الفصل الأول من “أورفوار عكا”
الوَقعة الأولى
24 آذار
يمكنه أن يمدّ يده قليلاً وأن يطعنه في قلبه!
عليه أن يقترب عدة خطوات فقط ليطعنه في قفصه الصدريّ، ناحية اليسار بإصبعيْن، كما قالوا له. بإصبعين لا أكثر ولا أقلّ وعندها سيموت فورًا. سيطعنه كما علّموه في الرّزداق[1] قرب حيفا أمس، حيث أعطوه هذه السّكين الكبيرة، الفرنساوية، وقالوا له: هذه مُميتة. هذه ستقتل أكبر ثور. وهذا النائم قبالته الآن يراه ثورًا يودّ لو يذبحه كما ذبح الآلاف.
ولكنه اكتشف أنّ عدم إحضار السكين الصغرى كان حماقة كبيرة؛ فالسّكين التي يحملها طويلة وكبيرة ويمكن أن تعيقه الآن في هذه الظلمة. إنه متمرّس في حمل سكينه الصغيرة وفي إدارتها في يده اليمنى ثم إلى اليسرى، كما يليق بفارس في العسكرية، مع أنّ الطبنجة كانت ستكون حلاً أسهلَ بالتأكيد. ولكنّ صوت النار كان سيوقعه في الأسر لا شكّ وقد يقتلونه على الفور. يجب أن يكون في غاية الحذر؛ فإذا فشلت مهمّته فإنه سيُقتل لا شكّ ولكن بعد أن يتذوّق صنوف التعذيب التي يتقن جلاّدو أحمد باشا الجزّار أن يُنزلوها بالناس. لن يحتاج لأكثر من ثوانٍ كي يخرج من مخبئه من وراء الستارة الطويلة التي تصدّ نسيم الربيع العكيّ الليليّ المتردّد ويغرز سكينه في صدر أحمد باشا الجزّار الذي ينام قبالته على سريره الكبير الوثير.
لم يُعِرْ تلك الرجفة الخفيفة في يده اليمنى أيّ اهتمام. كانت رجفة تكاد لا تُحسّ عندما عاد قبل ساعتيْن إلى عكا، ولكنّ الرجفة الآن محسوسة. تمامًا كما شعر بها وهو ينسلّ عبر النفق السريّ تحت الأرض الواصل إلى مهجع الجزار في السّراي، متغلبًا على الظلمة والرطوبة والشعور بالاختناق الذي اعتراه. كان يمشي تارة، يزحف، ثم يستريح، مع أنّ النقق ملائم للمشي السريع ويمكن أن يقطعه بأقلّ من دقائق معدودة. نظر إلى السكين التي في يمناه ووجدها ترتعد قليلاً. مسح نقطة عرق باردة تجمّعت وحدها في منتصف جبهته، ثم نظر عبر الشباك الكبير المُطلّ على أسكلة عكا[2]. كانت السفن الحربية الإنجليزية والغلايين والشواني والمراكب الموسوقة[3] راسية خارجه، ومن بعيد كان يمكن أن يرى حيفا. لقد سقطت حيفا بسهولة وسلم أهلها نابليون مفتاح المدينة بلا قتال. نابليون يريد قتل الجزّار بسرعة كي يدخل عكا آمنًا مطمئنًا. تردّد في البدء ما إذا كان يستطيع اغتيال الجزّار، ولكنه في النهاية توجّه إلى الفرنساوية وعرض خدماته. استقبلوه بحفاوة، حتى إنّ بونابَرته نفسه دخل الخيمة العسكرية وهزّ رأسه له بتحيّة خفيفة عاجلة.
نظر ثانية إلى السّرير وراقب تنفس الجزّار الهادئ. لقد تجاوز السبعين من عمره، ولكنه ما يزال يكرّ ويفرّ كالعفريت.
أيّ جزار هذا! أيّ رجل!
وها هو ذا الآن ينام أمامه، لا حول له ولا قوة. يراقب تنفسّه البطيء، ويسمع صوت شخيره الخفيف الرتيب. عليه أن يمسح العرق ثانية عن جبهته، فقد غطاها كلها الآن. أخرج منديله القرمزيّ المطرّز ومسح جبهته جيدًا ثم نقل السّكين إلى يُسراه ومسح يده اليمنى المرتعشة والمتعرّقة. لماذا يخافه وهو نائم أمامه؟ عليه أن يستجمع بأسه، أن يثبت أنه جدير بهذه المهمة، أنه قادر على انتزاع ثأره ممّن قتل أباه وأخاه بضربتي سيف باردتين.
اُصمد! وبّخَ نفسه، أيخيفك هذا المُسنّ النائم وأنت في عزّ شبابك لمّا تتجاوز الثامنة والعشرين؟ عليه أن يلفظ نفسه الآن، أن يملأ رئتيه بما استطاع لأنّ هذا قد يكون النفس الأخير.
تقدّم بسكينه من السّرير ورفعها في الهواء. كان يقف فوق سرير الجزّار ويتأمل ما تيسّر من وجهه ولحيته الرمادية الكبيرة في عتمة الغرفة، فأحسّ بأنّ دموعه ستنهمر. يا ويلي، ما الذي يحدث لي؟ ألستُ قادرًا على قتل قاتل أبي وأخي؟ من يكون هذا الطاعن في السنّ الذي يُرهبني في نومه أيضًا؟ هل هو صراخ المساجين في سجن السراي؟ هل هو نحيب النساء والأطفال؟ هل هي عذابات أهل الشام وصيدا وبيروت؟ لماذا يبكي الآن؟ أيّ عار هذا وغريمه -قاتل أبيه وأخيه والمئات من أهله وبلدته- ينام مرتخيًا أمامه بانتظار الطعنة التي ستريح العالم من هذا الجبار القذر؟
بطعنة واحدة سيدخل التاريخ؛ طعنة واحدة وسترتاح الأيالات[4] من هذا الجزّار المجنون، طعنة واحدة وسينتهي حصار الفرنساوية على مدينته وسينتهي كلّ شيء. تشجّع لهذه الفكرة: طعنة واحدة وينتهي كلّ شيء. لن يهبّ أحد لإكمال مشوار هذا الجزّار، فالجميع يكرهونه- حتى معاونيه ومساعديه وحاشيته. ألم يقطع آذانهم ويجدع أنوفهم لأتفه الأسباب؟ إذا رحل هذا الرجل الغريب فسينتهي كلّ شيء. سيدخل بونابَرته عكا بسلام، وسيحفظ أهلها كما فعل في حيفا وسيُدخل المطابع والجرائد والمسارح وسيجعل من أهل هذه البلاد أمة تقرأ وتكتب. لماذا يكرهون الفرنساوية إلى هذا الحدّ؟ هل الأتراك أفضل منهم، فكّر مضطربًا وتردّد صدى السؤال في عقله، مع أنه لم يكن يملك جوابًا حاسمًا عليه.
إلا أنّ الطعنة لم تأتِ. انقلب الجزّار على ظهره وصار وجهه صوب السقف. تراجعت السكين وحاملها إلى الوراء، ثم أحسّ بالجزع الشديد ينتابه دفعةً واحدةً فوجد نفسه يختبئ مسرعًا وراء الستارة الكبيرة ويحاول جاهدًا منع نفسه من العويل المباغت. إنه يبكي والده وأخاه، هذا ما كان يظنّه، إلا أنّه كان يبكي رجولته المحطّمة ويبكي انهياره المخزي أمام هذا الطاغية في لحظة سانحة لم تسنح للمئات من قبله، كانوا يشتهون مثلها.
“سليم…”، جاء صوت الجزّار خفيضًا، مبحوحًا بحّة النوم.
انتفض حامل السكين وارتعش، ووجد نفسه يلتصق أكثر وأكثر بالحائط من خلفه، مرتعدةً فرائصُه.
بعد لحظات دخل الحارس المهجع مهرولاً.
“سيدي… نَدَهْتِلِّي؟”
“جاءوا الفرنساوية؟”
“لأ يا سيدي، ما وصلوا.”
“تعبان…”
“نحن قدامك ومعك يا سيدي.”
“ماذا بدّو هذا الفرنساوي الكلب؟”
“نحن معاك يا سيدي.”
“ما تخافوا؟ أريد راياتو منقوصة.[5]”
“ما نخاف. معك وقدامك مولاي.”
“فين سليم؟”
“سليم… سليم مو معنا.”
“إشتقت لسليم.”
“بتهون سيدي…”
“جسمي قتلني… صاير ختيار. قربت النهاية؟”
“النهاية ما بتقرب يا سيدي، إذا ما دعيناها ما بتقرّب.”
قعد الجزار في السرير دفعة واحدة كأنه استيقظ من حلم. نظر حوله فرأى الحارس فصاح: “شو تساوي هون يا كلب؟” تلعثم الحارس وهانت عزيمته وبدأ يتقهقر للوراء ببطء خافضًا رأسه بخشوع.
“أُغرب!”
خرج الحارس مهرولاً. تأمّل الجزار المهجع من حوله ثم عاد للاستلقاء مبحلقًا في السقف. قبل عدة أيام كان على وشك الرحيل وترْك هذه السراي التي أحبّها، لكن القبيدان سميث ودي فيليبو أقنعاه بالبقاء والدفاع عن عكا. قالا إنّ عكا أحصن من يافا ويجب وقفه هنا قبل أن يحصل الأسوأ. سيتذكر الناس صمود الجزار والمسلمين في وجه هذا المغامر، وسيُخلّد اسمك للأبد. استعاد الجزار في استلقائه تلك المحادثة التي رافقها الترجمان إبراهيم ببراعة وخفّة، فنقل له فحوى الكلام ودقائقه بأمانة ودراية. يذكر الجزار أنه رأى نفسه لحظتها راكبًا فرسه والآلاف من حوله ترقص وتصيح وتغني وتهتف باسمه، والدونما[6] تُبهر الناظرين.
كان حامل السكين في هذه الأثناء يزحف واقفًا ملصقًا ظهره بالحائط الكبير. ولم ينتبه إلى أنّه أصبح محاذيًا للشباك الكبير، إلا عندما أحسّ بفراغ كبير وراءه يمتصّه إلى الخلف بغتة، فيميل جسده كله إلى الوراء. وخوفًا من الوقوع من أعلى الطابق الشاهق في السراي، دفع نفسه دفعة واحدة ليرتمي على أرض الغرفة. هبّ الجزار كالملسوع وانقضّ على الرجل المطروح على أرض الغرفة، وصرخ بالحراس. حاول الرجل الطريح أن يقاوم أو يفلت من قبضة الجزار إلا أنّ الحارس هبّ وانقض عليه فأوقعه أرضًا ثانية وبدأ يخنقه بيديْه، فاحمرّ وجه الرجل وجحظت عيناه إلى أن صاح الجزّار:
“ما تقتله! خليه الكلب.. يتفرّجوا عليه!”
“يا أجناد!” صاح الحارس بأعلى صوته.
إمتلأت غرفة الجزّار بالأجناد والصلدات[7]. اقترب الجزّار من السكين والمنديل ورفعهما متأملاً ثم تمتم:
“فرنساوية؟؟”
خرج سليم والأجناد مسرعين وهم يجرّون الرجل من الغرفة، تاركين أحمد باشا الجزّار واقفًا عند الشباك ينظر صوب الصلدات الفرنساوية الذين تجمّع بعضهم فوق التل الكبير المشرف على عكا، بغضب وحقد. عاد واضطجع ولفّ نفسه بغطاء السرير القرمزيّ الحريريّ ولا يرى ولا يسمع أيًا من أجناده الذين كانوا يروحون ويجيئون في الرّواق بهلع. كان يسمع أنفاسهم وتمتماتهم، ويشمّ رائحة خوفهم، مثل الحيوانات الكريهة التي تصدر روائحها المقزّزة خوفًا من مفترسها. غضب دفعة واحدة، قام وخرج مُسرعًا من الغرفة. رفع السّكين وزرعها في قلب الحارس الذي كان يقف عند المدخل فخرّ صريعًا. ثم دنا من الحارس الثاني وحزّ رقبته بالسكين فتخبط في دمائه يرفس بقدمه إلى الأمام والخلف كشاةٍ مذبوحة. فرّ باقي الأجناد فرمى الجزّار السكين باتجاههم وهو يصرخ:
“إنتو متآمرين كلاب! Djubre، izdajica،[8] كلاب!”
نظر الجزّار ثانية صوب عكا، وعلى الفور دهمته الكلمات متلعثمة غريبة مفاجئة:
Vedro mu nebo pokrivac,
A moja ruka uzglavlje,
Zovni ga, majko, na konak!
Zovni ga, majko, boga ti!
(وتكون السماء الزرقاء لهُ غطاءً،
ومخدةً تكُونُ ذراعي الجميلةُ.
سيأتي، يا أمّي، ليغفوَ ليلاً،
فَليأتِ رجاءً يا الله.)
اقترب أحمد باشا الجزّار من الشباك الكبير ثم صرخ:
“خونة!”
.
حواشٍ:
[1] المعسكر.
[2] ميناء عكا.
[3] الغلايين (مفردها غليون) والشونة (وجمعها شواني) وهما من المراكب الشراعية الحربية. المراكب الموسوقة: مراكب النقل.
[4] الولايات.
[5] راياته مُنكّسة.
[6] زينة المدينة.
[7]الصلدات: جنود (من Soldats الفرنسية).
[8] كلاب، خونة بالبوسنية.