“الناقدة الفنية” تغادر غاضبة
“هل جربتَ الرقم ثانية؟”
رفع الدال نقطة رأسه عن الجريدة وتطلّع نحو سمير. كانا يجلسان في “المقهى الصغير” صباح الجمعة، الساعة الحادية عشرة. طقس أزليّ عند سمير. يوم الجمعة يجب أن يبدأ بالقهوة في المقهى الصغير، الجرائد، المعارف والأصحاب؛ البعض يأتي ليبدأ صباحه والبعض ينضمّ بعد إيقافه وهو يمرّ بالسيارة، وتُشغّل عليه كل الإغراءات الممكنة (“قهوة على حسابي”، “هل رأيت الجريدة؟.. عليك رؤيتها الآن”، “هل تذكر الفتاة التي عرفتك عليها بالأمس؟.. ستأتي بعد قليل”). فنجان القهوة يتحوّل إلى اثنين ثم ثلاثة وبداية النهار تتحوّل إلى منتصفه وأكثر.
“نعم.”
“وماذا؟”
“لا شيء.”
“عجيب.”
“ما يحيّرني أكثر هو أنّ “السيرك” ليست معروفة بما فيه الكفاية. حتى عند محبّي الفن. المعظم يعرف أعمال بيكاسو التكعيبية والفترة الزرقاء والحمراء.. لماذا سلسلة “السيرك” بالذات؟”
“هل حاولت الاستفسار ثانية عند أصحابك؟”
“بالطبع! لا أحد يعرف شيئًا جديدًا عن السلسلة.”
“عجيب.”
صمت. فليسأله عن جولي.
“وجولي، هل تعرف شيئًا عن الموضوع؟”
“لم أتحدث إليها بعد. قد تكون تعرف شيئا، ولكنها على الأغلب لا تعرف لأنّ اهتمامها محصور كله بالفنّ والفنانين المعاصرين.”
ابتسم.
“لِمَ هذه الابتسامة؟”
“يعني، ممّا سمعته يتضح لي أنكم أصبحتم أصدقاء حميمين.”
“ما المعنى؟”
“يعني، تسكران سوية ثم تذهبان إلى فندقها..”
“ما هذه.. غيرة؟”
“ها..ها.. لقد كبرتُ على الغيرة.”
“إذًا؟”
“إذًا، إذا كان هناك ما تودّ معرفته عن جولي فأعتقد أنّ بإمكانك سؤالها شخصيًا.”
“معقول أيضًا.”
صمت.
“هل كنتَ على علاقة مع جولي في السابق؟”
كانت علامات المفاجأة قد بدت على وجه الدال نقطة. أجاب بسرعة:
“لا، ليس من نوع العلاقة التي ترمي إليها.”
“وما هي العلاقة التي أرمي إليها؟”
“سمير دعك من هذه المناورات.. ثم هل نسيت أنك تتكلم مع شخص في عمر والدك؟”
“وماذا يعني هذا؟”
“لا أعتقد أنك تتكلم مع والدك عن علاقاته المفترضة مع النساء.”
“ولكنك لستَ والدي.”
“كيف الحال؟”
كانت “الناقدة الفنية” تقف إلى جانب الطاولة. لم يشعرا باقترابها ولذلك استدار إليها الدال نقطة ابن الزانية بسرعة واضطراب.
“أهلا”، قال سمير بما استطاع من الابتسام، “أين اختفيتِ؟”
جاء السؤال سمجًا فمحا الابتسامة عن شفتيه فورًا.
“هنا وهناك”، قالت بكسل، “هل أزعجكما إذا انضممت؟”
إذا كان أحدهما قد فكّر بالاجابة فإنّ أمله قد خاب فورًا. سحبت كرسيًا وجلست. “الناقدة الفنية” معروفة عند الجميع بسماجتها وفقدانها التامّ لأقلّ قدر من الحساسية. تنضمّ إلى القعدة متى شاءت، تتكلم وتتدخل بما لا يعنيها، تحمل الجميع على الصمت بعد حديث صاخب. باختصار: لصقة أمريكية!
“أنت تعرفين الدكتور حكيم، على ما أعتقد.”
“نعم.”
نظرتْ إلى الدال نقطة مبتسمة.
“أهلا”، أجاب محاولا الابتسام.
“إذًا، سألتَني أين اختفيت. في الواقع أنا لم أختفِ، بل هربتُ من موجة ضحك هستيرية.”
لم يكن الدال نقطة يستمع إلى كلامها بالمعنى المعهود للكلمة. موجة الضحك الهستيرية أثارت فضوله بالرغم من ذلك فتطلع نحو سمير، بما معناه: ضحك هستيري؟
“تعالي نتفق على أنه لم تكن هناك موجة ولم تكن هستيرية.”
“من رآكَ في تلك اللحظة ظنّ أنّ مسًّا قد أصابك.”
“تعالي لا نبالغ”، قال وقد بدا عليه الضيق.
“تعالَ نفهم الآن ما أضحكك!”
“لا أودّ الازعاج لمسار حديثكما، ولكنكما إذا أردتما الحديث عن الموضوع فأنا أصرّ على سماع خلفية الحدث التي أدّت إلى موجة الضّحك الهستيرية.
كان الدال نقطة ينظر إلى سمير بخبث وبوادر ابتسامة الشامت تُبرعم على شفتيه.
“حسنا، من سيحكي الخلفية أنا أم أنت؟”.. توجه سمير إلى “الناقدة الفنية” وشمّر عن ساعديه بحركة استعراضية.
لم تودّ “الناقدة الفنية” الانسحاب الآن، خصوصًا وأنّ روح الحرب قد استولت عليها عندما رأت سمير من بعيد يجلس مع د. حكيم في المقهى. روت “الناقدة الفنية” الخلفية، المعرض، النبيذ الرخيص، الطابور الذي خرج به سمير وعباس من المراحيض.
“استطاعت أميرة تهدئة عباس وحمله إلى السيارة. وجدتُ نفسي أخرج سمير من القاعة إلى سيارتي لأخذه إلى البيت. قبل الصعود إلى السيارة قال إنه يودّ التبوّل بشدة. اصطحبتُه إلى خلف السيارة واستدرتُ لأتراجع قليلا. إلى أين تذهبين؟ صرخ. أنا لا أستطيع الوصول إلى السحّاب. ماذا كان بوسعي عمله؟ اقتربت منه وفتحت له السّحاب بحذر. كان يقف بصعوبة ويترنّح كما لو أنه شرب بحرًا من الكحول. سمعته يتمتم شيئًا عن أنه سيبول في البنطال. لم أكن لأسمح لشيء كهذا بالحصول لفناننا في ليلة افتتاح معرضه، خصوصًا وأنّ إحدى المدعوّات إلى المعرض كانت تقف قرب السيارات.”
“إذًا، ساعدتِه على التبوّل باختصار.”
“ليس هذا فقط، لقد بال على حذائي..”
كان من المستحيل على سمير ألا يضحك أو يبتسم على الاقل، فأصدر شهقة تلاها مباشرة باعتراض ضاجّ لئلا يُتّهم بالفظاظة.
“ليس صحيحًا، لم تتطوّر الأمور إلى هذه الدرجة. لا أتذكر أنني بلتُ على حذائكِ.”
“أنتَ لا تتذكّر شيئًا ممّا حصل تلك الليلة.”
“وهذا يعطيكِ كل الامكانيات في الدنيا لاختلاق ما تشائين من الروايات والافتراءات.”
“أنتَ ببساطة لا تحتمل الحقيقة المرة.”
“وماذا حصل بعد ذلك؟”
“ماذا تقصد؟”
“بعد ذلك. بعد أن أوصلتِني إلى البيت؟”
صمت.
“حسنا، أعتقد أنّ عليّ الذهاب الآن. اتصل بي هذا المساء فربما خرجنا قليلا.”
“حسنا دكتور. باي.”
ابتعد الدال نقطة رويدًا رويدًا بما يلائم مشيته.
“لم يكن هذا لائقا أبدًا ما فعلته الآن..”
“ماذا؟”.. انتبه سمير إلى أنّ “الناقدة الفنية” ما زالت جالسة أمامه.
“ما هو الذي لم يكن لائقًا؟”
“محاولة إحراجي أمام الدكتور حكيم: وماذا حصل بعد ذلك؟”
“لم أقصد ذلك. بل..”
“فلتعلم جيدًا أنني لو حكيت ما جرى بعد صعودنا إلى بيتك لكان الاحراج من نصيبك أنتَ!”
“ماذا تقصدين؟”
“يعني، نتعرّى ونتقبل ولا أكاد أعود من المراحيض حتى أجدك نائمًا كقطعة خشب.”
“لقد كنتُ منهكًا وثملاً كما تعلمين.”
“وماذا مع فحولتك؟”
لقد زادتها هذه المرة.
“أنتِ لا تستثيرين فحولتي!”
“هكذا إذًا يا ابن الزانية؟!”
قامت بسرعة، حملت محفظتها وهرولت مبتعدة. لم يحرّك ساكنًا. ربما تمنّى من دون أن يدري نهاية كهذه. لن يضطرّ على الأقل لاحتمالها واحتمال سماجتها بعد اليوم. لا تكرهوا شرًا لعله خيرٌ لكم. تناول الجريدة، تصفح عناوين الصفحة الأولى ثم أخذ الملحق بين يديه. كانت صورة غريغوري واثنان من الشرطيين يقتادانه مكبلا إلى داخل محطة الشرطة، تملأ الغلاف. “حكّلّي بحكّلّك!” كان العنوان يصرخ.
(إلى صفحة الرواية)