باريس: اليوم الثاني
أستيقظ باكرًا رغم إصراري على النوم جيدًا. منذ أشهر، أي منذ ولادة الدشة الضاحكة، أستيقظ باكرًا وأنام باكرًا. مثل الدجاج. “نام بكير وقوم بكير وشوف الصحة كيف بتصير”، يهمس مثلنا الشعبي الذي يحثّ على العمل مثل الحمار والنوم مثل الدجاجة، وإمشي الحيط الحيط، ولا تنسَ أن تموت بلا مغامرات. الحقيقة أنّ الصحة جيدة في مثل هذه الظروف، ولكن ماذا ينتفع الإنسان لو نام باكرًا واستيقظ باكرًا وخسر لعبة المحبوسة في الثانية عشرة ليلا بين البكري العربيد و”بو ندى” الصنديد؟
عند الفطور أمسكتُ بالفندقيّ متلبسًا (هل ذكرتُ أنه عربيّ أيضًا؟). عندما وضع لي ملامح الفطور المتواضع أمامي، إنضمت إلى غرفة الطعام صبية جميلة من الشرق البعيد (يابانية أو صينية أو كورية، لا أعرف)، وعندما جلست هرع إليها بصحن فيه قطعتا كروسون وقطعتا باغيت!! أيها الحقير؛ لو كنتُ امرأة جميلة لحملتَ إليّ من الطعام ما يكفي قبيلة. المفارقة طبعًا أنّ هذه الشرق-بعيدة لا تأكل إلا نزرًا، وهي تحظى بكمية الطعام التي من المفروض أن تُقدّم لواحد مثلي. أزدرد مهانتي على مضض وأحمل كوب القهوة وأصعد إلى غرفتي.
اليوم عملت مع هيام على السيناريو. بانتظارنا أيام غير هينة من الحكي والحكي والحكي، ثم الكتابة والتغيير. هل عملتم مرة مع شريك على نص مسرحية أو فيلم أو أيّ شيء؟ حسنًا، لا تفعلوا! وهذا طبعًا لا يتعلق بنوعية ولطافة وإنتاجية الطرف الثاني (في حالة هيام). ما يهم هو اصطدام شحنات كهربائية من فئة 220 فولط، صادرة عن شخصين (مبدعين) يعتقدان أنّ باريس تسحب طاقتها الكهربائية من ضوئهما. ولكن العمل مع هيام يظل لطيفًا وإبداعيًا حقًا، وهي تذكرني بأم الدشة أكثر من عشر مرات في اليوم، من ناحية القدرة الخارقة على تجنيد الحروف اللانهائية للكلمات اللانهائية التي تطلقها في فضاء الغرفة.
حين أروي لهيام أنني سأكتب عن قدراتها الكلامية الهائلة، تعترض وتلح إلحاحًا أن أكتب لقراء المدونة أنّ المشكلة فيّ أنا وليست فيها. كما تطلب مني أن أكتب لكم أنّ الكلام المُراق على أرضية مكتب شركة الإنتاج الباريسية متركز فقط في الفيلم الذي نعمل عليه، ليس إلا، وبالتالي فهو عمل وكدّ، ما من بعده جد. حسنًا، سأكتب، أقول لها، ولكن هل سيخفف هذا من وقع البرد الباريسيّ على أيدينا ووجهينا ونحن نسرق النيكوتين سرقة في مدخل العمارة، مثل لصين مذنبين؟ لا تدخين في الأماكن العامة وأماكن العمل. نخرج، هيام وأنا، إلى صقيع باريس الذي يُلحق أضرارًا غير رَجُوعة بالخصيتين وأطراف البنكرياس (غير رَجوعة: نهائية، غير قابلة للتغيير- والشكر لمضاء على الكلمة الدلوعة).
الطقس هنا غير مسبوق، يقولون لي. حتى إنّ نيكولا، المنتج، اضطر اليوم للسفر إلى جنوب فرنسا كي يحاول حل المشاكل الانتاجية التي طرأت على تصوير فيلم يجري في هذه الأيام هناك. فالطاقم التجأ إلى الجنوب الفرنسي لتصوير أيام مشمسة وحارة، ما يليق بالريفييرا الفرنسية، إلا أنّ الثلج انهمر هناك، لأول مرة من عشرات السنين، ودُقّ الخازوق دقـًا. أبتسم وأنا أتخيل نيكولا المسكين يجرف الثلج عن أسطح المنازل والطرقات كيف يتمكنوا من تصوير الممثلة تتسفع تحت الشمس وهي تلبس البكيني بدرجة حرارة 5 تحت الصفر. هذه مشاكل الأثرياء، أبتسم مرة ثانية، فليأتوا إلى هنا وليحاولوا أن يدخلوا إلى الإنترنت عن طريق الشبكة اللاسلكية في هذا الفندق الحزين. النكتة أنني اتصلت الليلة بالفندقيّ الذي يغشني في الفطور لصالح ابنة الشرق البعيد، وقلت له بحزن ويأس: الإنترنت لا يعمل في الغرفة، فأجابني بكل هدوء وحسم: “لا أستطيع أن أفعل شيئًا. بونسوار”. بونسوار في عينك!
عبر الإس إم إسات والإيميل (حين أنجح في فتحه) تصل التقارير من الأرض المحتلة: دشة مستمرة في تجميع المعجبين والمعجبات، وهي دائمة الضحك والمكاغاة، حتى إنّ “أبو شادي”، زوج النانا (يحرق أخت التبرْجُز!)، وقع في حبها لأنها تضحك له طيلة النهار، ناهيك عن غزلها المستمر وغير المنقطع لفريد ابن السنة ونصف السنة، الذي يشاطرها النانا. ها أنا ذا أجلس في باريس بعيدًا وابنتي بدأت تمتهن الغزل وهي في الشهر الثالث وأسبوع ويومين فقط. من الأجدر بي أن أضب شنطتي وأن أهرع إلى عكا سباحة كي أضع الحدّ على الزعرورة، ولكن بالأساس، كي أقبلها ألف قبلة وأشم رائحة بشرتها النضرة، ورائحة نتاقها العطرة، على ملابسي المُخضرّة.
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 9 آذار 2010)