الأمور تتأزّم
كانت ليليان تشاهد التلفاز.
“شالوم”.
“أهلا، قلت إنك ستتأخر قليلا.”
جلس إلى الكنبة المجاورة لها. كانت تشاهد برنامجًا ترفيهيًا على القناة الثانية. المذيع كان يرقص بشكل مثير للضحك. كان هذا إذًا سبب الضحكات التي سمعها من خارج الباب.
“هل تناولت العشاء؟”
“لا. أنا أنتظرك لنعدّ شيئا نتناوله.”
“ليست هناك حاجة، سأدعوك إلى العشاء.”
“لا تعوّدني على ضيافتك الخمس نجوم هذه، أنا أعتاد على الأشياء بسرعة.”
“أنا أعرف متى أتوقف قبل أن تعتادي.”
“فلنرَ.”
من السهل جدًا أن يعتاد المرء على أيّ شيء في حيفا. حتى الصيف الحار واللزج يتحول مع الوقت إلى خلفية محتملة لأشياء أخرى تمّ الاعتياد عليها هي أيضًا. الضجيج الهادئ في الهَدار مثلا؛ البنايات الشاهقة الحديثة التي احتلت مكان الأشجار في الكرمل؛ الحزن اللذيذ في الشتاء الخجول لتعكيره صفو الشاطئ؛ البحر… وربما تعود سهولة الاعتياد هذه إلى طبيعة المدينة. إلى تركيبتها الخاصة والمتميّزة. فحيفا في الأساس عربية. حيفا التي خلّدها إميل حبيبي وحيفا شوق الشاعر أحمد دحبور؛ حيفا ساحة الحناطير وحيفا الهزيمة والفرار. كلّ التوسعات ما بعد الاحتلال لا تسرّ القلب ولا تبعث على الهدوء. توسعات “حديثة” عصرية تبدو الآن وقد تضخمت ونتأت كورم سرطاني خبيث، أبشع مما بدت عليه من قبل. أكثر غربة. المهاجرون اليهود الذين استوطنوها بعد احتلالها والمهاجرون الروس الجدد الآن، حوّلوها إلى خلطة غريبة- كأقلّ ما يقال. ما الذي بوسعه الربط بين المراكز التجارية الحديثة في البنايات الشاهقة ذات التصميم الأوروبي والأمريكي، وبين كشك الفلافل الأزليّ في سوق وادي النسناس؟ التعايش الخالي من أيّ مضمون أو جدوى؟.. وحدة المصير؟
كتب عباس مرة في زاويته الشخصية في ملحق نهاية الاسبوع: “أحسستُ بالتوعك قبل يومين فقصدت الدكتور موسى في عيادته في “الواد” قاصدًا الشفاء. في العيادة وبعد التأهيل والسلام والترحيب توجه إليّ أحد الجلاس في العيادة سائلاً: عباس الجنوبي؟ – نعم، قلت. – أنا أقرأ زاويتك أسبوعيًا وعندي لك سؤال صغير. – تفضل. – هل حقا أنك تسكن في سوق الخضار؟. – نعم. – أين بالضبط؟ – في الشارع النازل من الحَلوتس رأسًا. – آه، عرفته. لي عندك طلب لو سمحت. – تفضل. – عند الزاوية اليمنى بالقرب من المخبز هناك بائع بهارات. – نعم أعرفه. – عندما تصادفه المرة القادمة، أخبره بأنّ إسحاق الخلايلي قد توفى. – فقط؟ – فقط!
“في اليوم التالي مررت بالقرب من دكان البهارات وألقيت التحية على موسى العطار. على غير عادة اقتربت منه وقلت على الفور: “إسحاق الخلايلي مات”. لم يسمعني موسى على الأرجح لأنه كان منهمكًا في رزم كمية من جوز الطيب لإحدى النساء. “ماذا قلت؟” – إسحاق الخلايلي مات. كان يعيد الباقي للسيدة، فأوقع النقود وجحظت عيناه. – من أخبرك؟ – شخص صادفته في العيادة في الواد طلب مني إخبارك… – شكرًا، تمتم الرجل وأسرع إلى داخل الدكان المظلم… – من هو إسحاق الخلايلي؟.. انتابتني لحظة من حب الاستطلاع الأزليّ. لا جواب. استدرتُ لأذهب وإذ بي أسمع عبر مكبر صوت دوّى في المكان: “إسحاق الخلايلي مات.. إسحاق الخلايلي مات”. كان موسى العطار يجهش بالبكاء وهو يحمل “البوق” الذي يستعمله الباعة للتدليل على بضاعتهم… “إسحاق الخلايلي مات.”
“فيما بعد علمت أنّ إسحاق الخلايلي كان من أواخر المتصدّين للقوات اليهودية عند احتلال حيفا. بعد الاحتلال ألقي القبض عليه، سُجن لأكثر من سنة ثم طرد من البلاد. من يومها لُم يُسمع عنه. أهل حيفا العرب الذين بقوْا لم ينسوْه ولم ينسوا تفانيه وشجاعته وحفظوا له مكانة خاصة في قلوبهم. ما يثير العجب هنا أنّ الإعجاب والحبّ انتقلا أيضًا إلى اليهود الذين استوطنوا بيوت العرب بعد الرحيل الأكبر، فأحبّوه هم أيضًا وتذكروه. الرجل في العيادة مثلا وموسى العطار هم يهوديان من أصل شرقي. يحدث هذا في حيفا فقط.”
“ماذا سنطلب؟” سألت ليليان وهي تجلس قبالة سمير في أحد مطاعم مركز الكرمل الشهيرة. الكرمل الذي تحوّل نهائيا إلى مدينة منفصلة عن حيفا الأصلية. مدينة غنية و”أوروبية” و”حديثة”.
“فلنطلب دجاجًا بالخردل.”
“حسنًا.”
سجّلت النادلة الطلبات.
“أولغا والأولاد سيعودون إلى روسيا”، قالت ليليان من دون سابق إنذار.
“متى؟”
“قريبًا جدًا. اليوم أخبرتْني.”
“وأنتِ؟”
“ماذا أنا؟”
“هل ستعودين؟”
“لا، فليس هناك ما ينفعني. لن أعود إلى الفقر والجريمة ثانية.”
“ألن يكون من الصعب عليك البقاء هنا وحيدة من دون أقارب؟”
“وما حاجتي للأقارب؟.. يسببون المشاكل والهموم فقط. سأعيش وحدي.”
“ممكن أيضًا.”
صمت. فلأفاتحها الآن بموضوع غريغوري، يا إلهي كيف سأبدأ؟
“هل من أخبار جديدة عن غريغوري؟”
“لا. هذا ما أخبرتني به أولغا على الأقل.”
“ولماذا تود أولغا العودة إلى روسيا؟ ربما قد تكون عرفت شيئا عن غريغوري دفعها إلى اتخاذ هذا القرار.
“ماذا تقصد؟.. أيّ شيء تقصد؟”
لا مفرّ. إذا لم يكن من الموت بدٌ.. أخرج من محفظته الجلدية الملحق وأعطاه لليليان. تأملت ليليان صورة غريغوري على الغلاف مقيّدًا وشرطيان يقتادانه ثم قلبت الصفحات بسرعة وانفجرت باكية..
“أنا لا أقرأ العربية! أنا لا أقرأ العربية!”
“لا عليك، سأشرح لك كل شيء.. إهدئي الآن!”
“ماذا حصل له؟.. لماذا اعتقلته الشرطة؟”
مدّت بالملحق إلى سمير وصرخت:
“إقرأ!”
عندما دخلا الشقة تهالكت ليليان فوق الكنبة الكبيرة التي اتخذتها سريرًا. كانت كمية الڤودكا التي اجترعتها كفيلة بطرح سمير إلى الفراش لأسبوع واحد على الأقل. إنها المرة الأولى التي يذهب فيها إلى ذلك البار، في شارع “نوردو”. مليء بالروس الجدد. كان المعظم عند دخولهما يرقص رقصة خمّن أنها رقصة روسية شعبية، ويدورون في منتصف البار الكبير. رائحة الڤودكا صدمته بشدة فسعل ملء رئتيه. المجيء إلى هنا الآن لا يُبشر بالخير. لم يكن عليه موافقة ليليان على المجيء إلى هنا بعد ما رواه لها عن اعتقال وأعمال أخيها غريغوري. كان عليه اصطحابها إلى البيت والتهدئة من روعها. عليه أن يتعلم أن يكون حاسمًا أحيانا.
“إثنان ڤودكا”، قالت ليليان للساقي خلف البار. بالروسية بالطبع.
“ليليان!” صاح سمير مرغما محاولا التغلب على ضجيج الموسيقى الغريبة التي يسمعها لأول مرة.
“ماذا؟” قالت وهي تفرغ الكأس دفعة واحدة.
“لِمَ لا نذهب إليّ، سنشتري قنينة ڤودكا جيدة وسنسهر حتى الصباح.”
“دعك من البيت. أنا لا أود الاقتراب من تلك العمارة ومن الحارة كلها.”
“لا تكوني كذلك، أرجوك.”
“كذلك ماذا؟”
“كذلك عصبية. ليس هذا الوقت الأمثل للتسكع في البارات، بالنسبة لك على الأقل.”
“وما الخطأ فيّ سيد سمير؟”
“لم أقل إنّ فيك خطأ ما.. أنت مجرد مكتئبة والشرب الآن سيزيد الطين بلة.”
“ما سيزيد الطين بلة هو قلقك غير المفهوم. أنت تذكرني بأمي.”
اجترعت الكأس الثانية دفعة واحدة.
“أنا لا أرغب بالتحول إلى أمك أو خالتك، كل ما أود قوله إن…”
“دعك من هذا الآن… إشرب كأسك، بصحتك!”
“ولكن عديني ألا تكثري من الشرب.”
“ألا أكثر من الشرب؟” (قهقهات) أنا رضعت كحولا إذا لم تكن تعلم!”
كانت تلك المرة الثانية التي يسمع فيها تلك الجملة من نساء خلال يومين. عليه أن يعتاد الشرب الانتحاري ليستعيد شيئا من رجولته الضائعة.
لم تحتج ليليان إلى أكثر من دقيقتين لتغفو. بالنسبة لسمير الذي كان يغطيها ويعدّل من وضعيتها فوق الكنبة كان هذا فقدانًا للوعي. حتى محاولته المتكررة البائسة لسؤالها ما إذا كانت ترغب بالنهوض صباحًا في ساعة معينة، باءت بالفشل المحزن. غدًا السبت، تذكّر سمير، وليس هناك ما تفعله أو يفعله هو. الساعة الآن الثانية وسيخلد للنوم حالا. سينام حتى العصر. وجد نفسه، من دون أن يشعر أو يحاول التأني قليلا للتأكد من رغبته بذلك، يدخل بهدوء تحت الغطاء الذي التفّ حول ليليان ويلفّ ذراعيه حولها من الخلف. إنه الآن ينام بجانبها على الأريكة في الصالة من دون أن يخطط لذلك حتى اللحظة الفائتة. ليليان على الأقل تلذذت لهذه الحركة وهي في غيبوبتها البعيدة فشدّت بيديها على ساعديه الكبيرين.
“تصبحين على خير”، وجد نفسه يتمتم.
(إلى صفحة الرواية)