الكاتب كمخلوق أُمّيّ
(زوروا موقع قديتا)
إليكم بهذه المعضلة: كلما وجدت نفسي منغمسًا في العمل على مشروع جديد (مجموعة قصصية، رواية، مسرحية، فيلم، لعبة محبوسة) تحوّلت إلى أمِّيٍّ لا يقرأ ولا يعي ما يدور حوله؛ إذا كانت الكتابة انغماسًا حتى النخاع في الدنيا وقضاياها وتفاصيلها، فكيف يكتب المرء وهو منقطع عنها؟
قبل قليل سألني نايف، زميلي اللدود في مكتبي نصف-الجديد، إذا كنتُ قد رأيتُ كشف “الجزيرة” أمس حول محاضر المفاوضات السّرية بين إسرائيل والفلسطينيين، وأجبت فورًا: نعم. لكنني بعد برهة تذكرت أنني لم أشاهد “الجزيرة” ليلة أمس، ولا الليلة التي قبلها ولا التي قبل تلك (لأسباب كثيرة، أهمها أنني تعبت من مشاهدة “الجزيرة” مؤخرًا، فالشعور الذي يرافقك طيلة المشاهدة أنّ عليك الآن لبس طنجرة على رأسك والإمساك بالشُّوبَك المدوّر وإرسال زوجتك وطفلتك إلى الملجأ). لقد قرأتُ عن الموضوع في خبر “هآرتس” الموسع هذا الصباح. في كل ليلة أعود إلى البيت منهكًا من ضغط موعد تسليم مسودة الفيلم، وفي التاسعة مساءً ودقيقتين أجد نفسي ملقيًا على الكنبة في الصالة أشاهد فيلمًا لا أتابع أية كلمة فيه وأنا بين النوم واليقظة، أو كما نقول في القرية: “عيوني عم بتناكحوا” (طبعًا باستعمال الفعل الصريح والمشبرح).
أشحط نفسي للنوم وأنا أتجنب نظرات أنطون تشيخوف: اشتريت مجموعته الكاملة قبل فترة ولم أقرأ للآن إلا الكتاب الأول “القصص القصيرة”. وقد وعدت نفسي بأن أكتب مقالة مطولة عن الكتاب للموقع لكنني لم أكتب المقالة ولم أتقدم في قراءة الأجزاء الأخرى أيضًا. أشعر بالخجل من الرفيق أنطون. أمرق بجانب كتبه وأغضّ الطرف، كما أنني أغضّ الطرف عن مجموعة أخرى لتولستوي وكتاب “موبي ديك” بترجمة جديدة، وكتابين ثلاثة لهامنغوي، ودواوين شعرية أهداني إياها شعراء عرب التقيتهم في سفراتي الأخيرة، كما أغضّ الطرف عن بعض الأفلام “النوعية” التي تنتظر من أشهر أن أفضّ نايلونها لأشاهدها، بعضها لفليني والآخر لهيتشكوك والبعض لمخرجين روس.
منذ شهر أو أكثر وأنا أُمِّيٌّ، لا أقرأ ولا أتابع؛ أسير مثل الشبح بين الكتب ولا أكاد أقرأ خبرًا في الجريدة لأكثر من فقرته الأولى. أعتقد أنّ خبر المحاضر السرية هو الخبر الوحيد الذي قرأته بالكامل (مع التعليق المرافق) منذ أشهر طويلة. حياتي مليئة بالنصوص: المئات منها تصل الموقع كلّ شهر؛ أقرأ معظمها وأهمل بعضها؛ أتابع ما ينشره الزملاء في الموقع وما يحرّرونه وحتى عندما أكون “منطفئًا” من التعب، إذ أحسب حساب سؤال قد يبغتني حول مادة ما وردت في الموقع ولم أقرأها؛ يا للفضيحة عندها: رئيس تحرير الموقع ولم تقرأ المقالة؟
النصوص: كلمة بعد كلمة، حرفًا بعد حرف. تتزاحم في الذهن لبرهة ثم تنسحب مخلفة دمارًا في خلايا الذاكرة لا يُرمّم. على المرء أن يحسب ألف حساب لكلّ خلية ذاكرة في مخِّه، خصوصًا عندما يتجاوز الخامسة والثلاثين وآلاف الليترات من الكحول ومئات اللفائف من الماريحوانا. يجب على المرء ألا يسمح بدخول أيّ نصّ إلى مُخه ما لم يكن جديرًا. لكن الطامة (واللطمة) أنك لن تعرف مدى جودة النصّ إلا بعد قراءته. ناهيك طبعًا عن النصوص التي يجبرونك على قراءتها مثل لافتات الشوارع والبانرات في المواقع الإنترنتية والمواقع نفسها في الغالب. عليك أن تكون حذرًا في كمية النصوص التي تسمح لها بغزو دماغك، وإلا صرت مثلي: ماكنة تستقبل النصوص من هنا وتطلق سراحها من هناك، من دون أيّ تأثير يُذكر، سوى إنهاك خلايا الذاكرة. يعني مثل كتب باولو كويلو التافهة.
هل علينا أن نقرأ لمن نحبّ فقط وبقدر مقبول ليس إلا؟ هل نلبي نصيحة لوقيوس أيناوس سنكه حين طلب من كاتب شاب، وببساطة: “لا تقرأ إلا للمؤلفين المُمتازين. وعندما تشتهي التوجّه إلى شخص آخر، عُد إلى ما قرأته في السّابق”؟ لا شك أنكم رأيتم فيلم “روائع العقل”، الذي يروي قصة العالم العبقري. في الكتاب الذي شكل مصدر وحي للفيلم جاء: “لم يدافع ناش عن أفضال القراءة، فهو يؤمن بأنّ التعلم الزائد من مصدر ثانٍ سيقمع من حسّه الإبداعيّ والأصيل”. لكن اللورد جورج بايرون يخالف هذا الرأي كلية: “لو كان بمقدوري أن أنشغل بالقراءة دائمًا، لما كنت سأشتاق للمجتمع”.
أشعر بالذنب لأنني لا أقرأ ما أريد. أقرأ الكثير من النصوص المهنية والمتعلقة بالترجمات والعمل، لكنني لا أجد الوقت لرفع رجليّ على الطاولة وإشعال سيجارة دافئة والاستسلام للصفحات المتتالية. ومع ذلك أجد عزائي في مارك توين، الذي أتحمّض لقراءة روايته الخالدة مجددًا، إذ قال: “الإنسان الذي لا يقرأ كتبًا جيدة ليس أفضل بشي من الإنسان الذي لا يعرف القراءة”.
الآن: سأعود إلى العمل. لديّ نصّ مُملّ للترجمة!
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 26 كانون الثاني 2011)