“شاس” في الطريق الى الهاوية!
علاء حليحل
الاستطلاعات تعطي حركة “شاس” في الانتخابات بعد شهرين من (6) الى (9) مقاعد فقط، على الرغم من أنها تملك في الكنيست الحالية (17) مقعدًا. ماذا حصل منذ انتخابات 1984، التي دخلت فيها “شاس” الكنيست الاسرائيلي كسهم سريع، والى اليوم؟.. هل غياب أرييه درعي هو السبب الوحيد، أم أن تحول “شاس” الى حركة يمينية متطرفة أبعد كل المصوتين اليهود الشرقيين غير الحريديم عنها؟..
ها هي السياسة الاسرائيلية تلعب لعبتها المتوقعة- المفاجئة مرةً أخرى. “شاس”، حركة السفاراديم متبعي الوصايا، ستحصل بحسب التوقعات في غالبية الاستطلاعات في الانتخابات الاسرائيلية بعد شهرين، على (6) إلى (9) مقاعد فقط، بعد أن حصلت في انتخابات عام 1999 على (17) مقعدًا، وهي القوة الثالثة في الكنيست اليوم. قبل ذلك حصلت “شاس” على (10) مقاعد في 1996، وعلى (6) في 1992 و1988 وعلى (4) مقاعد في 1984. وإضافةً الى ذلك، أعلن قبل أيام عديدة عن إقامة حزب جديد هو “أهفات يسرائيل” (محبة إسرائيل)، هو في الواقع إنشقاق عن حركة “شاس” تحت لواء الراب الشهير مُوزّع البركات والحُجُب، الراب كدوري. الكثير من الأسئلة ما زالت تدور حول ماهية هذا الحزب الجديد وهل هو أصلا حزب غطاء لأرييه درعي، زعيم “شاس” المتقاعد حاليًا، بعد منعه من العودة الى الحياة السياسية إثر خروجه من السجن مؤخرًا؟ ما هو مؤكد أن هذه التغيرات السريعة في “شاس” ليست في صالح الحركة، الموجودة اليوم في حالة تفتت وانهيار كما يقول د. أمنون راز، المحاضر في جامعة النقب في بئر السبع، والمختص في شؤون “شاس” وأرييه درعي. وسنعود إليه بعد قليل.
من أجل فهم ما يحدث لـ “شاس” اليوم، علينا البحث عن أصول هذه الحركة وامتدادها الى عمق السياسة الاسرائيلية، منذ تأسيسها وحتى اليوم. شخصان إثنان يقفان في مركز “شاس” وصيرورتها، وفيما بعد تالقها: الراب عوفاديا يوسيف، زعيم حركة “شاس” الروحي حتى اليوم، وواحد من أكبر رجالات التوراة في العالم في أيامنا، والراب الرئيسي السفارادي السابق لاسرائيل؛ ومعه والى جانبه وأحيانًا قبله، أرييه درعي، عضو الكنيست والوزير والسجين السابق، والذي يبتعد –ولو ظاهريًا- عن مجريات السياسة الاسرائيلية اليوم. الرحلة التي قطعها الاثنان منذ العام 1983، وبالأخص الراب يوسيف، وحتى اليوم، هي رحلة تضُعضُع المجتمع الاسرائيلي الصهيوني الذي لم يستطع أن يخلق النموذج الجديد لليهودي الذي يريده. في هذا السياق وبصياغة واضحة يمكن القول بثقة إن الصهيونية هي الجريمة و”شاس” هي العقاب.
البداية: قنبلة يدوية
يرى البعض أن مقتل المتظاهر اليساري إميل غرينتسفايغ، في مظاهرة “شلوم عغشاف” (السلام الآن)، بتاريخ 10 شباط 1983، هي البداية الرمزية لحركة “شاس”. ففي أعقاب مقتل غرينتسفايغ كتب الصحفي أمنون دانكنر (اليوم محرر “معريف”) في جريدة “حدشوت” مقالا بعنوان “ليس عندي أخت”، هاجم فيه اليهود الشرقيين بعنف وسلاطة وبغير القليل من العنصرية والاستعلاء. حتى أنه نفى أن يكون “هؤلاء” إخوته، “فهم لم يجلبوا الى إسرائيل سوى تقبيل أيدي الآباء وإكرام الضيف والمبنى العائلي الذكوري”. في أعقاب هذه المقالة انقسمت إسرائيل نهائيًا الى معسكرين واضحين: الاشكناز وثقافتهم مقابل السفاراديم وثقافتهم. لم تعد المسألة سياسية، بين اليمين وبين اليسار. فالمظاهرة التي قتل فيها غرينتسفايغ جاءت بعد مجزرة صبرا وشاتيلا وقادها اليسار اليهودي العلماني “الأبيض”. على الأرصفة في شوارع القدس الغربية كان اليهود الشرقيون، معتمري “الكيبّاه”، القادمين من حي المصرارة وغيره من الأحياء الفقيرة، يصرخون على المتظاهرين القادمين من رحافيا والأحياء الميسورة والغنية، ويبصقون ويضربون ويطفأون السجائر في وجوههم. مقال دانكنر كان القشة التي أخرجت العفريت الطائفي من القمقم، الى يومنا هذا.
آخرون، وبرؤية رمزية أخرى، يرون أن مولد حركة “شاس” كان بتاريخ 15 آذار 1983 بالذات، عندما أنهى الراب عوفاديا يوسيف مهمته كراب رئيسي سفارادي لاسرائيل، بعد ولايتين من خمس سنوات كل واحدة. عوفاديا كان يرغب في ولاية ثالثة بشدة، لكن المؤسسة السياسية الاسرائيلية رفضت تغيير القانون وبالتالي رأى يوسيف في هذا الرفض إطاحة غير صريحة به وبما يمثله. يوسيف كان في تلك الفترة عالمًا كبيرًا في أمور الدين اليهودي ومرجعية عليا في الأمور التشريعية والحياتية. من موقعه هذا كان يطل على المشهد السياسي- الحريدي في إسرائيل الثمانينات، ويفكر بعد “عزله” من منصب الراب السفارادي الرئيسي في تتمة دربه. العديد من المتمولين اليهود في العالم عرضوا عليه أن يعينوه راب رئيسيًا في العالم للسفاراديم أينما كانوا، وذلك بتعيينه رئيسًا لمؤسسة دينية عالمية يؤسسونها ويمولونها. لكن يوسيف فضل أن يبقى في البلاد، جسديًا وفكريًا، وفضل عدم الرد بالأيجاب على هذا العرض. مقابل ذلك استجاب الراب يوسيف لطلب نيسيم زئيف (راب حريدي منشق عن “أغودات يسرائيل”، الحزب الحريدي الوحيد حتى تلك الأيام، والذي كان مسيرًا بشكل مطلق على يد رابانيم أشكناز) بدعم قائمة جديدة لانتخابات بلدية القدس الغربية، إسمها “شاس” (إختصار لـ: “متبعي الوصايا السفاراديم”). “شاس”، التي دعمها يوسيف مع عدد جيد من الرابانيم السفاراديم كانت ردًا على القهر والتمييز الذي عانى منه السفاراديم تاريخيًا من “أغودات يسرائيل”. بصفته كذلك، نجح “أغودات يسرائيل” في ضرب جذور عميقة ومؤثرة في السياسة الاسرائيلية على الرغم من قلة عدد نوابه في الكنيست (أربعة مقاعد)، وبالتالي الحصول على مليارات من الشيكلات سنويًا، دون أن يحظى الحريديم السفاراديون بأية حصة تُذكر، على الرغم من الأعداد الهائلة منهم التي كانت تصوت لـ “اغودات يسرائيل” في كل انتخابات. وبالاضافة الى التمييز المالي، فإن الحريديم الأشكناز كانوا يستعْلون على الحريديم السفاراديم وحتى أنهم كانوا يرفضون الزواج منهم. على هذه الخلفية نشأت “شاس” وأدارت حملة إنتخابية شرسة وعنيفة ضد “أغودات يسرائيل” لبلدية القدس الغربية، وحصلت في نهايتها على ثلاثة مقاعد. من هناك كانت الطريق قصيرة الى انتخابات الكنيست: في العام 1984 حصلت “شاس” على أربعة مقاعد في أول انتخابات برلمانية تقودها، وكانت الأسباب لهذا النجاح كثيرة، ولكن أهمها هو النزعة الطائفية والعنصرية، وثانيها، تدهور وضع مناحيم بيغن، رئيس الحكومة آنذاك، واعتزاله الحياة السياسية بعد حرب لبنان، وبالتالي فقدان يتسحاق شمير، خلفه في رئاسة “الليكود”، زمام جذب المصوتين السفاراديم، مصوتي “الليكود” المخلصين، كما فعل بيغن من قبله. وخاصةً، وإلى جانب ذلك، أن الراب عوفاديا يوسيف استمر في دعم “شاس” بعد الانتخابات البلدية وحتى أنه نجح في بسط هيمنته ونفوذه على الحركة الفتية، وحولها الى حركة شعبية واسعة تربع على عرشها منذ ذلك اليوم، هو وأرييه درعي بعد سنوات من ذلك، بشكل مطلق الى حين دخول درعي السجن مؤخرًا وتغير القيادة في الحركة وبدء الصراعات الخفية وغير الخفية، التي أدت في النهاية إلى إعلان قسم من المنشقين عن “شاس” قبل حوالي أسبوعين عن إقامة حركة “أهفات يسرائيل”.
ماذا حصل منذ 1984، عندما انطلق سهم “شاس” الى سماء السياسة الاسرائيلية بشكل غير مسبوق، والى اليوم، حيث تتوقع معظم الاستطلاعات هبوط قوة “شاس” من (17) مقعدًا الى (9) أو (6) مقاعد؟
من يصوت لـ “شاس”؟
مؤرخو “شاس” والسياسة الاسرائيلية يرون بإجماع أن “شاس” أسست ما عرف فيما بعد بـ “الصهيونية الحريدية”. وهو نموذج جديد، لم يسبقه مثيل في السياسة الاسرائيلية. فحزب “أغودات يسرائيل”، الحزب الحريدي الوحيد حتى انتخابات 1984، لم يكن حزبًا صهيونيًا أبدًا. على العكس. في نظر رابانيه وقيادييه فإن قيام دولة إسرائيل هو عمل مخطوء ولا يلائم النبوءات الدينية بعودة المسيح المخلص الذي سيقيم دولة اليهود في أرض إسرائيل الكبرى. وبالتالي فإن علاقة الحريديم مع الدولة كانت علاقة انتفاع، و”هات وخذ” ليس أكثر. بالتأكيد لم يكن هناك مجال للتحدث عن الأيمان بصهيونية الدولة. أصلاً التسوية التي قامت بها “أغودات يسرائيل” بشأن الدخول الى السياسة الاسرائيلية جاءت بعد الهولوكوست وبروز الحركة الصهيونية كحركة مبلورة وقوية أمام ضعف الحريديم في مساعدة اليهود آنذاك، وبالتالي الاستسلام للنهج الصهيوني كحل مرحلي ريثما يأتي المسيح المنتظر.
ولكن حتى “شاس” لم تطرح نموذجًا صهيونيًا بحتًا. فالحصول على (17) مقعدًا في الانتخابات الأخيرة يدلل بقطعية على أن جزءًا كبيرًا من مصوتي “شاس” ليسوا من الحريديم. بل هم من اليهود المحافظين الذي يعيشون حياة يهودية صهيونية عادية (إسرائيلية) ويذهبون الى الجيش ويرون في إسرائيل دولتهم وبيتهم دون الحاجة الى إنتظار المسيح العائد. د. أمنون راز: “درعي بنى حزبًا يختلف عن الحريديم في حياتهم السياسية: فغالبية مصوتي “شاس” لم يكونوا حريديم، وإنما يهود شرقيين. في “شاس” لم يكن هناك التناقض بين علماني وديني، فاليهود الشرقيون معروفون بقربهم الى الدين وحفظهم للسبت وما إلى ذلك. درعي عرض على المصوتين السفاراديم خيار الاندماج الكامل في الحياة الاسرائيلية من دون التنازل عن هويتهم. كما أن الصهيونية حاولت بناء نموذج ليهودي جديد موحد عن طريق القضاء على الثقافة الخاصة لكل فئة”.
_ ألم تحاول الصهيونية أن تقضي على ثقافة مهاجري بولندا مثلا؟
“بلى. ولكن لا تنس أن النموذج الذي أرادته الصهيونية هو أوروبي، وبالتالي فان المهاجر من بولندا ومن باقي أوروبا ليس بحاجة الى التنازل عن شيء، على عكس اليهودي الشرقي.”
إذًا فإن التصويت لـ “شاس” ليس محصورًا في كونها حزبًا حريديًا، بل في كون هذه الحركة الغريبة حزبًا شرقيًا سفاراديًا بحتًا. راز يرفض الفكرة التي خرج بها الكثير من المختصين الاجتماعيين والسياسيين في إسرائيل بأن “شاس” هي حركة حريدية قبل كل شيء، ومن ثم شرقية. راز: “نزعة درعي و”شاس” كانت بناء حركة محافظة يترأسها رابانيون ولكن تتوجه لكل فئات الشعب. كل الحركات والأحزاب الشرقية في الدولة فشلت الى حين تأسيس “شاس”. “شاس” نجحت في بناء حركة سفارادية شاملة دون أن تكون حريدية أكثر من اللزوم. من هنا كانت قوتها”.
“شاس” مع من؟
المتتبع لسيرة رئيس الحركة أرييه درعي يستطيع أن يتبين ذلك جيدًا: درعي استطاع أن يبني نموذجًا للسياسي الحريدي الشرقي في قلب النظام الاسرائيلي، دون أن يكون حريديًا في جوهره، بل سياسي اجتماعي يدافع عن حقوق المقهورين بآليات ووسائل سياسية عصرية لكل شيء. النموذج اليهودي الذي طرحه درعي استطاع أن يجعل من اللعبة السياسية الاسرائيلية مسرحًا غريبًا وعجيبًا يستطيع فيه كل ممثل، حريديًا كان أم لا، أن يتقن أصول المسرحية ويبدع فيها، ولكن دون أن يضطر الى تأدية دوره بحسب النص المكتوب (هذا ما يحدث اليوم في السياسة الاسرائيلية: الكل يمثل ويعتلي الخشبة، ولكن أين النصوص؟؟).
في نظر راز فإن درعي هو شخصية مثيرة للاهتمام جدًا. راز: “درعي وصل من المغرب الى إسرائيل حديثًا، في سنة 1969. ما سبّبَ تضعضع مكانته وعائلته في المغرب هو الاحتلال في 1967. وعندما وصل الى هنا كان في المغرب في الصف السادس، بعد أن رفعوه صفًا لذكائه. ولكن المؤسسة الاسرائيلية أدخلته الى المدرسة هنا للصف الثالث، لأنه جاء من المغرب. كما أن درعي تتلمذ ونشأ في مدارس دينية (يشيفوت) تابعة للأشكناز وهو يعرفهم من الداخل. درعي عاش العنصرية اليسارية الاشكنازية في الدولة منذ وصوله الى هنا”.
ولماذا بدأت “شاس” مشوارها السياسي بقبعتين: واحدة سفارادية متمثلة بشخص الراب يوسيف، وثانية إشكنازية متمثلة بشخص الراب شاخ؟
“درعي وغيره من السفاراديم حتى ذلك الوقت هم نتاج للمدارس اليهودية الاشكنازية، لأنه لم تكن مدارس سفارادية كتلك. لكن الهرمونيا بين السفاراديم والاشكناز في “شاس” لم تدم وبعد خلافات عديدة انسحب الراب شاخ ومجموعته.”
مسألة أخرى هامة في الاشكالية الكامنة في تحديد هوية “شاس” هي الضبابية التي نجح درعي في بثها وتقويتها حول المواقف السياسية للحركة. هل “شاس” هي حزب يميني لمجرد كون نوابه من الحريديم أم أنه حزب مركز يميل لليسار، بقيادة أرييه درعي المتمرس في أمور الاعلام والتصريحات المتناقضة في فترات زمنية قليلة. راز لا يعتقد ذلك. على العكس تمامًا، “درعي هو يساري عملي أكثر من أي يساري في الاجماع الصهيوني”.
كيف تجلت يسارية درعي؟
“في عدة مجالات. عندما دخل الى منصب وزير الداخلية وهو إبن الثلاثين عامًا، انتج إصلاحًا هامًا وذا معنى، وووضع قضية المساواة كقيمة عامة وليس كقيمة وسطية (لوسط معين). ولا تنسَ أن واحدًا من اسباب ملاحقته فيما بعد هو أنه دعا في العام 1990 لتحقيق المساواة التامة للعرب مواطني الدولة. بعد تلك الدعوة اجتمع اليه رئيس الحكومة آنذاك، يتسحاق شمير، ورئيس الشاباك، وقالا له إن دعوته تلك خطيرة جدًا.. من هناك فهمت المؤسسة الاشكنازية الحاكمة أن “شاس” هو حزب لن يقبل دائمًا بأوامر المؤسسة وإنما سيكون له قرار مستقل خاص به. ولا تنسَ أيضًا أنه عاد على دعوته لمساواة العرب في الاجتماع الذي عقده في ساحة السجن قبل الدخول اليه في العام 1999، ولكن الصحافة لم تذكر هذه الدعوة مطلقًا.”
ولكن درعي امتنع عن التصويت مع “أوسلو” وصوّت ضد “أوسلو ب”..
“اتفاق أوسلو جُلب الى الكنيست للتصويت عليه بعد يومين من إعلان المحكمة أن على درعي أن يستقيل من الحياة السياسية، أي في أصعب فترة في حياته. وحتى مع ذلك، امتنعت “شاس” ولم تعارض. ولكن هناك خطأ أساسي في التعامل مع درعي. لا يمكن أن تنظر الى رئيس حركة “شاس” بمنظار “التجمع” السياسي مثلا. كان على درعي أن يواجه أمرين: أن آراءه الشخصية معتدلة؛ ومن جهة أخرى، كان عليه مواجهة اليسار الاسرائيلي الذي صرخ في العام 1999 في ميدان رابين بعد انتخاب أيهود براك: “فقط بلا شاس”. من مصلحة اليسار أن تظل “شاس” بعيدة عن عنه لأن “شاس” خطيرة جدًا على السيطرة الاشكنازية المؤسساتية.”
أي أن العرب والفلسطينيون فقدوا نصيرًا عزيزًا؟
“نعم. لقد نشرت مقالا مطولا حول هذا الموضوع. لماذا تعتقد خرجت المؤسسة الاسرائيلية في حملة مطارة ضد درعي كلفت خزينة الدولة (25) مليون ش.ج. بينما أدين درعي في النهاية باختلاس (60) الف دولار؟.. من جهة أخرى اليسار وعلى رأسه يوسي سريد تحدث دائمًا عن الفصل بين إسرائيل والفلسطينيين، من أجل العودة الى المنظومة الصهيونية القديمة: الغرب ضد الشرق. درعي تحدث عن سلام وعن تعاطف مع الشعب الفلسطيني، ودعا الى أيجاد حل مُرضٍ لقضية اللاجئين. وفي حرب العراق سنة 1991 قال درعي إنه كوزير داخلية فإنه يسمح لنفسه بخرق حرمة السبت والذهاب الى اجتماعات الحكومة لمنع قصف العراق. كما أنه عارض قصف لبنان في حملة 1992.”
ولماذا مع كل ذلك وُضعت “شاس” في خانة اليمين؟
“لأن اليسار هو تصنيف ثقافي وليس تصنيفًا سياسيًا. وتعال لا ننسى أن درعي لم يكن يساريًا خالصًا. درعي دعم المستوطنات مثلا. كما أن الكثير من مصوتي “شاس” هم من اليمين وكان على درعي أن يرقص طيلة الوقت بين النقاط. حتى أن العديد من مؤسسي “شاس” وقيادييها جاءوا من حركة “كاخ” المعروفة. وحتى مقربي درعي، مثل أيلي سويسا، هم يمينيون متطرفون وعنصريون جدًا.”
راز يذكر أيضًا ان “ميرتس” جلست في حكومة واحدة مع المفدال وسكتت على بناء المستوطنات وتوسيعها في حكومة براك، ووضعت نصب عينيها العدو الأول: شاس. راز يقول إن اليسار الاسرائيلي الأبيض تعامل مع “شاس” كما يتعامل مع الفلسطينيين، عن طريق الوصاية. فعندما رفضت “شاس” الانصياع للاملاءات صرخوا ضدها في الميدان. وعندما رفض الفلسطينيون إملاءات براك في كامب ديفيد أعلن اليسار الصهيوني خيبة أمله من الفلسطينيين، وأن لا شريك للتحدث إليه.
الاعلام الاسرائيلي تعامل مع درعي على أنه سياسي مركزي يميل لليسار، على الرغم من أنه في الواقع صوّت ضد “أوسلو ب” وصوّت مع قانون تثبيت الجولان. وفي خلفية تصويتاته الفعلية يأتي هذا الاقتباس من خطاب له في الكنيست بعد اتفاق أوسلو ليوضح الازدواجية الدرعية (والشاسية) حتى النهاية: “غزة هي في صريح العبارة ليست أرض إسرائيل.. ليس هناك ما أفعله في أريحا.. جزء كبير من هضبة الجولان ليس أرض إسرائيل. اريد أن ابعث جزءًا كبيرًا من الجمهور على الذهول وأن أقول إن الأسد لو كان شجاعًا مثل السادات وتوجه الى شعب إسرائيل.. شاس لن تكون من سيعطل عليه للتوصل الى اتفاق مع إسرائيل”. ولكن بعد أن أعلن مخلصو الجولان عن غضبهم لتصريحاته، أسرع درعي الى التحفظ في مقابلة إذاعية: “أنا لا أجرؤ على التفكير في أن توافق شاس على إخلائنا كلية من هضبة الجولان”!!
الى الهاوية؟؟
ربما يكون حبس درعي وإبعاده عن الحلبة السياسية هو السبب في هبوط شعبية “شاس” الى حضيض غير مسبوق (بحسب الاستطلاعات على الأقل). فأيلي يشاي، رئيس الحركة الحالي، ليس أرييه درعي. وليس فقط أنه ليس أرييه درعي، بل إنه يخاف من ذلك. يخاف ويرتجف. وبالنسبة له فإن درعي شبح يطارده في أيامه ولياليه وسيأتي يومًا ليختطف القيادة منه ثانيةً. من هنا يمكن فهم الحساسيات التي أخذت تتفاقم في “شاس” وتتطور الى نزاعات داخلية عقيمة ثم مستفحلة. معسكر درعي ومعسكر يشاي تحولا في السنوات الأخيرة الى عدوين لدودين، تمامًا كما تحول المنشقون (شاس) عن “أغودات يسرائيل” في 1983 الى ألد أعدائها على الاطلاق.
راز يرى في أيلي يشاي شخصًا عنصريًا جدًا. وكذا الأمر بالنسبة لمن حوله في “شاس”. راز: “شاس تحولت اليوم الى حركة يمينية متطرفة، وهذا يفسر هبوط المصوتين لها. فغالبيتهم سيعودون الى الليكود، البيت اليميني الأصلي. لم تعد هناك حاجة لشاس. القاعدة التي على أساسها كان العلماني أو المحافظ الشرقي يصوت بحسبها اختفت. “شاس” اليوم هي حزب حريدي يميني متطرف”.
لو بقي درعي لكانت الأمور مختلفة اليوم؟
“نعم. على الأقل لم تكن مغامرات براك ستخرج الى النور. لا شك لدي في ذلك. قبل فترة غير بعيدة سمعت درعي يتحدث من السجن الى راديو حريدي. درعي تحدث عن إسحق وإسماعيل، ودعا مؤيديه اليمينيين الى تذكر حقوق إسماعيل.”
ولكن الادعاء المركزي ضد درعي و”شاس” انهما لم يحسّنا شيئًا في الأوضاع الاجتماعية، لمصوتيهم على الأقل.
“قد يكون هذا صحيحًا. ربما. ولكن النتيجة المؤكدة لنشاط “شاس” هي تحولها الى صمام أمان. فبدلاً من أن يخرج الشرقي المقهور الى الشارع، يذهب لتعلم التوراة في اليشيفاه.”
أي أن درعي خلق هدوءًا مصطنعًا.
“ليس حتى النهاية، كلا. لو فعل ذلك لما طاردته المؤسسة.”
وماذا مع ما يحدث اليوم؟
“أنا أرى ما يحدث اليوم لشاس كتفكك وانهيار. “شاس” ابعدت درعي ولا أعرف الى اين وجهته الآن. “شاس” تحولت الى حزب يميني متطرف. وإذا انتخب نتنياهو في برايمريز “الليكود” فان الكثير الكثير من مصوتي “شاس” سيعودون الى “الليكود”. كما أن يشاي لا يعرض اليوم أي بديل حقيقي للمصوتين غير المتدينين. من جهة أخرى هناك عملية “توبة” في المجتمع الاسرائيلي والعودة الى الله، وهذا يقوي من “شاس” بعض الشيء، لكن من المهم التذكر أن ما عرضه درعي هو الخيار المدني بالأساس. أذكر في الانتخابات الأخيرة أن حوالي مئة من الطلاب الجامعيين اليهود قالوا لي في إحدى الندوات في الجامعة إنهم متحيرون بين التصويت لـ “شاس” أو التصويت لحزب “التجمع”، بقيادة عزمي بشارة. لماذا؟.. لأنهم يساريون شرقيون، وليسوا أشكناز.”
هل تتوقع أن تذهب “شاس” الى الانتخابات مع حزب حريدي آخر؟
“لا أعتقد. هناك عدم ارتياح اليوم في الاحزاب الحريدية من سلم أولويات “شاس”، مثل المعركة ضد المهاجرين الروس الجدد غير اليهود. لا اعتقد أن هذا سيحصل في النهاية.”
هل سيعلن درعي تأييده الصريح للحزب الجديد “أهفات يسرائيل”؟
“أشك في ذلك. أشك في أن يخرج أرييه درعي علانية اليوم ضد الراب عوفاديا يوسيف. لا أعتقد أنه سيفعل ذلك.”
هل تعتقد أن درعي يخطط لأن يكون الراب عوفاديا يوسيف القادم؟
“أعتقد أنه يتأرجح بين القيادة السياسية وبين القيادة الروحانية. حاليًا الامكانيات السياسية مغلقة في وجهه. هو ينتظر الآن إعادة المحاكمة، ولديه أمل في إعلان براءته لأن الشاهد الوحيد ضده مشكوك في أقواله.”
هل على العرب والفلسطينيين أن يصلوا من أجل عودة درعي؟
“(يضحك) إسمع.. درعي لا يخاف من أن يكون سياسيًا حتى النهاية وقت الحاجة. قبل سنوات قال لليمين الاسرائيلي إنه هو (اليمين) السبب في اتفاقية أوسلو. فاليمين رفض اتفاق لندن ومؤتمر مدريد وبالتالي فتح المجال أمام خيار أوسلو. لو ذهب اليمين وقتها الى مفاوضات مع حيدر عبد الشافي لربما كانت الأمور اليوم مختلفة كليةً.”
في كل الأحوال، لا يبدو الحزب الجديد “أهفات يسرائيل” تهديدًا قويًا على سلامة “شاس”، خاصةً بعد أن أعلن الخميس الماضي، النائب أرييه غمليئيل، رئيس القائمة في الحزب، عن استقالته من الحزب الجديد، لأن الراب كدوري وإبنه رفضا أن يعلنا أن الحزب سيعطي القيادة الى أرييه درعي بعد الدخول الى الكنيست. راز يتوقع للحزب الجديد مقعدين كأكبر تقدير.
***
في الخطاب الذي ألقاه أرييه درعي في الثالث والعشرين من نيسان للعام 1997، تكمن الكثير من المفاتيح لفهم “شاس” كظاهرة وكممارسة. في ذلك اليوم تجمع عشرات الألوف من مصوتي “شاس” في المدرج القديم التابع لجامعة القدس، في القدس الغربية. قبل ثلاثة أيام من هذا المهرجان الكبير كان المستشار القضائي للحكومة، إلياكيم روبنشطاين، والمدعية العامة للدولة، عدنا أربيل، قررا عدم تقديم لوائح اتهام ضد رئيس الحكومة آنذاك، بنيامين نتنياهو، وتساحي هنغبي، وزير القضاء آنذاك، في قضية عرفت باسم “بار أون- حفرون”. ومختصر القضية أن أرييه درعي، اتفق مع محام متوسط القدرات إسمه روني بار أون، على تعيينه مستشارًا قضائيًا للحكومة، مقابل أن يغلق بار أون ملف الرشوى المفتوح ضد أرييه درعي. نتنياهو وهنغبي عرفا وسكتا، وتعين بار أون فعلا لمدة قصيرة جدًا ثم قدم استقالته بعد كشف القضية في التلفزيون الاسرائيلي. المثير كان أن روبنشطاين وأربيل قررا تقديم لائحة إتهام ضد درعي وحده، على الرغم من توصية الشرطة بتقديم الثلاثة للمحاكمة. على هذه الخلفية تحول المهرجان السنوي المذكور الى مظاهرة احتجاج ضاخبة ضد “مطاردة درعي والسفاراديم من قبل المؤسسة الحاكمة”. درعي تحول في يوم وليلة الى بطل معذب، وقائد مطارد.
في ذلك المساء الحار صرخ درعي أمام الألوف المتجمعة: “الصهيونية هي حركة كفر تطمح لخلق يهودية جديدة، وحاولت القضاء على التوراة والقضاء على الدين والقضاء على الحضارة السفارادية… من الواضح لي لماذا يلاحقون هذه الحركة المقدسة (شاس) بالذات.. هذه ليست ملاحقة سياسية. هذه ملاحقة طائفية ودينية. هم يخافون من أن يغير الشاسيون الطابع العلماني لدولة إسرائيل، بعد أن تيقنوا من أنهم لم يستطيعوا محونا، على الرغم من رؤيا الصهيونية الكبيرة.. نحن الصهيونيون الحقيقيون، متبعي الوصايا السفاراديم، الذين تُلقبنا المؤسسة بالمتخلفين”..
واضح الآن أن الصهيونيون الحقيقيون، بحسب ادعاء درعي، في طريقهم الى الهاوية!
(نُشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” في تشرين الثاني 2002)