا لسلطة البث، على الرغم من المعارضة غير القليلة لتعيينه، على خلفية سنه الكبيرة. ولكن المعارضات كانت في الأساس خشيةً من تحويل سلطة البث الجماهيرية إلى أداة طيّعة في يد حكومة شارون. برئيل لم ينفِ يومًا أنه مقرب جدًا من شارون، وفي لقاء صحفي بعد المصادقة على تعيينه، قال إنه سينفذ بالضبط ما يطلبه منه شارون، “فمن أنا لكي أعرف أكثر منه؟” تساءل برئيل. دولة إسرائيل قد تكون الدولة الديمقراطية (صوريًا على الأقل) الوحيدة في العالم التي تستولي فيها الحكومة على سلطة البث الجماهيرية، الكلب الشرس الذي يحرس الديمقراطية، ولا تهتز الأرض. تصوروا لو أن بلير فكّر في أجمل أحلامه في أن يستولي على الـ “بي بي سي”، ما الذي كان سيحصل في بريطانيا؟.. وبالذات في فترة إنتخابية حاسمة؟.. غياب سلطة البث كجسم قوي ومستقل تجعل الانتخابات في رُمّتها طقسًا تخليديًا للحزب الحاكم، دون طرح الأسئلة الصعبة وغير الشعبوية على الحكومة وممثّليها. هناك علاقة مباشرة وقاطعة بين ما يحدث في سلطة البث، وبين ما تتحول إليه هذه الدولة: ديمقراطية سطحية، من دون جوهر متين، ومن دون ثقافة ديمقراطية متجذرة تضفي على التصويت في الصناديق معنىً إضافيًا يتجاوز فعل إسقاط الورقة في الصندوق.
هذا التعيين جرى في زمن حكومة “الوحدة القومية”، عندما كان رعنان كوهين (“العمل”) متوليًا لملف سلطة البث. بعد إنفراط عقد هذه الحكومة انتقل ملف سلطة البث إلى أيدي شارون، ومن يومها يدير شارون حملة شرسة، بواسطة برئيل، لتسخير الاعلام الجماهيري في الدول لمصالحه ومصالح الحكومة، والمصالح الانتخابية. في الخامس من آب السنة الماضية اجتمع موشيه هنغبي، المحلل القضائي في سلطة البث، إلى برئيل للبت في ظروف تشغيل هنغبي. هنغبي أنهى وقتها ثلاثين عامًا من العمل في القناة الأولى وصوت إسرائيل، وعند الاجتماع كان مضى على انتهاء عقده الرسمي شهران. برئيل رفض تجديد عقد هنغبي بدعوى ضرورة التقليص، على الرغم من أن هنغبي أبدى إستعداده لتخفيض جزء كبير من معاشه. هنغبي يعمل اليوم بحسب اتفاق “فري لانس” مؤقت. لماذا هذا المثال؟.. لأن هنغبي يمثل كل الاعلاميين والصحفيين والمحررين الذي كانوا مخلصين للأمانة والاخلاقيات الصحفية، ووجدوا أنفسهم مهمّشين أو خارج سلطة البث بتدبير من برئيل. منذ توليه هذا المنصب، يبدو برئيل كمن جاء من دهاليز “التلفزيون العربي الاسرائيلي” المخابراتي، ليرتّب أوراق القناة الأولى وصوت إسرائيل: من ليس معنا فهو ضدنا!
لا للدروز!!
رفيق حلبي، مدير قسم الأخبار في “القناة 1″، حتى قبل أسبوعين، ومنذ ست سنوات، هو المثال الطازج الأخير على ما يحدث في التلفزيون والراديو الاسرائيليين تحت إمرة برئيل والمسؤولين عنه. حلبي تدرّج من وظيفة المراسل في المناطق المحتلة، مرورًا بوظيفة محرر إخباري، إلى نائب محرر “مباط”، فالنشرة الاخبارية المسائية، فمحرر “مباط”، وانتهاءً بإدارة قسم الاخبار. في نهاية الأسبوع الماضي نشرت جريدة “كولبو” الحيفاوية المحلية لقاءً صريحًا وغاضبًا مع حلبي، إبن دالية الكرمل. فيما يلي إستعراض لأهم ما جاء في هذه المقابلة، التي تشكل مرجعية لتجنيد الاعلام الجماهيري لمآرب حكومة “الليكود” ومصالحها الانتخابية والمؤسساتية:
منصب مدير التلفزيون: حلبي قال إن شارون فرض فيتو قاطعًا على تعيين درزي لمنصب مدير التلفزيون. حلبي رأى في ذلك القشة التي قصمت ظهره. أمس الاثنين، لم يقرر أعضاء لجنة العطاءات في سلطة البثّ في إختيار مدير للتلفزيون، بين المرشحين يوني بن مناحيم، مرشح شارون، وبين الصحفي رون بن يشاي. حلبي يقول إن يعقوب بيري (رئيس “الشاباك” السابق) وفؤاد بن إليعيزر حاولا إقناعه طيلة الوقت بأن المجتمع الاسرائيلي غير مهيأ بعد لأن يكون درزيًا مديرًا للتلفزيون الاسرائيلي. هذا يؤكد مرة أخرى أن سقف قبول العرب الدروز في الدولة هو محدود جدًا، وهم في النهاية كتلة جنود أو كتلة أصوات. نحمان شاي (المدير العام السابق لسلطة البث) وران غلينكا (مدير سابق أيضًا) دعّما أقوال حلبي.
شلّ العمل الصحفي: 17 عاملاً وصحفيًا تركوا قسم الاخبار وبرئيل لم يصادق على تعيين أحد بديل؛ ليس هناك اليوم مراسل للمناطق المحتلة؛ شلومي إلدار حضر تقارير نقدية جدًا حول الوضع في المناطق ومُنع بعدها من تحضير أي تقرير وهو اليوم في “القناة 10″؛ المراسل بِن شاني حصل معه نفس الأمر؛ المراسلون والمحررون فقدوا كل رغبة في التجديد والمبادرة لأنهم يعرفون الثمن.
منع المعلومات والحقائق عن الناس: الهدف النهائي لبرئيل والحكومة هو بناء فلتر “لا يخرّ المياه”، لمنع المشاهد الاسرائيلي من الانكشاف لمعلومات تأتي من المناطق المحتلة، وهذا مريح جدًا للحكومة خاصةً في فترة الانتخابات. من لا يخضع لهذه الاملاءات مكانه في الخارج.
حتى هنا أهم وأبرز التفاصيل العينية والتطورات منذ سنة ونصف السنة. في هذه الفترة إستطاع شارون أن يحوّل سلطة البث إلى بوق إعلامي دعائي لكل شيء. برئيل اتصل بمحرر برنامج “بوليتيكا” الذي يقدمه دان مرغليت وطلب منه عدم التحدث في البرنامج عن قضية الرشاوى في “الليكود”. الكثيرون يروْن في برئيل مبعوثًا للسلطة في المؤسسات الاعلامية. برئيل كان من الطاقم المؤسس للفضائية الاسرائيلية الجديدة التي تهدف لمحاربة الفضائيات العربية في العالم
إنتخابات واهية
القضية الأخيرة التي برزت بوضوح هي خطاب شارون المباشر في المؤتمر الصحفي الذي عقده قبل أكثر من عشرة أيام. بعد الدقائق الأولى فقط عرف كل المحررين في القنوات التلفزيونية أن شارون يبث دعاية إنتخابية ضد “العمل”، بدلاً من الاجابة على الأسئلة حول قضايا الرشاوى. “القناة 10” فقط أخذت تضيف تعليقات على الهواء بأن ما يفعله شارون هو دعاية إنتخابية. إذا فهمنا منطلقات “القناة 2” التجارية، وحبّها في الريتنغ، فكيف نفسر صمت الخراف في غرفة التحرير في “القناة 1” في تلك اللحظة؟ هل صارت نتيجة كل التطورات الأخيرة المذكورة أعلاه، هي ألا تجد محررًا واحدًا في قناة البث الجماهيرية، لا يجرؤ على وقف بث مؤتمر انتخابي مخالف للقانون؟.. قد يبدو للبعض أن هذه صغائر لا تدل على شيء. ولكن المتتبع للمجريات، يعرف أن هذه ليست صغائر؛ بل هي مؤشرات على الإختلالات الجوهرية التي تمر بها المؤسسة الاسرائيلية. الخطير جدًا في هذه الاختلالات أنها لا تكاد تعني أحدًا. وإذا كانت الديمقراطية الاسرائيلية المدعاة بهذه الهشاشة، فلن يكون بعيدًا اليوم الذي ستعلن فيه الحكومة سيطرتها التامة على سلطة البث بدعوى العجز المالي المزمن الذي تعاني منه. عندها ستعلو الأصوات المؤيدة لذلك، بدعوى النجاعة والاصلاحات، ولن يتحدث أحد عن هذا الموضوع في الانتخابات، كما لا يتحدث أحد عنها في الانتخابات التي نمر بها.
النجاح الكبير لشارون وحكومته ليس في خصي سلطة البث كمؤسسة صحفية مهنية، وإنما في القيام بذلك دون أن يصدر كلب الديمقراطية أي صوت، ودون أن تنبح كلاب اخرى، في حديقة الحيوان الكبيرة التي نحيا فيها!.. هذه الانتخابات واهية، وليس أنها لن تغير شيئًا، بل إن إعادة ختم شرعية شارون وحزبه ستعطيه شيكًا مفتوحًا للمضي قدمًا. وعندها لن تجد الديمقراطية الاسرائيلية من يحضر التقارير عن ذلك..
(نُشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” في كانون الأول 2003)