يقطعني شو غامض!
أذكرُ، خيرًا اللهم اجعله خيرًا، أنّ أحدهم أصدر رواية (هكذا سمّاها على الأقل) قبل عشر سنين، تقلّ أو تزيد، شغلت القاصي والدّاني في أرخبيل “هيلل-مسادة” في حيفا، إذ أنّ الجميع “انبهر” من الرواية، كيف أنها “فلسفية” و”غامضة” و”فنية”، بدرجات هائلة، حتى أنّ أحدًا من المُتحدّثين المُتحمّسين المُتحَرجمين حول كؤوس الجعة، لم يفهم حرفًا واحدًا ممّا قرأه!
وقد شعرنا داخليًا بتعاظم الإحراج بيننا من أنّ قبيلة كاملة من الكُتاب وأنصاف الكُتاب وأرباع الكُتّاب والمُستكتِبين والمُثقفين والمستثقفين والمُتحرجمين حولهم مُنافسين على أحد هذه الألقاب، في ذلك الوقت من الزمن، لم تنجح في فكّ طلسم واحد من طلاسم السّطور المُتراصّة في الكتاب، فأخذت التفسيرات تزداد، والأصوات تعلو، كُلٌ مدافع عن طلسمه: فهذا يصرخ بأنّ الرواية تُسرَد على لسان نملة، وذاك يزعقُ بأنّ الرواية تُروى بالذات على لسان خُنفسة، وذاك يناضل من أجل تدعيم فكرته بأنّ الرواية كُتبت من النهاية إلى البداية، وآخر يقول إنها كُتبت من فوق إلى تحت، وآخرٌ يُشدّد على أنّ هذه الرواية هي فاتحة جانر جديد هو “جانر الغموض العربي”، مُتناسيًا أنّ مثل هذا الجانر بدأ منذ زمان، مع ولادة وليد جنبلاط.
وقد ازداد الإعجاب ونما حين بدأت الشائعات تصل حلقات الفكر (الخالية من الفكر) في المقاهي الحيفاوية عن شخصية الكاتب، وكيف أنه غامض بنفسه، في حياته وتصرفاته (يعني: مُعقد، ولكنّ السياق وقتها لم يسمح بمثل هذه التسميات)، فاستعر خيال المُتحلقين حول “توستات” الجبنة والمرتديلا، وصار أحدهم يهزّ رأسه شمالا، والآخر يسارًا، حتى اهتزّتِ الرؤوسْ، في هزٍّ ضَروسْ، فوق الصّحون والكُؤوسْ.
وكنتُ في ذلك العهد قد قطعتُ مراحلَ متقدمة (مُرضية، ولكن ليس بحجم ما هي عليه اليوم) من تطوير شخصيتي الفتية كوقح “لا تنسوا التداعيات المخفية على مقوّمات الحبكة الدياليكتية!)، فتلفظتُ وقلتُ ببعض الحذر وبكثير من الشجاعة: “بس الكتاب خرى”!
في البداية أقنعتُ أحد الأصدقاء بوجهة نظري، في الصباح الذي تلا غزوة الكتاب في الليلة السابقة (وسأعفيكم من تفاصيل الغزوة الفكرية ضد المُرتدّ الزنديق (أنا) على كُفره وفجوره العظيمين، لأنها مؤلمة لي على المستوى الشخصي ولا زلتُ أتعاطى البروزاك من وقتها). وقد كان إقناع هذا الصديق سهلا، إذ أنه كان ينافس (مثلنا جميعًا) على لقب “كاتب”؛ ولأنه كان كسولا مُزمنا (مثلنا جميعًا في ذلك الوقت) فإنه لم ينظر بعين الرضا إلى ذلك الكاتب الغامض الذي أصدر كتابًا غامضًا وشغل القوم بطلاسمه، وبالتالي نجحتُ في استثارة “أناه” المتضخّمة (مثلنا جميعًا في ذلك الوقت) وجلبه إلى صفّي بأنّ “الكتاب خرى”، وهكذا تبدّدت وحشة وحدتي في معكسر الصريحين، وصرنا اثنين، بعد أن كنتُ واحدًا أحدًا، جلمودًا صمدًا. وخلال يومين “سقط القناع” ونجحتُ في إقناع الجميع بصدق حجتي وبأننا مُزيَّفون ونبحث عن استمناء فلسفي نحاول سَبغَه على كل ما يدور من حولنا، كي نقنع أنفسنا بأننا لسنا مجرد سِكّيرين مثيرين للشفقة نسهر حتى الصباح نجترع الجعة وكونياك “إكسترا فاين” (الشهير بأبي زبلة). بل هيهات ثم هيهات! فنحن مجموعة من الناس العميقين والفلسفيين، نُنتج وعيًا وثقافة وحِراكًا (كلمة “حِراك” كانت جديدة في ذلك الوقت، وكنا نستعملها بدلا من “ديناميكية” للتدليل على أننا مُطّلعون ومُتمكنون من العربية وخفاياها، فلكُلٍّ حِراكه، يدحشه في كل جملتين أو ثلاثٍ، والعار العار لمن قال ديناميكية، مع أنني لا أفهم لليوم في أيّ سياق يمكن أن ترد كلمة حِراك أو ديناميكية، في محادثة لخمسة شبان وشابات، في الثالثة صباحًا، يتحدثون على الناصية عن الصرصور الذي وجدته الرفيقة في حمامها!).
وكنا مقتنعين في تلك الأيام، كذلك، بما قاله الرفيق المناضل أوسكار وايلد: “كُلُّ ما أعجبَ الناسَ، فهو خطأ”، مُتناسينَ أنّ الناس قد تُعجب فينا يومًا (كما حصل مع بعضنا لاحقًا)، وأننا سنقع في مطبّ نخبويتنا المفرطة. وكان إيماننا بأنّ الثقافة والإبداع هما الأرقى، وباقي الناس همج يشاهدون القناة الثانية ويقرأون “معريف” و”الصنارة”، بينما نشاهد نحن “القناة الثامنة” ونقرأ “هآرتس” وملحق الكتب في صحيفة “صاندي تايمز” (ملحق جيد على فكرة). وكنا دائمًا نتبرّم من أنّ الناس لا تقرأ ما نكتب لأنّ الذين يقرأون الصحيفة التي كنا نعمل ونكتب فيها وقتها لم يزيدوا عن عدد كلمات المقالة نفسها (لا أعتقد أنّ الوضع تغير معي كثيرًا من يومها)، وهكذا كنا نحبّ أن نجلس لساعات وأن نسخر من عموم الناس، من الرعاع، من أذواقهم ومن سلالم أولوياتهم، وممّا يحبونه، وصرنا نكره أوتوماتيكيًا كلَّ شيءٍ يَرُوج وينتشر، فصار نزار قباني مَلطّة القعدة، ومن بعده انضمت أحلام مستغانمي إلى قائمة المَشتومين (مع أنها فعلا كاتبة رديئة وسخيفة)، ولا زلتُ أشفق على عمرو دياب وما لاقاه من ويلات عند الناصية إياها، مقارنة بعبد الوهاب وعبد المطلب.
بعد أن كبرتُ قليلا، صرتُ أسمع عمرو دياب، واستعدتُ بعضًا من حبي لنزار قباني، حتى إنني لم أعد أغلق الراديو في السيارة حين تظهر أليسا أو هيفاء، تغنيان، وفي الأغلب لم أعد أفعل ذلك خوفًا من غضب أم محمود، ولكنني تعلمت، بالتجربة والمقارعة، أنّ الناس أذكى مني، وسليقتهم لا تقلّ مكانةً وحكمةً عن ادعائياتي الفكرية والتنظيرية، وأنه علينا، نحن المتعربشين على حافلة الجدية و”الرّقي”، أن نعيد النظر قليلا فيما نقول ونفعل، ولكن والأهم، أن نهطل من عليّ تنظيرنا واستعلائنا على القوم، وأن نتحلى بما يكفي من الشجاعة كي نقول بهدوء وبثقة: أم كلثوم رائعة، ولكننا لا ننكر حب الناس لنانسي عجرم، فلماذا نحن المُحقّون وليس الناس؟ من نحن أصلا؟ هل إذا قرأنا ألفيْ كتاب وكتبنا ومثلنا وأخرجنا وغنينا، نصير قيّمين على الأذواق والرغبات؟ من قال إنّ نجاة الصغيرة ثقافة، وروبي ليست ثقافة؟ هل هو المضمون؟ وما المانع في أن ينتج المرء أمورًا من غير مضمون؟ هل يفكر أحدهم بمعاني كلمات أغنية “أخاصمك آه” وهو يهزّ خصره بعنفوان في قاعة العوادية؟؟ لماذا نستخفّ بحاجة الناس إلى ترفيه؟
وهكذا، ومن منطلق استعلائي بغيض (غير مفهوم لي اليوم بالمرة) اخترعنا أهمية ذاتية لما نحب ونستهلك، وصرنا نبجّل الغامض وغير المفهوم، و”الكثيف” و”المليء بالدلالات”، حتى لو لم نفهم هذه الدلالات، وحتى لو لم يكن الكاتب أو المبدع نفسه يفهم هذه الدلالات، عملا بمقولة أوسكار وايلد (مرة أخرى) الطريفة: “إنني ذكي جدًا، لدرجة أنني لا أفقه كلمة واحدة مما أقول”. وقد وقع عبدكم المطيع ضحية هذه النزعة، في سابق عهده، حيث كتبت قصة أو اثنتين لا زلت لليوم لا أفهم منهما شيئًا، ولكن، ولأنّ دوائر الغموض تسيطر على النخب في كل مكان، أوردت قصة منهما في مجموعة حصلت على جائزة وأعطوني لقاءها نقودًا، ولو تجرأ أحد أعضاء اللجنة اليوم وقال إنه يفهم هذه القصة لعلقته في ساحة باب الدير الشفاعمرية!
ونعود إلى أوسكار وايلد، حيث قال المغفور له: “الشاعر الفذ، أقصد الشاعر الفذ بمعنى الكلمة، هو رجل خلت حياته من الشاعرية. أما صغار الشعراء فيسحرون الدنيا بشخصياتهم العجيبة، وكلما انحطت قوافيهم ارتفعوا في أعين الناس، حتى لتجد أنّ مجرد نشر ديوان من الشعر الرّكيك يجعل من صاحبه شخصية تأسر القلوب. فصغار الشعراء يمارسون الشعر الذي عجزوا عن قوله، وكبارهم يقولون الشعر الذي خافوا من ممارسته في الحياة”. إذًا فهي تعويض، هذه الحاجة للغموض، للتميّز، لصنع هالة من هزّ الرؤوس (التي لم تفهم) بعد قراءة شعر أو قصة أو مشاهدة فيلم أو مسرحية. هي مباراة بين الجودة وبين هالة الجودة، بين الإتقان وبين وهم الإتقان. فتعالوا نكون صريحين مع بعضنا البعض: هل يمكن لأحد منكم أن يشتم عملاً إبداعيًا، إذا لم يفهمه؟
كان هذا فولتير الذي قال “كل رجل مذنب بسبب الأشياء العظيمة التي لم يفعلها”. أعتقد أنّ كل مبدع مذنب لهذا السبب، خصوصًا أنه أجّل الأمور العظيمة التي كان يمكن أن يصنعها، لأنه كان يبحث عن مفردة ميتة في “لسان العرب” أو عن جملة مبهمة تنافس إبهام “في انتظار غودو”، كي يكتبوا عنه (من لم يفهموا شيئًا مما كتبه) أنه مُبهم وغامض.
(نشرت هذه المادة في تاريخ 19 كانون الثاني 2008)