أوروفوار مونبرناس

في تلك اللحظة خُيّل لي أنّ باريس عربية؛ فالطاولة التي كنا نجلس إليها جمعت ثلاثة فلسطينيين (سهى من الناصرة، رائد من بيت لحم وأنا)، ثلاثة تونسيين (صالح وتوفيق والثالث نسيت اسمه) ومصرية (عزيزة). جميعهم يعملون في قناة “فرنسا 24” التي تبث باللغة العربية كقناة دولية. أضِف إلى ذلك أنّ أحدهم سكر سكرة شريرة وصار يخربط ويلبط في مقهى شيك في المونبرناس، ما غيرها، حتى خُيّل إليّ أننا في أحد مقاهي شارع أبي النواس في حيفا أو في “السُّوك” في الناصرة. إلا أنّ سكرة الفرنسيين تظلّ أخفّ ظلاً وأقلّ وطأةً وعدد الجرحى يقترب من الصفر (يا للعار)، لأنّ السكران كان يبرطم بالبونابرتية ويلوّح بقبضته في الهواء من دون أيّ فعل حقيقي يمنحه لقب “رجل” أو حتى “غُلام”. والظريف الأظرف أنّ النادليْن اللذيْن كانا مسؤوليْن عن “الاعتناء به” كانا من فينة لأخرى يمسكانه كي لا يقع على الأرض وهو يتفتف ويتوعّد، بلغة رومانسية عذبة رغرغت لها عيناي.

ولولا كتاب “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” لرفاعة الطهطاوي حول رحلته إلى فرنسا العام 1826، لكنتُ أسهبتُ في الجغرافيا والطوبوغرافيا وخفايا البورنوغرافيا في متحف الجنس الباريسيّ الشهير. ولكنّ الذين سبقونا كتبوا ولخّصوا، فتبقى لنا أن نتأمل ونتحسّر ونردّد ما ردّده الشاعر الفرنسي بودلير على ضفاف السّين:

“إنّ ذلك الذي ينظر من الخارج عبر نافذة مفتوحة، لا يرى مطلقا كثيرًا من الأشياء، كذلك الذي ينظر إلى نافذة مغلقة: فلا يوجد شيء أكثر عُمقًا وأكثر غموضًا، وأكثر خصوبة، وأشدّ عتمة، وأكثر إشراقا من نافذة مضاءة بشمعة. ذلك أنّ ما يستطيع الإنسان رؤيته في الشمس يعدّ أقلّ إثارة للاهتمام دائمًا من ذلك الذي يحدث خلف الزجاج؛ ففي هذه الفتحة السوداء أو المضيئة تحيا الحياة، تحلم الحياة، تقاسي الحياة.”

هذا ما ردّدته لنفسي وأنا أدخل غرفة الفندق الصغيرة لأوّل مرة. وفي مقارنة سريعة كان يمكنني بسهولة أن أتبيّن أنّ مساحة هذه الغرفة لا تزيد بكثير عن “الطشت” العصري الكبير والمُرصّع بالكريمات الذي يستحمّ فيه جلالة الطفل عُمري بن عنان بن محمود آل حليحل، ابن أخي. ولكنّ العزاء يظلّ في الأبعاد الفلسفية أعلاه التي ثبّتها بودلير، إلى جانب التسامح الكبير الذي يجب أن تبديه كزائر لباريس: الملايين الملايين تريد زيارة باريس ولذلك قرّر الباريسيّون تصغير الغرف في الفنادق (الرخيصة) كي يتّسع كلّ فندق لأكبر عدد من الزائرين، فتنشرح الأفئدة وتنفتح المفاتح (“ولا مؤاخزة”- كما تقول عزيزة).

تل أبيب-باريس

أعتقد أنّ الميترو، أيّ ميترو في العالم، هو أكثر الدلائل سطوعًا على التحضّر والتحدّث (معذرة على التسطيح). فإلى جانب التيسير والتسهيل الكامنيْن في نقل عصب المواصلات الرئيس إلى ما تحت الأرض، فإنّ فكرة نقل عملية الانتقال من مرمى البصر إلى ما تحته، يضفي على العالم الفوقيّ قيمة لا يُستهان بها من الطمأنينة بأنّ جميع الذين فوق يمارسون الآن الحياة نفسها، وليس الانتقال من قطعة حياة إلى أخرى، كما يفعل الذين تحت. أهو السبب في الاسترخاء اللانهائي الذي ينتابك (والجميع) على دكك المقاهي الصغيرة المدورة (إذا تجاهلنا ليتري النبيذ اللذين شربتهما خلال ساعتين)؟

ولكنّ باريس تقترب من تل أبيب، حيث أنّ عملية إيجاد شقة لغريب فيها صارت مهمة صعبة محفوفة بالإذلال والمهانة. فكراهية الأغراب (عربًا أم غير عرب) بدأت تتغلغل في النخاع الشوكيّ لدى “رومانسيي الأرض اتحدوا”، والقصص عن عمليات التحايل والتهرب والرفض غير الصريح التي تنهال عليك هنا، تذكرك بالقصص التي يتناقلها أجدادنا وأعمامنا وأصدقاؤنا عن الصعوبة الكبيرة في أن يجد عربي مكانًا للسّكن في تل أبيب “الليبرالية الأوروبية”.

وفي الناس المسرّة

ليلة الأربعاء-الخميس كان عيد ميلاد الروائية اللبنانية هدى بركات. ستة أشخاص متحرجمون حول ثلاث طاولات باريسية صغيرة (لماذا بهذا الصغر؟ فش خشب بفرنسا؟؟)، يتناولون شرائح اللحم والإوز والنبيذ والجعة ويحاولون الربط بين الجليل ولبنان، ومعرفة ما إذا كان عرق فلسطين يضاهي عرق لبنان أم لا. اسمه مقهى “الفلاسفة” ونحن أخذنا الموضوع بجدية كبيرة، فانهارت التنظيرات والتطريزات، يمينًا فيسارًا. لا يعقل أن تجلس في مقهى باريسيّ مع اسم مُلزم كهذا ولا تمسك شلّ سارتر وابن رشد، مرورًا بالشيخ الأكبر وانتهاءً بأسعار الوقود وعلاقتها بأزمة الفول في مصر.

في باريس يطيب الكلام وتشعر بأنك إنسان عاديّ، يسهر بمرح ولا يحسب حساب الغد، مثل باقي البشر. باريس، ميرسي كتير لألله.

 (نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 8 آب 2008)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *