هزيمة المبدعين
علاء حليحل
تطور في السنوات الأخيرة تيار داخل المجموعة الثقافية الاسرائيلية، رفض ضلوع الفنانين والمبدعين، على إختلاف مجالاتهم، في السياسة، وجذّر مناهج من التهرب من الأمور الحارقة في الدولة، ومناهج من التركز في الذات، على مستوى المجموعة نفسها. وقد تحوّلت كلمة “سياسة” ومشتقاتها إلى ما يشبه الشتائم، تُلقى في وجوه آخر الذين ما زالوا يتجرأون على السماح لأنفسهم بالتعبير عن آرائهم، بصدد ما يجري هنا. “السياسي” تحول إلى “يساري” (شتيمة أخرى)، والانغلاق سيد الموقف.
الفنان، على إختلاف مجالات نشاطه وعمله، يتوقف عن كونه كذلك، عندما يتنكر لكونه جزءًا حيًا من المكان الذي يعيش فيه. عندها يتحول إلى حرفي عادي، ككل الحرفيين. ليس الهدف هنا التقليل من شأن الحرفيين، ولكن عند تحوّل رجالات وسيدات الثقافة إلى حرفيين فقط، فإنهم يفقدون الحق في الادعاء أنهم يستحقون “إمتيازات” تنبع من خصوصية رسالتهم.
الثقافة في كل مجتمع هي إنعكاس له، وهي قلبه الدافق، وليست، بأي شكل من الأشكال، الملاذ الأخير لطالبي الترفيه من الخارج، ولطالبي الامتيازات من الداخل. هذا الأمر يكتسب بعدًا أعمقَ في العمل المسرحي. فالمسرح بلا سياسة، فعلاً ومضمونًا، هو مسرح مخصي وعقيم. في سبيل الضحك والترفيه يمكن فتح التلفاز في ساعات المشاهدة القصوى. ولكن في سبيل تعاطي النقد والأسئلة والترددات الحارقة- يجب الذهاب إلى المسرح. هذا ما كان دومًا، وهذا ما يجب أن يكون.
ويشكل رفض أعضاء “مركز الكفاح من أجل إنقاذ الثقافة” الربط بين وضعهم الصعب وبين الحرب التي تديرها الحكومة الإسرائيلية والواقف على رأسها، داخل المدن الفلسطينية، شهادة فقر مزرية. من يستمع لأعضاء هذا “المركز” يظن أن الضائقة التي تمر بها المسارح الاسرائيلية تنبع، مثلا، من إرتفاع سعر صرف الدولار، وليس جراء الزيادة المطردة في العقلية العسكرية والرغبة في إبطال أية محاولة سياسية لتهدئة المنطقة. فالشيكلات التي تضخها الحكومة من أجل الحرب والمستوطنات، هي ذات الشيكلات التي تؤدي إلى إحتضار المسارح، في غيابها. وما دام هذا “المركز” يتنكر لهذه المقابَلَة علنيًا، فإن الوضع لن يتغير: حرب زائدة وغير عادلة على حساب جودة حياة مواطني الدولة والفلسطينيين. من واجب كل مخرج وممثل وكاتب أن يتحدث عن الأسباب الحقيقية من وراء أزمتهم، وهي، شاؤا أم أبوا، كامنة في الاحتلال وفظائعه.
لا يمكن التفكير في أمر يبعث على المفارقة، أكثر من مبدعين يعرضون مسرحيات نقدية وإنتقادية (“ستائر”، “ليزستراتا 2000″، “مادلين”، “أنتيغونا”)، وفي نفس الوقت، لا يقومون بالتحدث عن هذه البلاغات المسرحية عند إحتجاجهم على الصعوبة في “مجرد وجودهم”. هناك من فكّر بالتأكيد بأنه يجب إرضاء الحكم (اليميني) من أجل الحصول على بضعة ملايين أخرى. رجالات وسيدات الثقافة يتعاملون مع أنفسهم وكأنهم “قِطاع” في ضائقة، ليس إلا. هذا من حقهم بالطبع؛ ولكن من يختَرْ التعامل مع نفسه على هذه الشاكلة، ليس من حقه التذمر من تعامل مشابه يلقاه من الآخرين. قولوا منذ الآن: رجالات وسيدات الثقافة الذين يهتمون بتغطية مؤخراتهم، الذين يضحّون باستقامتهم من أجل المعاشات. أنا لا ألغي الحاجة لكسب الرزق، ولكن في اللحظة التي يتنكر فيها رجالات وسيدات الثقافة لكل شيء، من أجل هذا الهدف، فإنهم يكسرون الغصن الذي يجلسون عليه: إذا كنتم حرفيين، كأي حرفيين آخرين، فكيف سيكون بإمكانكم المطالبة بنقودكم ثانيةً بادعاء “خصوصية وأهمية” الثقافة في الدولة؟ إذا كنتم فعلا كذلك، خاصين ومهمين، فيجب عليكم ألا تخصوْا أنفسكم في معركة مهمة كهذه. وإلا، فإن أحدًا لن يتعامل معكم بالجدية اللائقة. خاصة أولئك الذين تحتجون ضدهم!
الإستقالة الجماعية المخططة في المسارح الاسرائيلية، إحتجاجًا على التقليصات في ميزانياتها، هي خطوة تملقية في جوهرها. فرجالات وسيدات الثقافة الذين يخشون من التعبير عن آراء حازمة في الدولة، في أوقات الأزمات والصراعات، لا يمكن أن يكونوا حمَلَة شعلة التنوير والتقدم؛ مكسيموم، يمكنهم أن يكونوا أجيرين موظفين يخشون على معاشاتهم. رجالات وسيدات الثقافة في إسرائيل يشلّون أنفسهم بأنفسهم. ففي اللحظة التي تفقد فيها الثقافة، على كل مجالاتها، قوتها كعنصر إحتجاجي، نقدي وتحفيزي، قُل عندها وداعًا للثقافة. مع رجالات وسيدات ثقافة كهؤلاء، كيف سيكون بالامكان أصلا التفكير بديمقراطية سويّة؟ كيف سيكون بالامكان أصلاً التعامل مع مجموعة المستقيلين هذه على أنها مُحدثة التغييرات الاجتماعية والثقافية المرجوّة؟
من واجب رجالات وسيدات الثقافة أن يشيروا إلى الوضع الحقيقي والأسباب التي أدّت لنشوئه. عليهم أن يخرجوا بنداء واضح يربط بين الاحتلال وبين الوضع المأساوي الذي تنحدر إليه الدولة. هذا واجبهم الأخلاقي، وهذا أيضًا حقهم كمبدعين. وما داموا يتنكرون لذلك، فإن إستقالاتهم لن تعود بالصدى المرجو. المبدعون، ببساطة، سيخسرون معركةً لم يحاربوا فيها البتة.
(نُشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” في آذار 2003)