يا شوفير دوس دوس…  

 

دراجة

 

فراس الروبي

البيغ

إشتريتُ دراجة هوائية اليوم. بيضاءَ شامخة وفيرمتها “وينر”، حلم عكيّ جديد يتحقق في الأرض المقدسة، بخمسمئة شيكل جديد، اقتطعتها من ميزانية إيجار البيت للشهر القادم، عاملاً بالحكمة العربية الغبيّة: إصرف ما في الجيب يأتِك ما في الغيب.

كانت فرحتنا، أم محمود وأنا، كبيرةً لا تُضاهى: أنا فرحٌ بإنجازي التاريخيّ الذي “أفنطز” عليه منذ أن أفرغ أهالي عكا معداتهم في طاقية نابليون، وأم محمود فرحة لفرحتي الطفولية أمام مدخل جامع الجزار، حيث تقع دكانة “أبو داهود”، الذي يبيع الدراجات الهوائية على أنواعها (والحلق والأساور والبلاستيكيات الطفولية التي لا أفهم استعمالاتها).

ونظرًا لقياسات جسدي الحالية (التشديد على “الحالية”، إذا أنني سأنحف كثيرًا بعد انضمامي إلى الجِّم) استبدلتُ الكرسيّ الصغيرة بكرسي أخرى كبيرة، التي لم تنجح هي الأخرى في منع التعب “الطيزيّ” جراء ركوب الدراجة، ولكن حتى بوادر “السّماط” لم تفسد فرحتي بهذه الشّروة العبقرية. فتضاريس عكّا الساحلية جعلت من البلد بسيطة عريضة لا هضاب فيها ولا طلعات، وبالتالي فإنّ عملية الدوس والدعس على الدراجة لا تكلف الكثير من العناء والجهد، وهكذا وجدتُ نفسي راكبًا دراجتي الجديدة (بلا مْلاحظة) وعابًّا شوارع عكا الساحلية، قاصدًا الفنار عبر الكورنيش، “قاصًّا” بسهولة نحو الخان ثم الميناء ثم المحكمة القديمة.

أيّ إحساس جميل أن تحلق بقليل من الجهد بين الناس، أن تناور وتحاشر بين الرصيف وبين الشارع، تروح وتجيء بين السّيارات العالقة في أزمة مرور، مثل فراشة حرة طليقة، فتذكرتُ على الفور ما جاء في مسرحية “رُكَب”، كرّم الله وجهها:

“لديها دراجة مثل دراجات الخمسينيات والستينيات مع مقود واسع. أسرع إلى البيت وأجلب مخدة وأضعها على المقود. ومثل جنتلمان أدعوها للصعود فتفعل وهي متكئة على كتفي. من بولفار فولتير بدأنا السّير باتجاه الباستيل، أدور حول الدوّار خمس مرات كيف نقرر اتجاهنا، وكالعادة سان ميشيل ينتصر دائمًا. وهي جالسة هكذا على المقود لا أرى الشارع، ولذلك تضع جسدها العلويّ كله على صدري. وأنا، من أجل عبطة كهذه مستعد ليس لحرث باريس فقط، بل فرنسا كلها. نحن الاثنان فقط نتحرك في باريس (…) من سان ميشيل أقطع الطريق إلى سان جرمان على طول ساو جيرمان ديبري. نتوقف للحظة في مقهى موليير، نشرب بيرة واحدة على البار، وقوفًا، ونواصل إلى سان أنطوا(ن)، إلى سان مور والشاتليه.”

في عكا يمكنني أن أكتب هذا المونولوج المُتناصّ مع مونولوج “رُكب”:

لديّ دراجة جديدة، مع مقود واسع. أتذكر نصّ “رُكب” فأقول لأم محمود أن تركب عليه ونبرم في عكا. تنظر إليّ باستخراء مُريب، ثم أتراجع عن الفكرة وأقول لها إنني سأبرم قليلا برمتي الأولى على الدراجة. تصرخ: “دير بالك، مش تندهك، مش فاضي لمستشفيات!”. أخرج من العمارة وأسير في الشارع المحاذي لها، المليء بعشرات الحفر، الكبيرة منها والصغيرة، فأكاد أقع على وجهي غير أنّ اللات احتضنتني بلطفها. أسير وحدي في الشوارع مسرعًا نحو كورنيش عكا على البحر كي أصله قبل اختفاء الشمس الغاربة. أصل الفنار سعيدًا وأركن الدراجة على السياج فوق البحر وأخرج كاميرتي وأصوّر لعبتي الجديدة. الشمس اختفت وراء بقايا قلعة على السّور وأحدهم ممن يعرفون وجهي وأعرف وجههم يقترب ويسأل: إلك البسَسْكَليت؟ أجيبه بفخر مبتسمًا، يسأل: قديش؟، أجيب: 500. يقول: ضحكوا عليك. تختفي ابتسامتي. أكرهه على الفور، أرغب بالصراخ في وجهه: هاي بتسوى كل الدنيا، أعدِل، أعتلي الدراجة بسرعة ومن هناك نحو الخان، ثم الميناء، ثم ساحة عرفة، وإلى البوابة ثم… ما هذا الصوت؟ صوت هواء؟ هواء؟ من أين الهواء؟ من الأسفل.. العجل الخلفي يصدر تنهّدات غريبة. أقترب بأذني: بَنشرْ!! (يعني “ثقب” لمن لا يعرف عربية عرب الداخل). بَنشرْ! من أول غزواتو!

أستلّ موبايلي الحزين وأتصل بفراس الروبي. هو من نصحني بشراء الدراجة وقد رآها فور شرائي لها وكانت بوادر الحسد تنهمر من عينيه الزرقاويْن. وصفة أكيدة للحسد! أصرخ: شو خيا؟ بنشر! يفتعل فراس الحزن وينصحني بالذهاب إلى أبي داهود، فأفعل صاغرًا. أحدهم أخبرني يومًا بأنّ العجل (يعني الدولاب) يتلف نهائيًا إذا سرتَ عليه وهو خالِ من الهواء، فحملتُ دراجتي المصابة وسرتُ من قرب الثكنة البحرية العسكرية حتى جامع الجزار، كرّم الله مجازره.

“شو خيا؟ خير؟” سألني أبو داهود حين رآني حاملا خيبتي على كتفي، منتصب القامة، روحي متفرفطة، متعرقًا. قلت له: “عين! عين حسودة! فش غير فراس الروبي!”… “فش غيرو”، أجابني مؤكدًا، فاطمأنيت إلى أنني لا “أتبلى” على الروبي ذي العينين الزرقاوين، فتمتمتُ في سرّي وفكرتُ بالاتصال بأمي كي “ترقي” الدراجة الجديدة وتحرق بضع عيدان من الميرامية، كما تحب أن تفعل كلما سعل أحد منا. عدلتُ حين رأيتُ أبا داهود وهو يخرج قطعة معدنية من العجل ويرفعها لي مثل جرّاح عريق وكأنه يخرج رصاصة من قلب قتيل. أخذتها بيدي ونظرتُ إليها مليًّا: عين! عين!

إتصلتُ بالروبي وأنا أغادر دكان أبي داهود. اتفقنا أن نلتقي عند “البيغ”. كان فراس يجلس مع أشرف (البيغ) ويأكلان (وشخص ثالث) كبدة مقلية ودجاجًا فشدّوا بأكمامي كي آكل، إلا أنني رفضتُ مُصرًّا كي لا أمنح الروبي الحسود أية فرصة برشوتي. طلبتُ ثلثا من البيرة وصرتُ أشربها وأنا أتأمّل فمه كي أعرف إذا كانت أسنانه “فُرُق”، فتكتمل إذًا الحقيقة: “عيون زرق وسنان فرق”. هذه مواصفات الحسود.

ما خفّف من غضبي هو الغزل الجميل الذي صار يكيله الجميع على دراجتي الجديدة البيضاء من فيرمة “وينر”، فهدأتُ قليلا وأمعنتُ النظر في أسنان الروبي. لم أتيقن من وجود فُرق فيها، لكنه فضح نفسه حين بدأ يزاود على دراجتي ويمدح بدرّاجته الهبيانة التي ينشحد عليها في سوق عكا القديمة.

ولكنني نسيت غضبي من الروبي الحسود حين انفتحت سيرة سرقة الدراجات في عكا ومنطقتها. تهيّأتُ وأنصتُّ. كانت لكلّ واحد قصة عن سرقة دراجة واحدة على الأقل: سارقًا أو مسروقًا. أحدهم أثار رعبي حقًا حين نفى بسرعة أية حماية يمكن أن يوفرها أيّ جنزير تربط به الدراجة إلى أيّ عمود أو سياج حديديّ: “أنا ربطت بسكليتي بالعمود بالليل والصبح ملقيتش غير البدّانية (بتشديد الدال- والأغلب أنها تحريف لكلمة “بدن”، أي جسد الدراجة من دون المقود والدولابين وباقي العدة). نظرتُ إلى بدّانية دراجتي. لم أتراجع، قلت: “وهاد الجنزير شوف ما أخملو، من عند شْلون، والقفل اتطلع ما أكبرو”.

لم يُجدِ الأمر، عاجلني الجميع بالقول: “أيّا قفل خيا؟.. قال قفل!”

عدتُ فورًا إلى نظرية الحسد، فرأيت جميع الجالسين فجأة مثل الروبي: مع عينين زرقاوين وأسنان مفروقة. يا إلهي، كيف سأحمي دراجتي الجديدة؟ باغتني الهمّ فجأة، فانهممتُ. أخذت دراجتي وانسحبتُ بهدوء نحو البيت. قرب العمارة توقفتْ سيارة جاري أبو وردة ومعه العائلة، فباركوا لي بالدرّاجة ثم بدأ أبو وردة مونولوجًا عنيدًا حول الدراجتين اللتين سُرقتا منه، ثم صاح ابنه الصغير من المقعد الخلفي: “تحطش البسكليت على الفوتة! تحطش البسكليت على الفوتة!” وعلامات الحرقة في صوته المتهدّج…

تعسًا للعالم! أدخلتُ الدراجة في المصعد بعد أن رفعتُ الدولاب الأمامي نحو سقف المصعد كي تدخل الدراجة بالقوة. ربطتها إلى الدرابزين الحديديّ في الدرج المحاذي لشقتي في الطابق الرابع، بجنزيرين وقفلين، ثم نظرت حولي متأملا مطلع الدرج: أين يمكنني أن أنصب كاميرات مراقبة في هذا المكان؟..

أنا أكتب الآن هذه المداخلة ولم يمضِ على ربط دراجتي إلى الدرابزين أكثر من ساعة. يجب أن أخرج لتفقدها… ثانية فقط… ما زالت في مكانها. قد أنجح بعد أيام في نقل عدوى حبي للدراجة إلى أم محمود، فتصير مهمة الحراسة أسهل: ساعة هي وساعة أنا. هكذا نحمي وسيلة نقلي الجديدة، الخفيفة، السريعة، الودودة للبيئة. سأقول لها إنها عملية في التنقل ويمكنني أن “أنطّ” إلى السّوق كلّ يوم للتبضّع وشراء الخضروات والسّمك وطهي أشهى المأكولات لسموّ غضبها. ستقتنع لا شكّ فهي تحبّ أنني أطهو الطعام وهي تفرّ البلاد كلّ يوم بسيارتنا (تها) المُكلفة الفرنسية. سأفعل هذا وستُحلّ مشكلة ورديات الحراسة لا شكّ وسأنتصر على الروبي وحسده الأزرق اللعين!

أستحلفكم بالله أن تنظروا إلى الصُور المرفقة بهذه المداخلة؛ أليست دراجتي جنسية ومثيرة؟!

(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 29 تشرين الثاني 2008)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *