رواية “أرفوار عكّا” لعلاء حليحل: كلٌّ فينا يحمل “جزّارًا” صغيرًا داخله
حاورته: سحر مندور- “السفير” | تشرين الأول 2014
في رواية “السقوط” (1956 – غاليمار) لألبير كامو، يشعر القارئ بالبطل يهوي من الذات المقبولة اجتماعياً في قلب مدينة نابضة، إلى تلك الخارجة تماماً عن أدبيات البرجوازية الصغيرة في قعر مدينةٍ أخرى. حادثٌ أيقظ هبوطه، فواجه نفسه، تجارب مدفونة في ماضيه، تَشابَه معها، فخرج عن الصورة الحديثة. في “أورفوار عكا” (2014 – دار الأهلية / عمّان) للأديب الفلسطيني علاء حليحل، يحصل العكس تقريباً: ننطلق في الرواية من أحمد باشا الجزّار كما درسناه وقرأنا عنه، شخصيةٌ تجسّد الرعب الذي روي عنها وأكثر، تطير من حوله الرؤوس تماماً كما يُبقي على حيواتٍ لأسباب منفعية.. لنصل في آخر المطاف إلى مشهدٍ آخر تماماً، لا يلغي هذا كله، لكنه يخرج عنه بعد مواجهة الذات والماضي والعدو. يخرج أحمد من الجزّار، بطريقةٍ او بأخرى.
تروي القصة أياماً من حصار الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت لعكّا في محيط العام 1798، مدخلنا إليها هو سفينة أقلت نساءً فرنسيات متطوعات للترفيه جنسياً عن جنود الحملة، كمساهمة وطنية منهن في دعم الأمبراطور المحبوب. عبر السفينة، ندخل إلى عكّا. ولا فارق كبيراً بين عالم السفينة الفرنسية وعالم عكّا المحكومة من والي العثمانيين، بلغة الجريمة والقرف والبطش والجنس والمرأة.
من السفينة، ندخل إلى حكم الجزّار، إلى رعب المجتمع من فئاته المتعدّدة، الاختباء حصّة كل من ليس “المواطن المثالي”، أي المُسلم الذكر المنتج المنفّذ للأحكام كاملةً الخاضع للوالي تماماً. وصيغ المثالية تتغيّر بتغيّر اللحظة والمزاج، كما أن السلطة نظامٌ يُطبّق من أعلى الهرم إلى معارضته. فتطير الرؤوس من حول الجزّار على نحو مذهل. لغضب، لعصبية، لإحراج، لأيّ سبب، تطير الرؤوس. وكلما تعرّفنا إلى شخصية، تراها تنتهي بعد قليل، بعد انتهائها من أداء دورها في خدمة السياق الحاكم: سياق الرواية وسياق الحكم أساساً. فتتجلى محورية الإنسان كدور، وليس كقصة مستقلة عن مجرى السلطة. دورٌ، تنعشه وتنهيه السلطة متى احتاجت أو حتى شاءت.
يدخل المرء إلى الرواية، بحذر. هي مبنية على بحثٍ تاريخيّ، وخيالٍ أدبيّ. يتداخلان، فلا يأمن المرء تماماً للمعلومات في ما يقرأ حتى يستسلم. يستسلم تماماً لما يبتدي الذهن يرى نفسه واقفاً في قلب هذه الأحداث، في صدر البلاط إلى جانب الجزّار، في غرفة نومه، عند سور عكا، بالقرب منه هذا الفرنسي الخائن، هذا اليهودي الخائف، هذا المسيحي المتخفّي، وهذا القاتل.. ترى العين النساء يتطايرن في القصة كأقراص تصطادها الأيدي والبنادق، يُنتقم منهن بلا حتى اكتراثٍ لتعريف الفعل كانتقام، بلا اكتراثٍ لتعريفها كإنسان. شيء من بين هذه الأشياء المتطايرة كالأعناق. ترى العين الطاعون يتقدّم ويجتاح وجوهاً وقصصاً، فيخاف المرء من التقاط العدوى.. ترى نابليون وحبيبته جوزفين، الجزّار وقد بانت له “حبيبة”.. كلما يتقدّم المرء في القراءة، يمسك أكثر بعكّا، لكنه يمسك أيضاً بالزمن. هذا الزمن الذي نعيش فيه، وهو ابنٌ أمين سياسياً وعسكرياً وجنسياً وعلاقتياً على زمن الجزّار، ولو تغيّر الديكور.
لا تسعى الرواية لإحداث تطابقٍ ما بين حاضرٍ وماضيه، لا بل هي تغدق في عيش الزمن الذي ترويه، حتى يكاد المرء يسمعهم يتحدّثون من حوله بكلمات نعرفها وبكلمات نتعرّف إليها. وفيها شخصيات يرافقون الذهن خلال قراءة الرواية، يقيمون في زاويةٍ أليفة منه. الخازوقجي عبد الهادي هو شخصٌ يصعب نسيانه. أشهر “خازوقجي” في زمن المنطقة. يقوى على استنزاف ضحيته لأربع ايام متواصلة مثلاً. فالهدف من الخوزقة ليس القتل، وإنما العقاب. مفهوم العقاب يطول أمده، بينما الموت هو الرحمة. “المذنب” يشتهي الموت، لا العقاب. ونرى الخازوق يُصنع، نفهم آلية عمله، نراه يدخل، … نرى الكثير في هذه الرواية.
وكل ظاهرٍ فيها لا يبقى على حاله طويلاً. وكلّ عابرٍ فيها لا يطيل بقاءه طويلاً.
هنا لقاءٌ حول “أورفوار عكّا” مع علاء حليحل. كما تمكن مراجعة مقاطع مختارة من الرواية للوقوف على جوّها العام، في زاوية “شيءٌ من كلّ”.
• كيف تغيّرت علاقتك بأحمد باشا الجزّار خلال كتابة الرواية؟
سأقسّم الإجابة إلى قسمين: قسم البحث والتحضير، وقسم الكتابة. في الفترة الأولى من البحث والتي امتدّت على سنوات، قرأتُ عنه الكثير، وعن أفعاله وقساوته، وكان رأيي فيه واضحًا: طاغية ويدكتاتور مريب. لكنّ الانتقال إلى مرحلة الكتابة وبناء الحبكة وبلورة الشخصيات لا يمكن أن يسمح بمثل هذا الحكم الأخلاقيّ. فالشخصية الأدبيّة والدراميّة تحتاج إلى أبعاد عديدة تعكس عالمها الداخليّ والخارجيّ، وكان عليّ أن أنفذ المبدأ الصارم والعنيد بخصوص الكتابة وهو: أحبْ شخصياتك! وهكذا، تحوّل الجزّار من شخصية تاريخية كريهة إلى شخصية أدبيّة مدوّرة لها عالمها وصراعاتها وأفكارها ونقاط ضعفها. لقد أنجزت شخصيّة أدبيّة مختلفة عن الشخصية التاريخيّة، وهذا جزءٌ من لعبة الخيال والواقع. أنا أعيش اليوم مرحلة ثالثة، وهي تحفّظي عن الرواية كلّها وعن شخصيّة الجزار. فأنا لا يدوم حبّي لكتاب جديدٍ أنجزه أكثر من شهرين أو ثلاثة.
• كيف أعدت بناء شخصية الجزّار تاريخياً؟ وكيف بنيت عالمه الداخلي؟ لماذا اخترت نفض الشراسة عن الجزّار، مع انتصاره في ردّ احتلال عكا؟
قرأت ثلاثة أنواع مختلفة من المراجع التاريخية عن الجزّار وحصار نابليون وحملته: المراجع الفرنسية (مترجمة إلى الإنجليزية)، والمراجع العربية والمراجع العبرية. وقد أثبت لي التنقّل بين المراجع نهائيًا أنّ التاريخ ليس علمًا بأيّ شكل، بل هو أيضًا رواية تُروى من وجهة نظر كاتبها، وهذا شجّعني أكثر على خلط الواقع بالخيال، فقمت بمقارنة المراجع طيلة الوقت، و”سرقت” من كل مرجع بعض الأفكار والقصص والمميزات التي كانت ضرورية لبناء الشخصية كما أريد. وقد راوحتُ طيلة فترة التفكير والكتابة بين محورَيْن: محور البناء السرديّ ومدّ الخيط المتصل من البداية للنهاية في قصة الجزّار، ومحور بناء عالمه الداخليّ الذي يسمح ببناء هذا الخط، حيث أنّ قرارات الشخصية الأدبية ودفعها للحبكة باتجاهات معينة تنبع بالأساس من صراعاتها الداخليّة، إلى جانب المعطيات الخارجية المحيطة بها. أمّا بخصوص “نفض الشراسة” عن الجزار كما تسمّينها، فهي خدعة قمت بها ابتداءً من مطلع الفصل الثاني في الرواية تهدف لإحراج القارئ ووضعه في معضلة أخلاقية: هل يعقل أنّ الجزار بكل سطوته وجرائمه لا يمثل الشر المطلق، وهل هو شخصية تراجيدية في النهاية يمكن التماهي معها؟ أنا راهنت على أنّ كلّ واحد فينا يحمل “جزارًا” صغيرًا في داخله، ورغبت بكسر التفكير النمطيّ المتعلق بالأحكام الأخلاقيّة التي نمارسها على الشخصيات والأحداث.
• ما مساحة التاريخ مقابل مساحة الخيال في الرواية؟ كيف توازنان، في الأحداث وفي الشخصيات؟
التاريخ والخيال متمازجان، ولو رغبت حقًا بنسب دقيقة لقلت مخاطرًا: 50/50. هذه اللعبة خطرة، لا يمكن الانتصار عليها وإتقانها كما يجب، من دون قتل الوهم القائل بوجود حقيقة تاريخية علمية لا يمكن نقضها. في اللحظة التي اكتشفت فيها تضارب الروايات واختلافاتها والبعد السياسي في كل رواية ورواية، بدأت بالتعامل مع الرواية التي أكتبها بأنها صيغة جديدة للحصار ولقصة الجزّار، كان يمكن أن تحدث وقتها، باحتمالات وقوع الصيغ الأخرى نفسها، أي انني تخليت عن “الدقة” و”الأمانة” في نقل الأحداث والشخصيات، تمامًا كما يفعل أيّ مؤرخ. أعتقد أنني كنت وقحاً بما يكفي للتمرّد على هذه التقسيمة المفترضة بين الواقع والخيال ونبذها تمامًا من ذهني وأنا أكتب. أنا مقتنع اليوم تمامًا بأنّ شخصية عبد الهادي عامل الخازوقجي شخصيّة حقيقيّة، رغم أنها من وحي خيالي. السؤال الحاسم يظلّ: هل من المعقول الافتراض أنّ هذه الشخصية كان يمكن أن تكون حقيقية في ذلك الوقت؟
• الروائح، الإفرازات الجسدية، الدم، الأحشاء، الجنس، … ترسم صورةً فجّة جداً، وتغدق حتى بعد إيصال المشهد والمعنى. لماذا؟
لا توجد حروب ناعمة أو لطيفة. لا يوجد استغلال للنساء حضاريّ أو مهذّب. لا يوجد قتل ودماء لا يثيران الرغبة بالتقيؤ. هل سأكذب وأجمّل الواقع من أجل الحرص على نفسية القراء؟ لا لن أفعل ذلك أبدًا. ولا تنسي أنّ القتل والدمار المحيطين بنا اليوم على الشاشات الكبيرة والصغيرة يفوقان ما جاء في الرواية بأضعاف. أعتقد أنّ قسوة الحرب الأخيرة على غزّة تفوق أيّ عنف متخيّل يمكن أن يتجرأ المرء على صوغه في رواية أو فيلم أو مسرحية. لم أكتب ولو للحظة أيّ كلمة تزيد فظاظة أو قسوة عن الواقع الذي نعيشه اليوم.
• لا بطولة لامرأة في القصة، رغم انها تدور حول مركب النساء. ولا حضور لنساء خارج كتلة الاستغلال الجنسي إلا عبر “خيال” الرجلين، بونابرت والجزّار. لماذا؟
أنت على حقّ، وهذا نبع من قرار مبدئيّ متعلق بإحدى ثيمات الرواية: الحرب لعبة ذكوريّة حقيرة والنساء مرشحات دائمات ليكُنّ أولى الضحايا. لقد قررت في النهاية أن تظل ساحة الحدث حصرية على الرجال، من خلال شخصيات الرواية البارزة، وحصرت حضور النساء في خانة الاضطهاد والقتل والاغتصاب. أعتقد أنّ تغييب النساء في الرواية عن ساحة الأحداث المركزية عزّز من الشعور بأنّ كلّ الأذى والمكاره التي تحدث في الرواية سببها الرجال ومرتكبوها رجال. أرجو أن يكون قراري صائبا في هذا وللقراء الحكم طبعًا في نهاية المطاف.
• سفينة النساء الفرنسيات المتطوعات للترفيه عن الجنود، ألا تعيد قراءة مفهوم “جهاد النكاح” بأدوات السلطة، بدلاً من احتكار التفسير الديني له اليوم؟
صحيح تمامًا. إنه جهاد نكاح “بار إكسيلانس”، وأنا شاكر لك على قراءتك الثاقبة لهذا “الموتيف”. مثلاً، كل أجهزة المخابرات في العالم تستخدم عميلات جميلات من أجل الإيقاع بشخصٍ ما، وهُنّ في نهاية الأمر يقمن ببساطة بالنكاح في خدمة الوطن، تمامًا كما ناجت بائعة الهوى برناديت نفسها في مطلع الرواية.
• الدين يحضر على مستويين: وسيلة في الحرب، ووسيلة في حفظ الهوية (المسيحيون المختبون، اليهود الكامنون). كيف يتجاوران؟
الدين جزء من السياسة وبالعكس. والسياسة وجه الحرب الثاني، والدين انعكاس لهذين الأمرين. هذا خليط لا يمكن فصله. الروحانيات الموهومة في الدين وشعائره ليست إلا أدوات وآليات اُخترعت من أجل تخدير الجماهير وحشرها في خانة السلبيّ الذي ينتظر الفرج من السماء. ولعظم هيمنة الدين ونجاحه في هذه المهمة، تحوّل إلى مقوّم مركزيّ (وربما الأول) في تعريف هويات الناس. إنها سلسلة من التشابكات التي لا يمكن فصلها، وعلى هذا الأساس استحضرت “الموتيف” الديني في الرواية كـ”موتيف” مركزيّ بكل تأكيد.
• يتشكّل سور عكا السياسيّ أو القيادي من جزّار وفرنسي/خائن حانق ويهودي خائف وأزعر هائج ومترجمٍ مسيحي متخفٍّ، نقل اسمه وصفته إلى لغةٍ يقبلها البلاط. كيف اخترت خريطة أبطالك؟
أنا صارم جداً في مبادئ السرد: لا مبرّر لوجود أيّ شخصية ما لم تخدم الحبكة وتساعد الشخصية المركزية على المضيّ قدماً في الرواية. بهذا المعنى، كل الشخصيات المرافقة للجزار أتت لخدمة جانب معين من شخصيته، أو لدفعه على التصرّف أو التغيّر نحو النهاية. الفرنسي الخائن كان يمثل الجانب الخيانيّ في حياة الجزار، وهو خان الكثير وانقلب عليهم. اليهوديّ الخائف والمسيحي المتخفّي هما ممثلان لأقليتين دينيتين، أتى الجزار من واحدة منهما، ويطرحان ثيمة الأقلية مقابل الأغلبية وما يمكن أن يفعله المرء في صراع البقاء. أمّا الأزعر الهائج فهو راسب من رواسب تاريخ الجزّار في مصر، حيث اكتسب كنيته بفعل مجازره وبطشه. ناهيك طبعًا عن أنّ الفرنسي واليهودي والأزعر الهائج هم شخصيات حقيقية وردت في كل المراجع.
• لقاءات الليل بين الجزّار ونابليون تستحضر مشهد المواجهة بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد، في فيلم “الناصر صلاح الدين”. كلاهما يحدثان في حصارٍ لمدينة من مدن فلسطين (عكا، والقدس). لماذا برأيك نحتاج رؤية القائدين المتحاربين يلتقيان في مساحة شخصية خارج الحرب؟
الصراحة أنّ هذا التناص لم يرد في بالي أثناء الكتابة، مع أنه قد يكون حاضرًا في اللاوعي بكلّ تأكيد. الخدعة التي استخدمتها باستحضار نابليون عبر هلوسات الجزار نبعت من ضرورة كتابيّة بالأساس: اكتشفت أنني لا أريد كتابة رواية تتنقل بين داخل الأسوار وبين معسكر الفرنسيين، بل طورت رغبة كبيرة في التركز في الحصار الداخلي: بكل مستوياته. وهكذا، فإنّ حضور نابليون كشخصية ثانوية جاء ليخدم الرواية التاريخية من جهة وليكون العامل المؤثر والمحفز الذي يدفع الجزار نحو التغييرات التي يمرّ بها عبر الرواية.
• تتسلّل إلى نصّك انفعالات وطنية يقدم عليها أفراد أو جماعات، رغم أن أجواء التآمر الدموي هي ذاتها أجواء الثورة على الطاغية. كيف يولد الشعور الوطني في محيطٍ على هذا القدر من الخوف والصمت والقرف؟
سؤال مثير جداً، وهو السؤال المركزي الذي طرحته في الرواية. من يقرأ الرواية سيرى أنّ إحدى الوقعات فيها هي تنصيص شبه حرفي لخطاب قاعة الخلد الذي ألقاه صدام حسين بعد تسلمه مقاليد “حزب البعث” وتصفية “الخونة”. ماذا يفعل شعب ما يئن تحت وطأة طاغية قاتل إذا ما وقع تحت حصار غازٍ استعماريّ؟ هل سيظل مخلصًا للقيادة التي تدافع عن البلد أم أنه سيتآمر مع المحتل للتخلّص من الطاغية؟ ثمة خلط واضح بين الحسّ والانتماء الوطنيين في وجه الغزاة وبين الكراهية الكبيرة للشخص الذي يقود معركة الدفاع في وجه الغازي. أنا لا أملك جوابًا قاطعًا على ذلك.
• مجتمع عكّا الذي رسمته مختبئاً في الدين والرأي، خائفاً وعنيفاً معاً، أين هو من احساس العيش في عكّا الراهنة؟ وأين ترى مجمل الرواية من واقعنا؟
لقد تحول الاستعمار من القوة الخشنة إلى القوة الناعمة. وبدلاً من شنّ الحروب المنهكة والطويلة والمكلفة، يمكن فرض الهيمنة عبر وسائل اقتصادية وثقافية. الحصار الذي تخضع له عكا اليوم محسوس وملموس عبر شراء بيوت وأملاك في عكا القديمة، وتسليمها لجمعيات صهيونية تريد تهويد البلدة القديمة وإفراغ العرب منها. هذا حصار لا يقلّ ضراوة عن حصار نابليون، مع أنه لا يتمّ بالمدافع والطائرات، بل بالعمل “وفق القانون” وعبر التأثير الاقتصادي والمالي المباشر.
• استعملت لغتين من عصرين: عصر العربية الفصحى الراهن، وعصر التهجين بين التركية والعربية والفرنسية وسواها في “نهايات 1978″، حيث تقع الرواية. لذلك قيمة معرفية يومية، فهل كان ذلك لتأمين روح الزمن في الرواية، أو لغير ذلك أيضاً؟
كنت بحاجة إلى لغة يومية يتحدث بها الناس عام 1799. من الواضح أنها لا تشبه عاميتنا اليوم، ولذلك اخترعت لغة هجينة تعتمد على الفصحى الركيكة التي كانوا يكتبون بها وقتها وعلى المفردات التركية التي كانت شائعة جدًا، وعلى عنصر متخيل افترضت أنه صحيح في السياق: اللهجة البدوية. فظاهر العمر، حين أعاد بناء عكا، جلب إليها من عائلته ومقربيه ومن البدو وأجانب من أوروبا. لقد كانت عكا وقتها خليطًا كبيرًا من الإثنيات والديانات، ومن أجل إكساب اللهجة المتخيلة علاقة بواقع المكان اخترت أن أطعّمها بلهجة “الزيادنة” (أهل ظاهر العمر) والقبائل التي استوطنت عكا عند إعمارها. إلى جانب ذلك، أنا أحبّ العامية كثيرًا وأعتقد أنها أكثر رشاقة وحياة من الفصحى المعيارية، وأهتمّ منذ سنوات بكتابة الحوارات في أيّ عمل سرديّ بالعامية من أجل “تلوين” الشخصيات وإكسابها نبضًا حياتيًا حقيقيًا.
• تعدّد الجنسيات في إطار الولاية الإسلامية، النساء كأدوات ترفيه في الحرب، حصار الغرب التوسّعي واختناق الشرق بذاته… كلها، في صيغتها الراهنة، ليست غريبة عنا. فلماذا برأيك نستغرب حدوثها اليوم وهي تاريخنا القريب؟ لماذا لم ننمِّ مع الزمن علاقة مختلفة بإدارتها؟
لا أدّعي أنني أحيط بمعرفة أو دراية كل هذه العوامل، ولكنني أعتقد أنّ اضمحلال القدرة على ممارسة التعددية هو السبب الرئيس لهذا الواقع المستمرّ الذي نعيشه منذ مئات السنين. لا علاقة للاستعمار في هذا، والاستعمار غزانا ونحن ضحايا هذه العصبية والتأخر الذهنيّ الذي أصبنا به. ما زال الواقع العربيّ في 2014 ضيق الهامش وخانقا فكريًا تمامًا كما كان وقت الجزار.
• على مستوى النشر، طبعت روايتك مع الدار الأهلية – عمّان. ما هي الخيارات أمام الأدباء الفلسطينيين في أراضي 48 لإصدار رواية؟ وهل صدرت/ستصدر “أورفوار عكا” بالعبرية؟ في الحالتين، لماذا؟
طُبعت “أورفوار عكا” بطبعتين: الأولى لدى الأهلية في عمان لتكون الطبعة العربية الدولية، والثانية لدى “كتب قديتا” في عكا لتوزع في الداخل الفلسطينيّ. نحن مضطرون لهذه المزاوجة كي نضمن توزيع المنتج الأدبي لدينا في الداخل وفي أرجاء العالم العربيّ. ما لم أفعل ذلك فستوزع الرواية في وضعية أحد الخيارين: إما في بيروت وإما في عكا. الانتماء إلى الفضاء العربي الرحب يجب أن يتم عبر حلول تقنية وتوزيعية تضمن التواصل. لن تعرفي مقدار السعادة حين يسألني شاب من الناصرة عن مكان بيع الرواية فأدلّه على المكتبة، وحين تسألني صديقة من بيروت، فأدلّها على مكتبة في بيروت. أمّا بخصوص الترجمة للعبرية فهي مطروحة، كما جرى مع مجموعة “كارلا بروني عشيقتي السرية”. وأرى في الترجمة للعبرية جزءًا من الترجمات للغات الأجنبية ولا أتعامل معه كإنجاز متميز بالمرة. ولو حَمَلَتْ كتبي رسالةً ما تؤثر في القراء اليهود ولو بقليل فأعتقد أنّه أمر حسن، رغم وعيي الكامل لصعوبة حدوث ذلك. كي أكون أكثر وضوحًا: أنا لا ألهث لترجمة كتبي للعبرية ولكنني لا أرفض ذلك لو حصل، تمامًا كما قد يحصل مع اللغة الفرنسية أو الألمانيّة. أعرف أنّ تعاملي مع العبرية بحياد، رغم أنها لغة الصهيونيّة المهيمنة، قد يبدو غريبًا للبعض، ولكنني كأديب لا أستطيع أن أعادي لغة، ولا أستطيع أن أنكر أنّ العديد من النصوص المشرّفة والثورية والمناهضة للصهيونية كتبت بالعبرية أيضاً.
• كيف برأيك تكون المقاطعة الثقافية في خدمة قضية التحرّر من المحتل؟ ما هي الخطوات التي تجدها واجبة راهناً لتحديث هذا المفهوم؟
أنا أعتقد أنّ المقاطعة الثقافية هي معركة غير مجدية بصيغتها الحالية. ما يؤلم إسرائيل فعلاً هو التركيز على التطبيع الأمني والاقتصادي. على هذين الأمرين يقوم المشروع الصهيونيّ، ومنع مُغنّ عالميّ من الغناء في تل أبيب أمر مؤسف لمعجبيه، لكنه لا يكاد يذكر على مستوى الدولة من حيث تأثيره. أنا أقترح على الراغبين بإيلام إسرائيل التركيز على التطبيع الاقتصاديّ والأمنيّ فهما مربط الفرس. الاحتلال في الضفّة الغربية يقوم اليوم على هذَيْن العنصرَيْن، وبتواطؤ فلسطيني رسميّ، ولكن لا أحد يجرؤ على محاربة هذا التواطؤ علناً وبالحدّة التي يصدرون فيها بيانا ضدّ سينمائي عربي أو فلسطيني، متهم بالتطبيع. هذا نفاق لا يُحتمل، وحالنا اليوم أشبه بجحا الذي أضاع كيس النقود، فذهب للبحث عنه تحت نور المصباح، لأنّ المكان الذي أضاع فيه الكيس معتم.