علاء حليحل في “قصص لأوقات الحاجة”: الحدث والرؤية والموقف
نبيه القاسم
أكثر ما يثيرني في العمل الإبداعي ويشدني إليه تلك الخاصيّة التي تكمن فيه وأعجز عن توضيح كنهها أو الإمساك بها وتشريحها. فأعود لقراءته ثانية وثالثة ، وفي كل مرّة أشعر وكأنني أتعرّف عليه للمرّة الأولى، فتزداد أسئلتي ويزداد التحدي عندي لسَبر الأغوار وكشف المكنونات المخبوءة.
وقصص علاء حليحل التي جمعها تحت عنوان مثير “قصص لوقت الحاجة” وصدرت عن دار الآداب في بيروت بعد أن فازت بجائزة القصة القصيرة التي نظمتها مؤسسة عبد المحسن القطان ضمن برنامجها للثقافة والعلوم، من هذا النوع الذي يُثير ويشدّ ويطرح الأسئلة ويصعب القبض عليه فيما لو أردت الوقوف على سر السحر الذي فيه.
وهو من قصته الأولى “كاتب قصّة”، كأنّي به، أراد أن يتحدّى كلّ كُتاب القصة ومُنَظريها الذين أكثروا من كتابتها وتعريفها وتحديد أطرها والتنظير لها، أنْ يُعَرّفوا له القصة القصيرة وعناصرَها المهمة التي تتكوّن منها وترتكز عليها. حتى مرتكزاتها الأساسية : المكان والزمان، يفقدان تحديدهما وتميّزهما ويُمكن الاستغناء عنهما. فالقصة قد تتدفق أحداثها وتتبلور شخصياتها في غفوة عن مكان وزمان محددين معروفين “فالمكان الذي وقعت فيه الحادثة هذه الواقعة لا يعرفه أحد. كانت هنا وهناك بعض التخمينات والافتراضات حوله، ولكنّ أحدا لم يجرؤ على الوقوف والإشارة بسبّابته على جهة معيّنة والإعلان: هنا ! ..لا أحد.. لا أحد بتاتا. وإذا اعتقدتم أنّ الوضع بالنسبة للزمان أفضل فقد أخطأتم. لا أحد، أيضا، يستطيع الوقوف والإعلان: حدث هذا قبل إكس من الزمن.”(ص7-8)
فالأحداث تجري بغير إعلان مسبق، والقصص تتكون من ذاتيتها بتفاعلات الحدَث في المكان والزمان غير المُحددين. هكذا كانت القصة الأولى من المجموعة، بنت صدفة لم يُخَطّط لها، لكنها كانت الدافعة لمولد كاتب قصّة أدرك أن القصص متوفرة في كل مكان وزمان ، وأنّ كلّ حدث يصلح أن يكون قصة إذا تواجد مَن يملك الموهبة والقدرة ليرسمة بالكلمات على الورق.
وكما في قصته الأولى حيث تجاهل علاء حليحل كلّ ما قيل وكُتب عن فنيّة وأصول كتابة القصة القصيرة فإنه التزم التوجّه نفسه في باقي قصص المجموعة. فالقصة تروى بعفوية وكأنه يحكيها لمَن على استعداد لسماعه، بدايات شبيهة ببدايات حكايا أمهاتنا وجدّاتنا في أحاديثهن وتبادلهن أخبار وقصص أبناء البلدة والمعارف، لا تزويق ولا تفخيم ، بعفوية أقرب للغة الناس. وكما تبدأ القصة تنتهي بهدوء وطبيعية وعفوية تُبقي القارئ في هدوئه وراحته التي تقبّل فيها بداية القصة ومجرياتها.
القصة عند علاء حليحل في مجموعته هذه تتمحور في حبكتها، وباقي مركباتها تأتي في المقام الثاني أو الثالث. فهو من أول كلمة يكتبها يأخذ الحدَث بالتفاعل والتطوّر والتمدد والتشابك فينبني عالم له شخوصه وأزمنته وأمكنته وتميّزه، ولكنه يظل أليفا محبوبا مقبولا يجد المتلقي نفسَه مستريحا فيه، يتساوق معه ويتداخل فينساق حتى يجد نفسه من حيث لا يدري وقد انتهت الحكاية أو القصة التي أخذ بها فيتبقل حظه راضيا متأملا بالمزيد.
و”الحبكة” جاءت من حبك الثوب أي أحكم نسجَه، وحبك القصّة أي أحكم ربط حوادثها وهي حاصلة أحداث النص. ومع أنّ الحبكة عبارة عن سرد للحوادث المتسلسلة زمنيا إلاّ أنّ التأكيد على عنصر السببية هو التصميم الأساسي للحبكة كما يرى فورستر. ومثله محمد غنيمي هلال بقوله في تعريفه للحكاية التي لا تختلف في رأيه عن الحبكة “إنها مجموعة أحداث مرتبة ترتيبا سببيا، تنتهي نتيجة طبيعيّة لهذه الأحداث”. ويرى محمد الباردي أنّ لكل حكاية حبكة سردية والحبكة السردية تحقق بالضرورة ثلاثة مستويات رئيسة هي: منطق الأفعال والاحداث(السببية) ، التوتّر الداخلي، البداية والنهاية. ويرى أنّ وحدة الحبكة هي المعيار الأساسي من معايير الحكم على نجاح القصة أو اخفاقها في بث الحبكة، ويقصد بوحدة الحبكة تماسك الأحداث وتتابعها تتابعا منطقيا أو تقنيا”.
وقصص علاء حليحل في المجموعة هي النموذج الجيّد للحبكة الناجحة التي تنطلق شرارتها الأولى لتأخذ في توالي الأحداث، وكل حدث يكون سببا للذي بعده ونتيجة للذي سبقه. ففي القصة الأولى “قصة كاتب” انطلقت الشرارة الأولى بتوقف سيارة غريبة أمام عتبة بيت الحاج محمد حيث كان يجتمع الكثير من الجيران، وسماع صرخة مُدويَة رهيبة: “إنّهم هم ، إنّهم هم”. فجاء الطلب السريع من الحاج محمد : “سجّل الرقم”. ثم السؤال المتّهم: “هل سجلت الرقم؟” ثم العتاب والتأنيب: “لا يصح ذلك”. فالأحداث تتوالى بسرعة، وكل حدث يطرح أسئلته ويدفع للحدث الذي بعده حتى تكون المحصّلة بأن يفهم أنه كطالب ثانوي عليه أن يحمل قلما ليكون مستعدا وقت الحاجة لاستعماله، وحَمْله للقلم حَفّزه من حيث لا يدري لاستعماله بتسجيل القصص التي يسمعها كل مساء يوم عند عتبة بيت الحاج محمد، ومن ثم لابتداع قصص هو صاحبها. وهكذا أصبح كاتبا. الأحداث تتوالد وتتوالى ليس لتوصلنا إلى الذروة والتأزم ومن ثم الحل والنهاية، وإنما تدفع للأمام، ليس لذروة تتأزّم، وإنما لنهاية طبيعية كانت محصلة لأحداث تولدّت فأدت للنتيجة الأخيرة وهي مولد كاتب قصة لم يكن متوقعا قبلا.
ويستعيد علاء في القصة الثانية “الحمار” ما حدث له وهو صغير مع حمارهم كيف أنّه كان يرفض تناول الطعام إلاّ من يد الجَدّ ، وكيف أنّ هذا الحمار ضحّى بنفسه وأنقذ الجدّ من الموت عندما سارع وأبعده من تحت الفرع المتساقط من الشجرة الكبيرة. ورغم أن القارئ للوهلة الأولى يعتقد أن مثل هذه القصة قد تحدث وليس فيها ما يسترعي الاهتمام إلاّ أنّ علاء حليحل نجح في خلق قصّة مثيرة جميلة تشدّ القارئ. فقد اعتمد الحوار كمُركب أساسي في القصة، ونَوّع في مستويات الحوار، فما دار بين الحبيبين باللغة الفصحى ، وما جاء على لسان أخيه الصغير وأمه الفلاحة كان باللغة المحكية: “علاء ولّع نال زغيلة زغيلة وصالت كبيلة كبيلة” “الله يشحرك”(ص14). وحتى لا يؤدي الحوار إلى المَلل كان يُطعمه ببعض التعليقات المُثيرة والإشارات الداعية للتساؤل والتوضيح مثل أنّ الحمار نبح بينما النباح هو من صفات الكلاب. “ودون أن يتوقّع أحد دفش الحمارُ جدّي بكل قواه فرماه بعيدا إلى الأمام . وفي الثانية نفسها تهاوى غصن شجرة اللوز الكبير المُشتعل على ظهر الحمار، فارتمى الحمار على الأرض دفعة واحدة ، ولم تمهله النار فلسعته حارقة، فنهق نُباحا عاليا، ككلب صيد كبير، وزهق روحه”(ص15). ومثل تعليقات الفتاة على كلام الشاب وإثارته بسخريتها. “أنت تهذي. من أجل أنْ تروي قصّة جذّابة يُمكنك أن تختلق أيّة أكذوبة وأيّة مبالغة” . ومثل تعليقها على قوله :”إسألي أمي”. “وشهد شاهد من أهله.(ص15). وكانت النهاية الجميلة التي لم تحسم الجدل بين الحبيبين لكنها كانت النهاية التي تشدّ القارئ بما تميّزت به من عذوبة وشفافيّة وانسياب أخّاذ وهي تنطلقُ من بين شفتي الحبيبة: “ولكنني أعرف قصة عن كلب وفيّ أحبّه جدا، ولكنه حمار في الوقت نفسه” (ص16).
كانت الأحداث المتتالية التي يتذكرها الراوي والتي تتولّد من الحوار هي التي تمسك بانسياب القصة وتماسكها، بينما كانت الشخصيات هامشية، حتى أنّ الحمار كاد يكون الشخصية الأهم لتطوّر شخصيته وتحوّلها عَبر الأحداث التي عايشها والنهاية المأساوية.
وتكاد قصة “تراب الوليّ الطاهر” أن تكون القصة المؤكّدة على قدرة علاء حليحل في كتابة القصة الجميلة الأخاذة. فهو في قصته هذه مزج تهويمات الناس واعتقاداتهم وبساطتهم وعفويتهم وذكاءهم وقدّم قصتين جميلتين في واحدة: قصة مَزار الوليّ وإيمان الناس العاديين وتعلقهم به بما يُذكرنا بقصة يوسف إدريس “شجرة الطرفة” التي درسها علاء خلال مرحلة دراسته الثانوية ويبدو أنها تركت أثرها عليه. وبالمقابل قدرة استغلال البعض لهذا الإيمان الشعبي لمصلحته، “فرئيس المجلس قبل الانتخابات بشهرين خصّص ميزانية خاصة للمَزار وأقام عليه مُسنّا تقيّا، يزرع الورود بجانبه ويزيل الأعشاب الضارّة الكثيرة، ويقلّم أشجار التين المُحيطة ويرعاها” (ص18) وطبعا لينال رضا الناس وثقتهم فيمنحونه أصواتهم في الانتخابات. ومن ناحية أخرى عرف علاء ومحبوبته الجارة كيف يستغلان الوليّ وإيمان الجدة ليلتقيا في المزار ويُمارسا الحبّ. “كنتُ أسبقك أنتَ وجدّتك يوم زيارتكما وأختبئ داخل المَزار لكي أراكَ عن قرب، فأنتَ أجبن إنسان رأيته في حياتي. ثم سحبتني إلى داخل المَزار وجلسنا حوالي الساعات الثلاث نتعارف ونتحادث. وكانت القبلة الأولى.” (ص22) أيضا في هذه القصة نجد الحَدَث المُتصاعد هو الأساس في خَلق الشخصيات وتبلورها. فتميّز نُموّ أشجار التين القريبة من مَزار الولي عن غيرها كان بدءُ الفعل المُتصاعد الذي وَلّد الأفعالَ اللاحقة من انبهار الناس ومن ثمّ إيمانهم واستغلال رئيس المجلس. وهذا التصاعد في إيمان الناس جعل الجدّة تؤمن بقدرة الوليّ على انقاذ حفيدها فاصطحبته معها للمَزار فكان أنْ استولد فعل الجدّة هذا قيام الجارة المحبة بفعل مقابل باستغال مَزار الوليّ ليكون مكان اللقاء مع الحبيب وتبادل الأشواق والقبلات. وحتى لا يكون علاء ظالما لكل أهل البلدة أشار إلى أنّ “والدَه لم يُصدّق رواية الجدّة عن الوليّ وشفائه لي من مرضي وكان يتطلع إليّ مستعطفا كي أقصّ عليه ما جرى”(ص23). لكن علاء حتى لا يخسر قبلات المحبوبة وقربَها عرف أيضا كيف يستخدم إيمانَ الناس لصالحه فكان يُجيبُ كلّ مَن يسأله عن حاله بقوله” تراب الوليّ الطاهر”. وفي هذا الجواب كانت الإشارة الذكيّة الحادّة التي أراد علاء حليحل أن يلتقطها القارئ ويَعي مدلولها .
ويتعرّض علاء في قصة “عبد القادر” لجانب آخر من إيمان الناس وهو ما جرى لعبد القادر الذي عمل في حفر القبور سنوات حتى عافتها نفسُه فقرر أنْ يتحوّل للعمل في رَدم القبور، والفرق بين الحفر والرّدم أنّ في حفر القبر كانت الحفرة تكبر مع كلّ ضربة معوَل بينما في رَدم القبر فالحفرة تصغر. ولهذا كان يشعر وهو يردم القبر شعورا انسانيّا أكثر وكأنّ الموت يبتعد أكثر مع كلّ ضربة، وحتى أنه كان يبكي في كلّ مرّة يردم قبرا طازجا بينما لم يبك إلاّ مرّة واحدة في حفره للقبور. كان بإمكان عبد القادر أن يحفر القبر ويردمه ولكن إيمان الناس “بأنّ مَن يقوم بمثل هذا العمل سيتعرّض لروح الميّت التي ستحوم فوق القبر عند ردمه ولو كان مَن يردم القبر هو نفسه مَن حفره، لَلَعَنت الروح ذلك الشخص وركبته حتى موته” (ص68) وهذا ما حَدَث لعبد القادر، عندما تاقت نفسُه لحفر القبور، وتناول المعول وحفر القبر الذي سيقوم فيما بعد بردمه، أمام أعين الجمهور الغفير المستنكر فعلته والمُحذر له من العاقبة الوخيمة، إذ في لحظة واحدة، ودون أيّ مبشّر بذلك، انتفضت الجثّة في النعش وقلبته على الأرض، ففرّ القومُ كلهم .. وكانت نهاية عبد القادر كما توقّع الناس وآمنوا أنْ صار ينام النهار ويحيا الليل في النباح كالكلاب وفي العواء كالذئاب، دون أن يتفوّه بكلمة ومن ثم صارت أمّ عبد القادر وأفراد بيته ينبحون كالكلاب ويعوون كالذئاب. لكن مفاجأة الكاتب للقارئ في نهاية القصة أنّ الرّوحَ التي انتفضت من النعش وأفزعت القومَ وركبت عبد القادر كانت روح كلب. وبإشارات ذكيّة وحادّة يختتم القصة بـ: “هذا الأمر اضطرّ أهالي البلدة إلى استئجار رادم جديد ليعمل في مقبرة الحيوانات في القرية. المقبرة التي دُفن فيها الأهالي حيواناتهم، دون الحاجة لمقبرة للأهالي لأنّهم ببساطة لا يموتون، إلاّ إذا ركبت أحدهم روح حيوان ميّت..”(ص70).
ويتناول في قصة “ليكن” علاقة الانسان بالوطن ومدى واجبات الواحد نحو الثاني، وخاصيّة الأمومة الأكثر بروزا وتأثيرها لدى كل امرأة. وتأخذ الأحداث بالتفاعل بعد خروج جميل وزوجته من عيادة الطبيب الذي بشرهما بالحمل. فالزوجة التي تجلس إلى جانب زوجها في السيارة تنشغل بفكرها بما قاله الطبيب عن الجنين الذي يتحرك في بطنها، وإلى أي مدى سيكون مُكبّلا لها في حياتها منذ هذه اللحظة، بعد الحوار غير المتوقع الذي كان لها مع زوجها: ” بأنّه لن يدعني أسوق بعد اليوم ولن يدعني أنظّف البيت أو أجلي الأطباق أو أذهب إلى المظاهرات”. قلت له: لك كل ما طلبت. ولكنني لن أتوقّف عن الذهاب إلى المظاهرات. وإذا لم يعجبك ذلك فيمكنك أن تحمل أنت وأن تنجب طفلنا وأن تتوقف عن الذهاب للمظاهرات. قال إنّ الوطن بحاجة إلى الأطفال. قلت له إنني بحاجة إلى الوطن أيضا ويمكن للوطن أن يُقبّل مؤخرتي إذا كان إنجاب الأطفال له سيمنعني من الذهاب إلى المظاهرات.” (ص73) وما يشغل الأم أكثر ما قاله الطبيب عن الجنين بأنه سيكون مولودا معوّفا وأن الأفضل التخلص منه وأنها ستقنع زوجها الذي نقل للجنين جينات عائلته الوراثية التي زرعت الوباء في رحمها أن “الأفضل لهما إنزال المولود الآن وبأنّ الوطن بحاجة إلى أطفال أصحّاء يحملون اسمه إلى أقاصي السماء. وأنّ عليهما الآن التركز في خدمة القضيّة والعمل والتجنّد مع الآخرين ، والطفل المعوّق سيكبلنا وسيهدم حماسنا وسيقضي على قدراتنا النفسية والمادية. وسأقول له إنني لن ألد طفلا معوّقعا أبكي أمامه كل صباح. سأقول له.. وعليه أن يتفهم ويفهم وأن يكون بجانبي عندما أنزله ، عليه أن يفهم وإلاّ ..” (ص73) وتدخل الزوجة في دوّامة من التناقضات وتتخيل حياتها المستقبلية مع مولودها المُعَوّق وأيّ حياة تلك التي ستكون لها. وتدخل في حوار صريح وواضح مع مولودها الجنين “ماذا تريد يا حبيبي؟ هل تريد الخروج الآن؟ على ماذا أنت مستعجل؟ على هذه الدنيا العطبة؟ على حياة المهانة والذلّ؟ لماذا تريد الخروج، ألا تكفيك حرارةرحمي ودعء بطني؟ ماذا ستفعل غدا عندما يبدأ أبناء جيلك بالزواج؟ ما أودّ أن أقوله لك إنّ إجهاضكالآن خير لك من عذابلات العمر الطويل. قد أكون قاتلتك، أنا التي أهبك الحياة الآن. أنت ستفهمني بالطبع يا حبيبي، أليس كذلك؟!” (ص75-76) وتكون المفاجأة للزوجة عندما عندما يسألها زوجها: ” شو بَدنا نساوي؟” ثم عندما فتح باب السيارة وقال: “من ناحيتي لازم تنزّليه.. مش ممكن نتطلع عليه كل يوم ونتذكر إنّه إحنا سبب عذابه في هاي الدنيا.. لازم تنزليه..” ويكون الردّ العَفوي المُنطلق من أحاسيس الأمومة الراسخة في عُمق كل امرأة :” هذا ابني ورح أخلّفه لو شو ما كان ! فاهم؟ّ” وولد الطفل معوّقا لأن والديه حملا الجينات الملوثة وكل أولادهما سيحملون هذه الجينات ويولدون معوّقين . وتذكرت ما كانت تقوله بأن مولودها المُعَوّف لن يفيد الوطن بشيء . ” لن يفيده لا في المظاهرات ولا في التجنّد لجمع التبرعات أو كتابة الشعارات أو حمل البندقيّة أو حتى كتابة المقالات”. ولكنها في اللحظة التي وُلد فيها ابنها عرفت “كم أنّ الوطن الذي أحبّه وأكرهه حتى الجنون، كان بحاجة إلى أبناء مثل ابني ليرعاهم بنفسه، بعد أن سئم من أن نسعى لأجله كلّ يوم “(ص78)
هكذا نجد أنّ الحدَث الأوّل هو الذي حدّدَ مَسار القصة وبلوَر هويّة الشخصيات وأدّى إلى توالي الأحداث بعدَه، ما اعتمل منها في داخل الزوجين وما جرى على مرأى منهما وبوَعيهما التام.
هذه القصة “ليكن” النموذج للقصّة التي تفتقر للذروة وغنيّة بالملامح المأساوية، وهذا مما جعل الحركة فيها تتوجّه نحو النهاية، النقطة التي تتجمّع فيها كل العناصر البنائية والتي تكتسب بها مبررات وجودها ومعناها ووظيفتها، على حدّ تعبير صبري حافظ.(فصول مجلد 2 عدد 4 سبتمبر 1982)
وقصة “جميلة” نموذج آخر لأقصوصة الحَدَث في حشدها لكل ثقلها في اتجاه النهاية حيث أنّ افتقارها إلى الذروة البنائية جعل النهاية تكون البديل البنائي. فجميلة بحضورها المفاجئ قلبت الموازين وأنهت الطمأنينة المفرطة والهدوء المشبع بالتخمة اللذين سادا قبل دخولها إلى الصالة الكبيرة التي اجتمع فيها الأغنياء من رجال ونساء المجتمع تلبية لدعوة رجل الأعمال الشهير، هؤلاء الأغنياء الذين جمعوا ثرواتهم كما يبيّن لنا بالغش والخداع والسرقة ويبذرونها على نزواتهم وبذخهم غير المبرّر. المهم أنّ دخول جميلة للصالة غيّر ترتيب الأحداث ، ورفع حرارة النساء الزوجات، وخاصة زوجة الطبيب الشهير الذي تتهمه زوجته بعلاقة آثمة له مع جميلة . مما دفعها إلى العودة المُبكرة للبيت وللمواجهة القاسية مع زوجها. “إنّها فاجرة” كرّرتها أكثر من مرّة . ولكن زوجها لم يتجاوب معها وآثر الصمت. فزاد غيظها وتابعت: “رأيت كيف كانت تنظر إليك؟” وبدأت تخلع ثيابها وتبرز مفاتنها وتعمد إلى دفع زوجها لمضاجعتها وهي تضمر الشرّ له. وهو من جهته أثيرت فيه كل الغرائز برؤيته لجميلة وهاجت براكينه وماجت لتحدّي زوجته له، واستعاد ذكرى لقائه بجميلة يوم زارته في عيادته وتحدّيها لرجولته. واستمرت الزوجة في التحدّي والإثارة وذكر جميلة: “يمكنك أن تتخيلني جميلة .. ماذا كنت تودّ أن تفعل لها الآن على هذه السجادة؟” (ص41) وهذا يزيده إثارة واندفاعا. وكانت الزوجة متأكدة من أنّ زوجها لن يصمد. “كان يلهث مثل الكلب المذبوح. يتفصّد عرقا مثل قاطفي القطن في الصيف الملتهب. كانت تراه يقترب من النهاية، وكانت على يقين من أنّ تلك النهاية ستكون الأخيرة. وشعرت للمرّة الأولى في حياتها أنها تريد له أن يموت. أن يتهالك صريعا الآن بين ذراعيها” (ص43) وتتدافع الأحداث بسرعة وحدّة نحو النهاية المُتعَمّدة ويموت الطبيب كما أرادت زوجته بين ذراعيها. لكنها جَهلت، في لحظة انتصارها واقتناعها بانتقامها لكرامتها، أنّ زوجها الطبيب مات بين ذراعيها وهو يتخيل أنّ التي يضاجعها ويحضنها هي جميلة. جميلة التي تحدّت نظرات واتهامات الجميع وجاءت للمشاركة في جنازة الطبيب ومن ثم إلى البيت وتجلس مقابل صورته المعلّقة على الحائط وتمسح دموعها بصمت.
لقد نجح الكاتب في شحن الأحداث ودفعها نحو النهاية غير المتوقعة، التي وصفها فرانك أوكونر “أنّها صورة الجماعات المَغمورة المقهورة التي تتحرّك من البداية نحو الكارثة نظرا لقهرها وافتقارها إلى كثير من مقوّمات الحياة الماديّة والرّوحيّة والتي تفتقر حياتها إلى أيّة ذرى يُمكن التعويل عليها، اللهم إلاّ ومضات خاطفة من ماض سحيق، تسهم أساسا في تعميق إحساسها بالمأساة وإرهاف وعيها بالسقوط.” (فصول سبتمبر 1982)
لقد تميّزت قصّة “جميلة” بطرحها لمظاهر الغنى الفاحش وسوء تصرّف الأغنياء بمالهم وانسلاخهم عن هموم الناس العاديين. وحتى الذين كانوا فقراء وعانوا، نسوا ماضيهم وتصرّفوا بمنتهى البشاعة. كما أنّ الكاتب في قصته هذه كما في قصص “الطبّاخ” و “أولويز ذات الأجنحة” و “السجادة” كان جريئا في طرحه لموضوع الجنس ووصفه لمشاهده بكل إثارتها ، ولكن الكاتب كان ذكيّا وواعيا في أنّه لم يسفّ وإنما جاءت المشاهد الجنسية لتطرح قضيّة مهمة يتهرّب من التعرّض لها الكثيرون، وهي أنّ العلاقات الجنسية تشكل محورا مهما في العلاقات البشرية وبناء المجتمع وتمتين أو تفتيت العلاقات الزوجية.
أخيرا:
علاء حليحل في قصص مجموعته هذه لم يحدّد لنفسه شكلا معينا وبناء خاصا فقط وإنما انطلق من رؤية بطريقة خاصة للعالم وموقف حدّد منطلقاته ومَداه. واختيارُه في إبداعه قصة الحَدث دافعُه اعتمادها على عنصر الحبكة التي تشكل الأساس في بناء القصة. وأرى أنّ ترتيب أحداث الحبكة ليس من الضروري أن يلتزم التسلسل الزمني والترتيب الواقعي لوقوع الأحداث وإنما يمكن إخضاعها لطرق عدّة حسب النسق الذي تفرضه أحداث هذه القصة أو تلك، وقد يتّفق هذا الترتيب مع ترتيب حدوثها في الواقع وقد يختلف عنه شرط أن يكون منطق يربط بين هذه الأحداث التي تتطوّر أو تتتابع داخل حبكة القصة. وقد اختار علاء حليحل هذا النسق المتنوع لترتيب الزمن مما أعطاه الحرية في التحرّك والتنويع.
(قصص لأوقات الحاجة. تأليف: علاء حليحل، دار الآداب، بيروت 2003.)
(نشرت هذه المادة في موقع ’’عرب48’’ بتاريخ 22 أيار 2006)