سأخون مدينتي
أشتاق إلى حيفا الآن.
كنتُ أعلنتُ طلاقي منها بعد زواجٍ من 13 عامًا، حين تزوجتُ عكا وابنتها منذ خمس سنوات. إنتقل المكان وانتقلت إليه، ثم انتقلنا سوية إلى زمان جديد. أفكر الآن في المكان ولا أذكر إلا الناس: الرفاق والرفيقات (في السّهر والمرح والتسيّب)، الأصدقاء والصديقات، العاشقات والعابرات، الشوارع والأشجار الشتوية في شارع “هيلل” التي تفوح برائحة المنويّات الغريبة (هل لاحظتم؟).
“المكان حيث تتشكّل”- أحاول أن أصيغ حكمة، ولكن أليس المكان حيث تتحلل أيضًا؟ وحيث تتدمّر وأليس المكان، أيضًا، حيث ترمّم نفسك؟ وحيث تضحك وحيث تبكي، وحيث تنام وحيث تسهر، وحيث تسعد وحيث تشقى؟ ولماذا المدن، مع أنني أحبّ جليلي وقريتي ومساحات الخضرة اللانهائية حوالي نبع “العكروش”؟ أليس المكان بتفاصيله؟ أليست تفاصيل الجبل أشهى من البحر، أم أنّ العكس هو الصحيح، أم أنني في غمرة التباس المكان عليّ أتوق إلى سعادة لم أعشها؟
فجأةً، تتراءى حيفا فضية كأشعة الشمس في هذا الشتاء المتردّد. أنظر إليها من عند رصيف مقهى “البيغي” على الغربيّ في عكا، وأحلم بسكرة عصراوية في “فتوش” تطرحك في الفراش حتى يحين موعد السكرة الليلية الرسمية. عَلامَ يا هذا، وما الخطب، وما الذي أشعل فتيل الحنين إلى حيفا بعد هذه السنوات؟
إذا كانت عكا “أجمل نساء فلسطين” (على ذمة الشاعر)، فإنّ حيفا أكثرهنّ شبقًا ومجونًا، وأنا كالعالق بين معشوقتيْن لا فكاكَ من التصدّع بينهما مثل أرض يباب تتشقق في غمرة القحل، أو تذوب في غمرة العُباب (المطر الكثير- على ذمة ابن منظور). إلى ماذا أشتاق في حيفا؟ لا أعرف تحديدًا، ولكنّ صورتنا (خمسة شبان متحمسين) ونحن نجلس على شرفة البيت المتهالك في شارع “مسادا” بعد إغلاق الجريدة، نستمع إلى شربل يقرأ “شتاء ريتا الطويل” لدرويش، تلحّ عليّ، مع أنّ تلك القراءة لم تكن لـ “ريتا” معيّنة بعد. يبدو أن القارئ والمستعمين هم الذين يسكنون الصورة وليس “ريتا”.
أسير في شوارعها مؤخرًا وأحمل ذاكرة مضطربة. هنا كذا وهنا كذا، وهناك كذا وهناك كذا. كأني أسير في آخر يوم للذاكرة، أحاول حصرها وممارستها قبل أن تنتهي. تخفّ بي الأرض ويبدو شارع “الحالوتس” (لأول مرة في الحياة) جميلاً. “الحالوتس”؟ جميل؟؟ أتذكر هذا الشارع في رواية “إخطية” لإميل حبيبي، ولكنني الآن أتذكر “شوارما الأخوة” وكم هي مسؤولة عن كرشي النابتة رغمًا عني. وأتذكر فلافل “أرمون” وفلافل “ميشيل” ومطعم “الجبل” قرب الجريدة حيث كنا نشرب البراندي الرخيص (“إكسترا فاين”، الشهير بـ “أبو زبلة”) ونتحدث عن تغيير العالم.
وصلتني في البريد الكهربي رسالة فيها رابط لبحث جديد: نسبة الكشف عن أعضاء النساء اللازمة لزيادة “تحشر” الرجال بهن هي 40% من أجسادهنّ، لا تزيد ولا تنقص. ابتسمتُ. هل كشفت حيفا لي مؤخرًا عن 40% من صدرها أو عجيزتها أو فخذيها؟ لا أظنّ، فأنا تكفيني رقبتها وهبوط الشهوة من غرتها نحو كتفها كي أغازلها وحدي، وسط زحام التاكسي وفظاظة السائق وظلف الركاب وحديث هذه العجوز البائسة عن آلام ركبتيها.
فجأة، عادت حيفا وكأنها لم تغِبْ للحظة؛ “ليسَ المكانُ هوَ الفخ” أعاد درويش أربع مرات في قصيدته “لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي”، وأنا أعيد وراءه: “إنّ الزمانَ هُوَ الفخ ُّ”. ماذا سيكون إذًا فخّ هذا الزمان؟ أهي رياح الحبّ العاتية في أرجاء الرحم الحبيب؟
“أيّ إنسان لم يَختبر نشوة الخيانة لا يفقه شيئاً على الإطلاق عن النشوة”، قال جان جينيه، وأنا أشعر بخيانتي لعكا ولكنّ المعشوقة –حيفا- تستأهل كل هذه الخيانة! هل يجب أن أحرق جسرًا كي أعبر آخر، ولماذا كل هذه الدراماتيكية في حبّ مكان لا يعني شيئًا من دون ساكنيه؟ عكا أشبه ما يكون بالبيت، وحيفا أشبه ما يكون بغرفة مغرية في فندق تحمي عاشقيْن.
ألتجئ إلى شقة عامر لأكتب، فأقع في الحنين. هل الحنين إليه أم إلى ما يعنيه لي من تاريخ ومن حيفا؟ لا أعرف، ولكنني أرتب شقته كلما ذهبت وكأني أصرّ على أنها شقتي. يا للنوستالجيا المثيرة للشفقة!
هل المكان هو ذريعتنا للاختباء من الزمن؟
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 20 تشرين الثاني 2009)