دفاعًا عن “ماحاش”
في تقريره الأخير عن إغلاق ملفات قتلى هبة أكتوبر، قرر المستشار القضائي للحكومة، ميني مزوز، التنازل عن مهمّته الجماهيرية كحارس في وجه موبقات المؤسسة، وأصدر قرارا مخزيا ينضمّ إلى قرارات أخرى في ملفّات تحقيق جماهيرية عالجها المستشار.
لقد بدا مزوز، تباعا، مستشارا قضائيا متسامحا، محافظا ومخلصا للمؤسسة التي من المفترض أن ينتقدها ويلجمها. وتجلّى خنوعه بشكل صارخ في كل ما يتعلّق بمواطني الدولة العرب، حيث دعم رئيس الشاباك، يوفال ديسكين، قبل شهور عدّة، في كل ما يتعلّق بملاحقة أعضاء التجمع الوطني الديمقراطي وكلّ أولئك الذين يناضلون من أجل تغيير طابع الدولة عبر الأدوات الديمقراطية.
قرار مزوز الأخير إغلاق ملفات التحقيق ودعمه المطلق والمستهجَن لوحدة التحقيق مع الشرطيين (ماحاش)، تمخّضا عن “فأرين” شرّيرين بشكل خاص: تفهّّم السهولة غير المحتملة في قتل العرب مواطني الدولة؛ وتدعيم “ماحاش” كحامية لشرطيين مخالفين، بدل أن تشكّل جسما محقّقا ومراقبا ومعاقبا ومحذّرا.
فيما يلي بعض من حقائق أوليّة في تقرير مزوز:
كتب مزوز في تقريره أنه وطاقمه نفّذا استكمالا للتحقيق في ملفّات القتل. كيف يتلاءم هذا مع الدعم المطلق الذي منحه لقرار رئيس “ماحاش”، هرتسل شبيرو، والمُدّعي العام للدولة، عيران شندار، قبل أقل من عاميْن؟ لقد اعتقدنا أنّ استكمال التحقيق يعني أنّ التحقيق الأوّلي لم يُستكمل، ما يعني أنّ ادّعاءات مركز “عدالة” (ممثّل العائلات الثكلى) بأنّ التحقيق كان سطحيّا ويعتوره الإهمال- هي ادّعاءات متينة. فلماذا لم تحظَ “ماحاش” بالنقد على إغلاقها الملفّات؟
تقرير مزوز هو بصقة في وجه لجنة أور، التي فحصت الأحداث وأصدرت تقريرا مسهبا ومفصّلا. مثلا، قرّرت اللجنة، بعد نقاش وإفادات كثيرة، أنّ غاي رايف لم يكن مُعرّضا لخطر على حياته عندما أطلق النار باتجاه المتظاهرين في سخنين، ما يعني أنّ إطلاقه للنار لم يكن قانونيا. لكن لمزوز كان رأي آخر: لم يكن ممكنا القطع والتأكيد على أنّ إطلاق النار لم يكن قانونيا. أمّا ما هي الأدلّّّة الجديدة التي اعتمدها؟ فالله أعلم؛
لقد تجاهل مزوز طلب لجنة أور الذي وجّهه إلى “ماحاش” للتحقيق في جميع ملفّات القتل. وفي هذا الشأن قررت “ماحاش” عدم إجراء تحقيق في خمس عمليّات قتل (أحمد جبارين، علاء نصّار، محمد خمايسي، وسام يزبك وعمر عكاوي). كلّ ما هنالك أنّ “ماحاش” قرأت تقرير لجنة أور، وحلّلت ما توصّل إليه، وقرّرت أنّ لا مكان للتحقيق، وذلك بخلاف طلب اللجنة المفصّل. هذه الحقيقة لم تُشغل بال مزوز إطلاقا، برغم الإهمال والإستخفاف في خطوة “ماحاش” هذه. وقد اعتمدوا في “ماحاش” في هذه الحالات شهودًا لم يقابلوهم أبدًا؛
كان المتهم الرئيس في ملف التحقيق في مقتل أسيل عاصلة من عرّابة شرطيًّا بالبزّة العسكرية. وقد رفض هذا الشرطي ست مرّات الخضوع إلى فحص من خلال آلة فحص الكذب. هكذا، لم يرغب بأن يرهق نفسه. لو أنه كان رجل جمهور (أو مواطنا عربيّا متّهما بالقتل) ويرفض هذا الفحص بمثل هذه المنهجيّة، لقامت الدنيا ولم تقعد. هل ظننتم أنّ أحدًا قام بتنحية هذا الشرطي؟ هل فحصت “ماحاش” الأمر؟ هل وبّّخه مزوز أو لفت نظره؟
لقد تمّ طرح ادّعاء يثير السخط بأنّ العائلات الثكلى وموكّليهم رفضوا التعاون في التحقيق. نذكّر بداية أنّ هذه العائلات هي من نادى بتشكيل لجنة تحقيق لغرض إجراء تحقيق أكثر عمقا. وقد اجتهدت هذه العائلات وموكّلوها ووصلوا الليل بالنهار في تجميع معطيات وشهادات من مكان الحدث، حيث تمّ تقديمها إلى اللجنة في بداية عملها، والذي أمر بدفن جثامين القتلى مباشرة بعد قتلهم هي “ماحاش” نفسها. وبهذا العمل فإنّ “ماحاش” أعلنت في يوم الموت بأنّ لا مصلحة لها بالتحقيق حتى النهاية. ومن الجدير ذكره أنّ إخراج الجثث لن يؤدّي بالضرورة إلى كشف الحقيقة. وهو الأمر الذي كتبه مزوز بنفسه، مبرّرا أنّ مضيّ الوقت من شأنه أن يؤثّر على جودة الفحص. ويجدر الذكر في هذا السياق أنه توفّرت لدى “ماحاش” ثقارير التشريح لأربعة من القتلى. فهل أدّى هذا إلى تقديم لوائح اتهام؟
ونسأل: ما هي العلاقة بين إجراء تحقيق جدّي وحقيقي وبين قرار انتظار التعاون من طرف المصابين؟ ماذا لو أنّ مواطنا يقول إنه لا رغبة لديه للتعاون في حالة سطو أو قتل؟ هل ستقرّر “ماحاش” عدم مضايقته وتغلق الملف؟
كتب مزوز في التقرير أنه في أعقاب إتلاف جزء من الادلّة في مخازن الشرطة، لم يعد بالإمكان الوصول إلى الذخيرة التي استعملت في أحداث أكتوبر. ربّما يكون مُحقّا، لكنه ويا للعجب صمت وسكت إزاء إتلاف الأدلّة! عذرًا، ولكن ألا تنتظرون من مستشار قضائي لحكومة في دولة قانون أن يجري تحقيقا جنائيا ضد إتلاف أدلّّة وضياعها؟ وبأيدي رجال شرطة؟
مهمّة الشرطة هي فرض النظام، بينما وظيفة الجيش إخضاع العدوّ. لقد اعتمد مزوز و”ماحاش” لغة من صنع المحكمة العليا، أثناء تطرّق الأخيرة لسلوكيات الجنود في أرض المعركة. هذا هو عالم المصطلحات لديهما، إذ يبحثان أحداثا تتعلّق بعرب مواطني الدولة، بمصطلحات “عدو” و”ساحة حرب”. هذا هو النقاش الذي صبغ مسألة استعمال القناصين ضد المتظاهرين.
لقد داس مزوز برجل ثقيلة وصمّاء وجبانة أيّ احتمال لإحقاق العدالة. لكنّ دماء قتلى أكتوبر ستظل تصرخ حتى جلب قاتليهم إلى محكمة حقيقيّّة. ولدينا شعور بأنّ مزوز قرّر الإستمرار في الدعم الذي منحه، كي لا يسوّد وجه شبيرو وشندار، ووجهه هو نفسه، أمام الملأ، على حساب إحقاق العدالة.
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 6 شباط 2008)