عدو الدولة؟!
علاء حليحل
قد يكون الكاتب والناقد والصحافي العكيّ أنطوان شلحت، أحد أهم الشخصيات الثقافية لدى الشعب الفلسطيني اليوم، أخطأ بأنه يقيم علاقات بكتاب وصحافيين عرب من أرجاء العالم، الأمر الذي أزعج رجالات “الشاباك” جدًا. فقد أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي، أريئيل شارون، قبل عدة أيام أمرًا خاصًا بتوقيعه، يمنع فيه شلحت من مغادرة البلاد حتى نهاية السنة الحالية، 2005، مع ذكر احتمال تمديد هذا المنع ليسري على سنة 2006 كلها، وكل ذلك “خشيةً من المسّ بأمن الدولة”. وإلى جانب القوانية والاستبداد الصارخيْن من هذه الخطوة، من الصعب تجاهل التظاهرية التلويحية التي في صلب هذا الأمر، من منطلق: “دير بالك! الأخ الكبير يشاهد ويرقب، وهو ذكيّ ومتيقظ!”
يمكنني أن أرجّح أنّ شلحت، مثل الكثير من الصحافيين والكتاب الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل، يقيم علاقات ثقافية مع زملائه من جميع أرجاء العالميْن العربي والفلسطيني، وهذا واجب وحق؛ فالثقافة العربية الفلسطينية في إسرائيل تحيا على هامش هامش الثقافة في إسرائيل. وهي مُميّزٌ ضدَّها ومُهمَلة وغير معروفة ومُقصاة عن دائرة العمل والنقد الشرعييْن. كما أنّ أهل الثقافة الإسرائيليين لا يسارعون إلى الاعتراف بهذه الثقافة الفلسطينية، ويجد أهل هذه الثقافة أنفسهم خارج أيّ سياق ذي اتصال مع الثقافة المُهيمنة، عدا النزر اليسر منهم. هذا، ناهيك عن أنّ الدائرة الطبيعية للثقافة الفلسطينية في إسرائيل، من ناحية اللغة والمُعاش وصبوة القلب والعقل، هي الدائرة العربية الفلسطينية الواسعة، التي يرغب كُلّ مبدع فلسطيني في البلاد بالانتماء إليها كانتماء أوليّ وأساسي. نحن، أولاً وأساسًا، مبدعون فلسطينيون وعرب، وكغيرنا من سائر مجموعات الشتات الفلسطيني في العالم، نحيا في داخل بيئة خاصة وغريبة “قليلاً”، وهي البيئة التي نتجت عن النكبة التي حلت بنا في العام 1948.
شلحت لا يُشكّل أيّ تهديد على الدولة، عدا ربما دأبه المبارك طيلة سنوات كثيرة لإبراز الخصوصية والتفرّد اللذيْن في صلب الثقافة والمُعاش الفلسطينييْن في دولة إسرائيل. كما أنّ المؤسسة والأنظمة والإسرائيلي العادي لم يُذوّتوا بعد الحقيقة البسيطة أنّ في إسرائيل رواية أخرى وضحايا آخرين وانتماءات أخرى. نحن جزء من ثقافة عريضة غزيرة أخرى، ومعها وفيها نحيا ونبدع. وحتى في السياق السياسي الذي نشأ بعد قيام دولة إسرائيل، لا زلنا جزءًا من “سورية الكبرى”: بيروت ودمشق ورام الله هي مدن نحن نتوق لمعرفتها؛ الأدب والصحافة النابتان في هذه المدن هما أدبنا وصحافتنا؛ معهما وفيهما نحيا، ومع كُتابهما في أرجاء المعمورة نُبدع.
أضِف إلى هذا أنّ الصمم والعمى تجاه هذا الانتماء الأساسي هما صمم وعمى أمنيان، فُرضا –بجهد وديماغوغية كبيريْن- على وعي الإسرائيلي العادي، وعلى المؤسسة أيضًا. فأنا، كصحافي وككاتب، أقيم علاقات وطيدة ومستمرة مع كتاب وكاتبات وصحافيين وصحافيات من لبنان والأردن ومصر، ولا أشعر بأنني أشكّل تهديدًا على أمن الدولة. أنا أزور رام الله كلما أمكن، أراسلها وتراسلني، وأقيم معها علاقات ثقافية عميقة ووطيدة، ولا أشعر بأنني أخرق أيّ قانون يُذكر. أوامر المنع هذه تشبه جوهريًا أوامر الاعتقال الإداري: نحن نعتذر لأننا لا نملك الأدلة الكافية لاعتقالك أو لاتهامك بتهمة ما، ولكن هلا سمحتَ وتشرفتَ معنا إلى أعماق الأقبية المظلمة التي بُنيت في عصور الظلمات كي تختفي لعدة شهور؟ نحن ببساطة خائفون!
المسألة الثانية التي تُثار وتعصف في ضمن هذه الخطوة هي صمت الصحافيين وأهل الثقافة الإسرائيليين. ففي أيام عادية تراهم يفعلون المستحيلات كي يكون بمقدور أيلانه ديان (صحافية تلفزيونية تدير برنامج تحقيقات صحافية) أن تبث تحقيقًا صحافيًا- وهذا جيد؛ إلا أنه عندما يدور الحديث عن صحافيين وأهل ثقافة عرب، الذين من المفترض بهم أن “يتمتعوا” بحرية العمل كونهم مواطنين في دولة “ديمقراطية”، فإنّ الجميع ينخرسون. لم يمضِ أكثر من شهر ونيّفٍ على قيام “الشاباك” بالتحقيق مع صحافييْن عربييْن من مواطني الدولة، حيث حقق معهما ولم يُتهما بأية تهمة، لأنّ “الشاباك” لا يملك أية أدلة، بل يبغي التخويف فقط. وماذا مع الصحافة الإسرائيلية؟ ومجلس الصحافة؟ وفرسان حقوق الإنسان؟ وماذا مع “اليساريين” الذين يُضحّون بأنفسهم من أجل الدفاع عن ثلاثة زهرات غارقة في المجاري؟ أليس بوسعهم أن يروْا المجاري التي تُغرقنا؟
(نشرت هذه المادة في موقع ’’عرب48’’ بتاريخ 28 كانون الأول 2005)