بحثتُ عن غيره
في الذكرى الثانية عشرة لرحيل الشاعر نزار قباني
علاقتي بالشاعر نزار قباني مدٌّ وجزرٌ. فمن قراءةٍ استحواذيةٍ ومُزلزلةٍ في المراهقة، إلى ابتعادٍ في العشرينيات تصاحبه عدائية مُعلنة، ثم عودة إلى منتصف الطريق في منتصف ثلاثينياتي: ذهابُ العدائية وعودة الألفة، رغم توقفي عن قراءته تمامًا. أشبَه ما يكون بالأب الذي يمنحنا مفاتيح الكلام والحياة، ثم نقتله كي نخرج إلى الحياة أشخاصًا مستقلين، ثم نعود إلى اكتشافه من جديد بعد أن تحرّرنا منه. نعيد اكتشافه ولكننا نخجل من خيانتنا له، فنظلّ نرقبه عن بُعد باستِحياء، لعله لن يقبل رجعتنا.
لم تكن قصائد نزار عادية لي –ولجيلي- في نهاية الثمانينات، حيث كانت الكتب (العربية- والشعر منها خصوصًا) نادرة (وبلا إنترنت طبعًا)، وكانت عادة بيع الكتب من بيت إلى بيت ما زالت تحفظ بعضًا من ماء وجه القراءة الشغوفة. كانت كتب نزار (المنسوخة والمُباعة بلا ترخيص) ألمع ما في جعبة الطلاب الجامعيين الذين كانوا يفتلون القرى لبيع ما يمنحهم ليسدّ رمقهم الجامعيّ. وقتها بدأتْ تتفتح براعم المراهقة ومفاتيح الشبوبية الحسّية المشتعلة، في آخر ما تبقى من ريف فلسطين التاريخية في قرية جليلة هادئة ومنعزلة. كانت “طفولة نهد” و”الرسم بالكلمات” وغيرها إنجيل المراهقة بجدارة، نحفظها عن ظهر قلب ونكتب كلماتها المزركشة على مفكراتنا الطلابية وهوامش كتب التاريخ والدين والجغرافيا. لم يكن نزار مثار الشعلة أو مُحفزها؛ كان الشعلة ذاتها، نارها ووهجها وأبجديات تشكلها.
أعتقد أنّ التغيّر حدث عند الخروج من القرية إلى المدينة (حيفا). فجأةً لم تعد كلمات نزار تُدفئ الجسد والروح مثلما فعلتْ في برد الجليل الأعلى. كانت حيفا –لي- أكبر من مفردات العشق البريء ولم يكن من الممكن على هذا الريفيّ اللاجئ إلى غربة المدينة أن يرسم بالكلمات أيّ سطر أو لوحة. ورويدًا رويدًا، إبتعدتُ عن نزار. صارت مكتبة جامعة حيفا (الكبيرة) بقسمها العربيّ الملجأ والشعلة. صار محمود درويش ولوركا وسعدي يوسف وأمل دنقل أكثر حضورًا من نزار؛ صارت روايات “رياض الريس” بقطعها الصغير القديم رفيقة الليالي وصار الأدب الأوروبي المترجَم باختلافه المحفز والباعث على التفكير.
مع الوقت، نسيتُ نزار. نسيت جميع قصائده. ومع الوقت صرت عدوانيًا تجاهه أيضًا. ما يشبه “فذلكات البلوغ”: أي أنني لم أعد مراهقًا يمشي أسير كلمات العشق وتبهره كلمة “نهد”، بل صرتُ بالغًا، “نقديًا”، أنتي-رومانسيّ. وهكذا، غلبتني الكَلبيّة فأدرتُ ظهري لنزار ورومانسيته وضِعتُ في تلابيب ما بعد الحداثة الباردة في معظمها. كان العداء لنزار وعبد الحليم حافظ (رمز الرومانسية الثاني) والتندّر عليهما من دلائل النضوج والوعي والعمق. هكذا اعتقدنا على الأقل.
الآن، أطلّ من جديد على رومانسيتي الفقيدة، على طفولتي البعيدة، على مراهقتي الريفية الخلابة قضيتها في القراءة والتدخين سرًا تحت البلوطة الكبيرة مع “رفاق السوء” والتحدث عن نزار وجبران خليل جبران وأطياف النساء. أطلّ وأرى نزار بضوء جديد، بلا حاجة لإثبات “وعي” أو “نضوج” أو “ما بعد حداثوية”. أراه الآن مؤسِّسًا لقدْر من تعاملي مع النساء وفهمي للحبّ والجنس، رغم ابتعاد السنين وتعلم المزيد والمزيد- من التجربة وليس من الكتب هذه المرة.
نزار قباني مرحلة حاسمة في تشكل وعيي وشخصيتي، وأعتقد أنه كان حنونًا ومُحبًّا بما يكفي كي يمنحني وقتها مفاتيحَ ورموزًا للخروج إلى الحياة، ثم ليتنحّى جانبًا بلا أيّ شعور بالأسى ويقول بهدوء: إبحث عن غيري.
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 30 نيسان 2010)