تخبطات “عَسْكان” إسرائيلي
علاء حليحل
قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أيهود براك، قائد حملة أكتوبر 2000 على الأقلية العربية في البلاد وعلى أبناء شعبنا الفلسطيني في المناطق المحتلة، أن يعود إلى المعترك السياسي، بعد انسحابه منه، في أعقاب هزيمته المُدوية أمام أريئيل شارون في انتخابات 6 شباط 2001، بعد أن حصل على 37.4% فقط من أصوات المقترعين!
ولا شكّ في أنّ عودة براك ستكون محورًا لاهتمام جماهيري إسرائيلي، ولاهتمام صحافي عبري وعربي وأجنبي. ولكن في هذه العجالة، سأختار التوقف عند نهج “العودة” الذي اختاره براك، قبل الدخول لاحقًا في معمعان التوقعات والترسيمات.
فبراك يعود بهدوء، في حملة شعارها “لا حملة”، أي أنه يعلن، من دون أن يعلن، أنه لا يعود كسياسي متناحر صغير، يهوى الكراسي والألاعيب والدسائس، بل هو المُخلص الآتي على غمائم من نقاوة ونظافة، لا تندمجان بالضرورة في مستنقع السياسة الإسرائيلية الوسخ والمُنتن، تمامًا كما أعلن مرارًا في العام 1999، بعد نجاحه في الانتخابات الإسرائيلية، بأنه ليس “سياسيًا”، وبأنه فوق السياسيين، ممارسة ومسلكًا. ففي الأسابيع الأخيرة نظّم هو ومُستشاروه خطوات “عودة” ليست اعتيادية في المشهد السياسي القائم، فهو لم يعقد مؤتمرًا صحافيًا يعلن فيه عودته، وهو أصلاً يبعث بحليفه بنيامين بن إليعيزر للترويج له ولعودته، وإلى البلدات العربية أولاً (يُنظر إلى الصورة)، وكأنه خارج اللعبة بالمرة.
ويبدو أنّ ما كان صالحًا في تلك الحقبة (قبل ثماني سنوات) ما زال صالحًا الآن؛ ويمكن القول أيضًا، ببعض من الشماتة، إنه صار صالحًا أكثر. ولكن السؤال لا يتمحور في صلاحية الطرح، بل في شخص طارحه؛ فمن يستعيد لوهلة ممارسات وتصرفات براك في فترة ولايته كرئيس للوزراء، يرى ضعفه وعجزه السياسي في مواجهة حيثيات ولغوصات السياسة الإسرائيلية، إذ نذكر انسحاب “يهدوت هتوراه” من ائتلافه الحكومي وتورط أيتسيك مردخاي وانسحاب “ميرتس” في أعقاب رفضها المبدئي لتعيين نائب وزير المعارف ليكون من “شاس”. إذًا، قد يُطرح التساؤل هنا: حتى لو صدّقنا للحظة أنّ براك ليس سياسيًا صغيرًا كما يدّعي، أي أنه ليس “عَسْكان” وفق “الجرغون” الإسرائيلي، فهل يصلح لأن يدير حكومة ودولة كلها مبنية على الرشاوى والمحسوبيات وقوة الـ “عَسْكان” المُطلقة؟
فكلمة “عَسكان” الإسرائيلية تعني في المعاجم “الناشط الاجتماعي” أو “الناشط الحزبي”، وهي ليست كلمة سيئة في جوهرها الأصلي، إلا أنّ سياقها الإسرائيلي حوّلها من كلمة تُدلّل باتجاه النشاط والضلوع والعمل، إلى كلمة تُدلّل باتجاه حياكة المؤامرات والصفقات وشراء الأصوات والتآمر والتداول والتناحر والتزوير والترهيب والترغيب، أي وباختصار- إلى جوهر العمل السياسي الإسرائيلي في أروقة الحُكم والمؤسسات الرسمية.
براك لا يريد أن يعود على أنه مجرد “عَسْكان” آخر، يدير “حملة عودة” سياسية يشرف عليها اختصاصيون ومستشارون، حتى إنه، في لفتة سياسية حكيمة، تندمج وتتناغم مع نواياه، أعلن الأسبوع الماضي أنه لن يكون شريكًا في “لعبة نتنة” يُحيكها أولمرت ضد وزير “أمنه”، عمير بيرتس. مؤثر ومثير…
براك بعث اليوم (الأحد) برسالة إلى سكرتير حزب “العمل” يعلن فيها رغبته التنافس على رئاسة حزب “العمل”. إذًا فالحملة قد بدأت، ولكن “من دون حملة” ومن دون لقاءات ومن دون مؤتمرات صحافية. على الأقل، سنشهد في الأسابيع القادمة نموذجًا جديدًا لـ “العَسْكان” الإسرائيلي، الذي يتظاهر بالخجل من أنه “عسْكان”!
(نشرت هذه المادة في موقع ’’عرب48’’ بتاريخ 7 كانون الثاني 2007)