الويل للمُرتدّين!
علاء حليحل
من أكثر الأمور إزعاجًا، عند تبادل السّجالات والنقاشات، مع رفاق “الجبهة” و”الحزب الشيوعي”، هو ضرورة احتمال التزمّت الديني-الغيبي الذي يركبهم، رغم قناعتهم بأنهم علمانيون. فبالنسبة لهم، الحقيقة تطل من كتيّبات مؤتمراتهم وصحفهم، ولا مجال لأيّ نقد، خصوصًا ضدّ من نصّبوهم أنبياء العصر الجديد، بعد موت لينين وماركس. فكل من تسوّل له نفسه حق ممارسة حصته الطبيعية، كفلسطيني، في نقد نفسه ومجتمعه وأحزابه وشخصياته الأدبية، هو بالضرورة “قزم” أو “زئبقي” أو “هلامي” أو “غضروفي” أو “انبطاحي” أو “سلاخي” أو “انهزامي”- ولكنها كلها، هذه المصطلحات التي تربّوا عليها، تأتي لتحلّ مكان كلمة واحدة تفسّر كل ردودهم وتوجهاتهم في الردّ، ألا وهي كلمة “مُرتدّ”.
فالرفاق يتعاملون مع كُل من يترك الحزب، بمبادرة منه أو بتطفيش النهم، أو ينتقد الحزب ونشاطاته وشخصياته المعدودة عليه، يتعاملون معه على أنه مُرتدّ يحل سفك دمائه ويصح قتله وتقطيعه وتعليقه في ميادين وساحات مواقعهم وصحفهم. فلا مجال للكتابة عن محمود درويش، الذي نحبه ونُقدّره ونعرف شعره ونتابعه أكثر من جميع الرومانسيين الحزبيين الذين لا زالوا يتمسكون بقصيدة “سجّل أنا عربي”، التي تخلى عنها درويش بنفسه، لسوئها وشعاريتها، فلم يُدرجها في “الأعمال الكاملة” التي حرّرها بنفسه.
قليل من المعرفة يُفرح قلب الإنسان، أحيانًا.
وقد اعتدنا، حقيقة، على الهجوم والهجوم المضاد، وأنا أعاجل بالقول، ولاءً لنفسي قبل أيّ شيء، إنني لستُ ملاكًا، ولا الصحيفة التي أحررها مرتع للملائكة، فنحن صحيفة حزب، لنا مصالحنا ولنا رؤيتنا الخاصة للأمور. وسأصدقكم القول حتى النهاية، وسأقول إنّ ما نكتبه ونحرّره ليس الحقيقة بعينها، بل هو نتاج تجربتنا وأفكارنا، ليس إلا، وسأصدقكم أكثر وأكثر وسأقول إنّ ما نكتبه ونحرره وننشره لا ينحصر النفور منه أو عدم الموافقة عليه في الأحزاب المنافسة، فحسب، بل نحن نُواجَه، في أحايين كثيرة، بالنقد وعدم القبول والنفور من داخل الحزب الذي نحرّر صحيفته، وفي “قضية درويش” أيضًا، ولا بأس أبدًا في ذلك. فنحن لسنا مبعوثين لفكر توليتاري عصبي محتد لا يقبل تأويلا ولا تحليلا.
(ولولا الحياء، لاستزدتُ في الحديث عن ثقافة الصحف الحزبية، التي نهلت منها وعشتها في صحيفة “الاتحاد” الشيوعية، ردحًا طويلاً من الزمن. ولا شكّ في أن سحّيجة الردود سينزعون الآن بفكرهم إلى كتابة أو ترديد مقولات مثل: “شغلناك في جريدتنا وبصقت في البئر”؛ و”خسارة على كل يوم اشتغلت فيو في الجريدة”؛ وغيرها من جواهر الكلام- ولكن هذا جدال آخر، له سياق آخر، قد يطول، مستقبلا، ويمكن أن يعفيني منه بعض الرفاق الذين عملوا في “الاتحاد” معي وجاعوا معي وتقاسموا معي علبة “الشمينت” والسيجارة الأخيرة، بعد أن كان يمضي على تأخير معاشاتنا ثلاثة وأربعة أشهر، كأمر روتيني طبيعي).
إذًا، فكيف يسمح “المُرتدّون” لأنفسهم بالنشر عن محمود درويش، النبي الجديد؟.. نحن نسمح لأنفسنا لأننا لا نعتبره نبيًا مُقدسًا خارج مساحات النقد والتلويم، بل هو شاعر كبير، نعتز به وننهل منه. يكفي هذا. ما الحاجة لتنصيب أنبياء؟.. أيّ هراء هذا؟.. نبي جديد؟.. في فلسطين؟.. لماذا لم يخبرنا أحد بهذا؟.. والله كنا قدمنا القرابين وذبحنا السخول وصنعنا كبة نية بلحمها، في عيد المولد والهجرة الطوعية، والعودة على أجنحة أوسلو، وغيرها من المناسبات السعيدة حقا.
من المؤسف أنّ شاعرنا درويش وقع، من دون قصد منه ربما، في معمعان تناحراتنا الحزبية، وهي –وسأصدقكم القول مرة أخرى- تناحرات نتحمل جميعا مسؤوليتها، منذ عشر سنوات وتزيد، ولا مجال لسرد الوقائع والتفصيلات في هذا الصدد. إلا أننا نأسف أيضًا أنّ المنظمين اختاروا “ليس هناك سوى هنا” لتكون شعارًا للحفلة الحمراء، مع أنّ شاعرنا لم يطبق هذه المقولة في حياته العملية. وتعرفون؟.. هذا حقه. أن يختار مكان سكناه ومكان إبداعه وأن يختار الكتابة لفلسطين خارج فلسطين، طواعية. لن نزاود على أحد. ولكن أليس من الغريب أن تزاودوا أنتم بهذه الجملة على غيركم، ونبيكم الجديد أول من يقع ضحيتها؟؟.. ألا ترون المفارقة؟
والأغرب أن يضطر فنان غرافيكي وتشكيلي، يُعبّر عن امتعاضه من أنّ حفلة درويش تحوّلت إلى اجتماع أكتيف حزبي للمقربين والسائرين في دوائر المقربين، إلى تبرير نفسه لأنه تجرأ –والعياذ بالله ولا إله إلا الله وسبحان من يغفر الزلات- على نقد الحفلة ومنظميها، عن طريق بيت شعر من شعر درويش. ما هذا؟.. هل نحن في الاتحاد السوفييتي؟.. هل سيطرق بابنا ثلة من القبضايات ليقبضوا علينا ويشبعونا ضربًا لنعترف ونتوب، كما حصل في الناصرة قبل سنوات، حين قررت مجموعة من الشيوعيين تأديب شاب والتحقيق معه، فاختطفته وعذبته؟.. ماذا جرى؟.. يا إلهي، أشكرك أنّ في بناية مسكني ملجأ تحت الأرض. سأحمل علب التونا وفراشًا وعلبة دخاني (غير الأمريكية، يعني مش مارلبورو، كما يدخن رفاق شيوعيون متعصبون ضد أمريكا!!) وسأختفي لأسبوعين أو أكثر، ريثما تنتهي الحفلة وريثما يصدر فرمان عفو، بواسطة أو بغير واسطة.
يمكننا أن نحب الشاعر وأن ننتقده أو ننتقد خطوات يقوم بها أو أن ننتقد مواقف يُزجّ بها. ما المانع؟.. والاو!!
كما أنّ هناك ظاهرة بدأت بالتشكل مؤخرًا، يجدر أن نتوقف عندها قليلا. فـ “التجمع” و”الجبهة” انفتحا، كحزبين، وصارا ينشران نقاشاتهما الداخلية على صفحات جريدتيهما؛ الأول ينشر تقييمات للمؤتمر الأخير ونتائجه الخلافية، بحرية كبيرة، ومن دون تغيير أيّ حرف، والثاني يفتح المجال لكتابات عن الاختلافات الفكرية السائدة اليوم في داخل الحزب الشيوعي، والتي تلقي بظلالها على العلاقة بين “الجبهة” و”الحزب”. هذه شهادة شرف للحزبيْن على السواء، وهي شهادة نضوج يسعدني، كفلسطيني وكصحفي، أن أتابعها وأدلي بقسطي فيها، تمامًا كما أحيي الرفاق في “الاتحاد” وموقع “الجبهة” على هذا. المؤسف أنّ هذا الانفتاح في النقاش وتقبّل المختلف ونشره بشجاعة كجزء شرعي من “سوق الآراء”، لا ينعكس على النقاشات مع “الآخر”، مع “العدو”، مع “المنافس”. ما يحدث الآن من ردود على “قضية درويش” هو مثال على هذه الانفصامية- وخسارة.
نحن لا نختبئ وراء أحد، وراجعوا كتاباتنا منذ مقالتنا الأولى وحتى اليوم. الأراشيف مفتوحة لكل من يرغب. ونحن أيضًا لا نخاف الترويع والقذف والتشهير. لم نخف سابقًا، ولن نخاف الآن. رحم الله محمد حمزة غنايم، صديقنا أبا الطيب، حين كان يقول لي، ونحن نعمل سوية، وأسأله عما إذا كانت هذه المقالة أو التقرير سيغضبان هذا السياسي أو ذاك، كان يقول: “يا عمي يقطعوا المي عن البيتنجانات”!
و”البيتنجانات” نمت وكبرت ولا يهمها أي تهديد بقطع المياه، بعد الآن.
(الكاتب هو رئيس تحرير أسبوعية “فصل المقال”)
(نشرت هذه المادة في موقع ’’عرب48’’ بتاريخ 7 تموز 2007)