عربيٌ للمعركة
علاء حليحل
كان يمكن لتعيين بروفسور ماجد الحاج عميدًا للشؤون البحثية في جامعة حيفا، وهي الوظيفة المسماة في جامعات أخرى نائب رئيس الجامعة للشؤون البحثية، وفي ظروف أخرى، أن يكون تعيينًا محبوبًا ومُرضيًا، ولكن ليس في الظروف الآنية؛ فكل غبيٍّ يعرف أنّ جامعة حيفا تنوي بواسطة هذا التعيين أن تحارب الدعوة المُجددة لفرض الحرمان الأكاديمي عليها الذي يُخطَّط له مُجددًا في بريطانيا، وماذا يمكن أن يكون أفضلَ من عربي مثقف يكون مسؤولاً عن مجالات البحث والعلاقات الدولية للجامعة؟
إنجازات وأعمال بروفسور الحاج البحثية هي مباركة وهي ليست مثار الجدل هنا؛ ولكن لا مفرّ من إبداء عظيم التعجب والاستهجان من استعداد بروفسور الحاج لتولّي هذه الوظيفة –ومرة أخرى، في السياق والظروف الآنية- ولأن يكون ورقة توت مشكوك بها لمؤسسة أثبتت أنها مؤسسة تمييزية وعنصرية وتنتهج سياسة كمّ الأفواه، وهي الأمور التي تتعارض وتتناقض وأقلَّ ما يمكن من روح الحرية الأكاديمية.
كقسم من مهامه المستقبلية، سيكون بروفسور الحاج مسؤولاً عن دفع وتعزيز البحث الأكاديمي في الجامعة وعن العلاقات العلمية والتعاون البحثي للجامعة في البلاد وخارجها (“هآرتس”، 10 تشرين الأول الجاري). وسيضطر بروفسور الحاج في المستقبل المرئي إلى أن يواجه العالم وأن يشرح له لماذا لا تجب مقاطعة جامعة حيفا ولماذا تجب تقوية العلاقات البحثية معها ولماذا يجب تجاهل شكاوى البروفسور الليبرالي الشجاع أيلان بابي المتكررة والكثيرة حول إقصائه وعزله تقريبًا في داخل الجامعة. وبمفهوم معين، سيكون الحاج درعًا بشريًا في مقابل “العالم اللاسامي” الذي يهجم على الجامعة لإفنائها. ويمكن القول بكثير من الواقعية، إنّ بروفسور الحاج أدخل نفسه عن وعي –وأنا آمل أنه قام ذلك من دون وعي، في لحظة تسرع وسذاجة- في منزلة المحامي الدولي لجامعة حيفا.
وكطالب جامعي سابق في جامعة حيفا جرّبت على جلدي تصرفات الجامعة الأمنية القامعة، في كل ما يتعلق بحرية التعبير والتنظّم؛ الكثير من زملائي الطلاب وأنا حُوكمنا في محاكم الطاعة في أعقاب مظاهرات ونشاطات نظمناها. ومنعًا لأية شكوك أقول إنّ هذه المظاهرات والنشاطات كانت محضَ سياسية وتمحورت في القضية الفلسطينية، لأنّ الضلوع الاجتماعي والسياسي عند الطلاب الجامعيين هو من أكثر الأمور طبيعية وبديهية في كل جامعة تحترم نفسها. وقد حاولت جامعة حيفا دائمًا –وما زالت تحاول- الفصل بين الدراسة الأكاديمية وبين الضلوع السياسي، ولن تجدوا أبدًا أحقرَ وأحطّ من مثل هذه المحاولات، خصوصًا عند الحديث عن مؤسسة تتطلع نحو عكس ونشر حرية الفكر والعمل. على قباطنة جامعة حيفا أن يهجروا النشاط الأكاديمي فورًا وأن يعودوا إلى مهنتهم الطبيعية التي تبنوها باندفاع واضح: جنرالات متحمسين في خدمة جيش الشعب.
وقد صرخ مليحو النفوس والباحثون الأكاديميون الإستعلائيون بشدة ضد “الخلط بين السياسة والبحث الأكاديمي” عندما بدأت المقاطعة الأكاديمية البريطانية ضد جامعة حيفا (وكلية أريئيل)- وهي المقاطعة التي أُجهِضت في بدايتها. كل محاولة للفصل بين الاثنين (السياسة والبحث) هي نوع من الهروب النخبوي الذي يُبرر كل ما يشعر به عامة الناس من اشمئزاز تجاه الأبراج العاجية المنعزلة. الجامعات تحيا وتعيش في بيئتها وبين شعوبها، وكل من يبدي عدم الرضى عن هذه العلاقة التكافلية الضرورية هو استعلائيٌّ بحت. فصل البحث والعلم عن الثوابت الأخلاقية وعن الضلوع الاجتماعي والسياسي هو خطوة رأسمالية نموذجية، كونه جزءًا من فصل كل شيء في المرافق عن كل شيء. الرأسمالية تسعى نحو تحويل البحث الجامعي إلى أداة في خدمة التنظيمات العالمية والجامعات تتعاون مع ذلك بطواعية وبرغبة كبيرة، مرةً من منطلقات قناعة ونهج واضح، ومرةً بدوافع اقتصادية خانقة.
كان على بروفسور الحاج أن يردّ اقتراح الوظيفة على عقبيْها فورًا وبشكل واضح، من دون أن يستغل هذا التعيين للتباكي على الوضع السيء الذي يعاني منه المحاضرون العرب في البلاد. فالغالبية الساحقة من المحاضرين العرب في الجامعات الاسرائيلية يلهثون وراء الثبوتية الوظيفية ووراء الكراسي والمعاشات المضمونة (باستثناء بعضهم القليل جدًا). في حياتي لم أرَ محاضرًا عربيًا يقف إلى جانبنا في لجان الطاعة والمظاهرات والنشاطات، مثلما فعل بروفسور بابي وزملائه من المحاضرين اليهود، وغيابهم الواضح في هذا المضمار هو الذي يدفع مؤسسات التعليم العالي إلى الاستخفاف بهم والتعامل معهم على أنهم مفهومون ضمنًا كموظفين خنوعين.
في اللحظة التي يتقبل فيها المحاضرون العرب العبء الملقى عليهم بشجاعة من دون التأتأة والاختباء في غرفهم في الكليات التي يعملون بها، كما فعل بروفسور الحاج للأسف حتى اليوم، فإنّ الجامعات ستبدأ بالتعامل معهم بما يليق من الاحترام، في كل أيام السنة، وليس فقط في فترات الأزمات الدولية التي تُلزم تعيين عربي للمعركة.
(نشرت هذه المادة في موقع ’عرب48’’ بتاريخ 14 تشرين الأول2005)