هل سأصبح يومًا أديبًا حقيقيًا؟/ علاء حليحل
نُشرت هذه الشهادة الأدبية في مجلة الدراسات الفلسطينية، عدد 96، خريف 2013، ضمن ملف خاص تحت عنوان “نحو أدب فلسطيني جديد”
علاء حليحل
لسوء حظيّ الشديد، كانت طفولتي سعيدة. ليست لديّ ذكريات دراماتيكية ولا قصص محزنة تختزل الوجع الإنسانيّ كي أرويه للعالم وأبتزّ تضامنه (وأبيعه نسخًا كثيرة من الروايات). أقول من سوء حظي لأنّ الطفولة التعيسة لأيّ كاتب هي كنز لا يفنى، أو على الأقل طفولة “مثيرة”، ملأى بالمشوّقات والأطايب السردية. وهكذا لا أذكر أنني كتبت أيّ نص أو قصة عن طفولتي لم يكن مغمّسًا بجمال المكان الذي كبرتُ فيه وتشكّلت.
أما حسن الحظ المرافق لهذه “المشكلة”، فهو أنني كبرت وتشكّلت في قرية جليلية وادعة (الجش)، هي الوحيدة التي لم تُدمّر في النكبة في منطقتها، بل استوعبت لاجئين من برعم وإقرث وقديتا، قرية جدّي التي امّحت تمامًا عن الوجود. هذا الخليط الكبير من الريفيين، المقيمين واللاجئين، أفرز جوًا جميلا ونادرًا، بحيث أنني اليوم إذا سُئلت على أيّ شاكلة أريد لفلسطين أن تكون، فأجيب بلا تردّد: مثل الجش. لهذه الدرجة. وقد يكون موقع هذه القرية الصغيرة أمرًا حاسمًا في طباع سكانها، حيث أنها في أقصى شمال فلسطين، ورميش اللبنانية على مرمى حجر منها، برغم أنها منقطعة وحيدة بين الكيبوتسات والموشافات اليهودية التي أقيمت من حولها على أراضي سعسع ودلاثة والرأس الأحمر وغيرها.
قرية رعوية تُذكر بالريف الأوروبيّ، طبيعة خضراء غنية وشاسعة، هضاب وتلال وسهول وينابيع رقراقة تفيض في الربيع، مياهها عذبة ونظيفة وتُشرب هنيئًا مريئًا. هذه هي الطفولة بالنسبة لي، وداعة وطمأنينة وجنة صغيرة كانت لنا، نحن الأطفال ومن ثمّ الفتية، مرتعًا للّعب والبحث عن أسرار الطبيعة في المزروعات والأشجار، ومن ثمّ في أجسادنا التي بدأت تصحو رويدًا رويدًا على نداء الربيع المُخدّر. لا يمكنني أن أفكّر للحظة بأيّ كتابة أدبية لا تعود دائمًا إلى الجذور والبدايات، هناك، في تلك الضيعة النادرة في المشهد الريفي الفلسطيني بعد النكبة. المشروع الأدبي الذي أحلم به، والذي ما زلت في بداياته الأولى، يبدأ من هناك وأعتقد أنه سينتهي هناك. عندما أنهي سنتي الخامسة والسبعين سأكون قد أنهيت الرواية بأل التعريف التي أريد كتابتها. سأنتظر 36 سنة أخرى كي أجرؤ على كتابتها، فهي بحاجة إلى عودة جسدية، إلى الطفولة التي شكّلتني. سأشتري بيتًا صغيرًا أقضي فيه تقاعدي في قريتي الجميلة، وسأكتب الملحمة التي ستكون خالية من أيّ حروب أو نزاعات. هذه مهمة مستحيلة، أعرف، ولذلك سأؤجلها إلى سن الخامسة والسبعين، فإذا كتبتها فسيُشار إليّ بالبنان، وإذا لم أفعل فلن يعتب أحد على مُسنّ ضعيف لم يعد يقوى على تشغيل اللابتوب.
• •
أنا لا أعرف ما هو الالتزام. أقصى ما يمكن أن نقول عنه هو الكتابة من أجل فلسطين وقضاياها الحارقة. وعليه، فهل قصة مراهقة حميمية هي كتابة ملتزمة؟ فهي تحكي قضية فلسطيني أو فلسطينية، وهي قصة حارقة بالتأكيد. ولكنني لا أقول فقط إنّ كلمة التزام عصية على التعريف ومراوغة وسطحية إلى أبعد حدّ، بل أقول أيضًا إنني أمقتها وهي مسؤولة بنظري عن الكثير من الجرائم التي اقترفناها بحقّ أنفسنا في المسرح والسينما والموسيقى والأدب والفن التشكيليّ (وعن بعض النجاحات الكبيرة الأخرى). الالتزام هو خصي للمُبدع. أنا أحمل مشروعًا فنيًا وجماليًا، وليس مشروعًا سياسيًا أو “وطنيًا”. لا يجب على الكاتب أن يكون وطنيًا، هذا هراء تامّ. وإذا اقتضت الحاجة فعليه شتم فلسطين وأبنائها وعلمها ورموزها وعاصمتها المستقبلية. هذه هي الضمانة الوحيدة لكتابة نصوص وطنية حقيقية. مفارقة؟ تناقض؟.. طبعًا!
أنا لست كاتبًا فلسطينيًا حين أكتب. لا أعترف بفلسطين ولا بإسرائيل ولا بالصّراع العربي-الصهيوني ولا بأيّ أمر يمتّ بصِلة للنكبة- حين أكتب. حين أكتب أنا كاتب فقط. شخص مأزوم يتعرّق أمام الكيبورد ويحاول ألا يفكر بالطعام كلّ عشر دقائق. لا قومية لي ولا انتماء ولا أهل ينتظرون نصّي كي يقرؤوا أنفسهم فيه. أعرف أنّ هذا مُحبط جدًا لمن يرى فينا جيلا فلسطينيًا “منتصبًا” يعرف كيف يكتب الأدب الجيد خدمة للقضية. أكبر خدمة يمكن أن نقدّمها للقضية أن نطلق سراحها حين نكتب. خذي أيتها القضية المتعبة عشرين درهمًا واذهبي لشرب كأس بيرة ريثما أنتهي، وإياك ثم إياك أن يضحك عليكِ صهيونيّ آخر. هذه المرة سأضربك على مؤخرتك. إذا استوفينا هذا الشّرط وحرّرنا الكاتب الفلسطينيّ (والمبدع عمومًا) من احتضان القضية له ومن ركوبه لها (بكل المعاني)، فقد يحدث مستقبلا أن نسعى باتجاه اجتراح أدبٍ يُسمّونه بالجديد الحقيقيّ.
الفن الملتزم، الأدب الملتزم، المسرح الملتزم، هذه تُرّهات اخترعتها مجموعة من ذوي النوايا الحسنة يحاولون أن يعيشوا طيلة حياتهم في الحضن “الوطنيّ” الدافئ. الأدب هو فعل تحريضيّ وصداميّ وإلا فسيتحوّل إلى مانشيتات تافهة يستطيع كل محترف حزبيّ أن يخطّها وهو ينتج الثورات الشعبية في مكتبه المكيّف. من هنا فإنّ الأدب الرافض للمُعلّبات السياسية والاجتماعية يجب أن يرفض بالضرورة الحِرَفيات السّابقة في الكتابة التي سبقته. هذا ليس دلعًا أو ترفًا إنتلكتواليًا من أجل القول في المقاهي المهترئة إنني تمرّدتُ على إميل حبيبي أو غسان كنفاني أو حنا أبو حنا مثلا. طز في هكذا تمرّد! ما أبحث عنه دائمًا هو النظرة النقدية المستمرّة لما أنتجه سابقونا ولما ننتجه نحن، ومحاولة إيجاد المفردات الملائمة، لي أولا، ككاتب، فقط ككاتب مخلص لنصّه الحرفيّ بعمقه وتجلياته الجّمالية والفكرية. أما الالتزام فهو قاتلٌ هنا. يخصيك. يجعلك في معظم الحالات ردّاحًا جديدًا يخشى التغريد خارج التلم.
أعرف أنّ وضعنا مختلف. وهذا الإدراك يجعلني أعيش في تسوية مع الواقع الفلسطيني. وأقولها بصراحة: أنا أجبن من أن أذبح كل البقرات المقدسة- الآن على الأقل. أعتقد أننا جميعًا أجبن من أن نصل في نقديّتنا وتفكيكنا للرموز إلى هذا الحدّ. نحن كُتاب، شجعان على الورق فقط. هذا هو الامتياز الذي منحتنا إياه الطبيعة ويجب أن نستغله حتى النهاية. وأحاول أن أتفادى مأزق هويتي- وهو مأزق كبير حقًا. فالاسترخاء والنوم في كونك ضحية هو أمر قاتل آخر. لا أريد أن أكون ضحية. لا أريد مقارنة النكبة بالهولوكوست. لا أريد إدمان السلبية والاتكالية وبكائيات النكبة. أريد الخروج من هذا الدور. وها أنا أعلن لك يا تل أبيب وبأعلى صوتي: لو لم تغتالي يافا لكانت يافا اليوم أجمل وأرقى وأبهى منك، وكانت ستفتح ذراعيها للبحر وقد عطّرت نهديْها للبحارة، وكانوا سيأتون سائحين من بولندة وروسيا كي يستلقوا على شواطئها الخلابة. علينا أن نكتب بهذا النفس لا بنفس ضحايا النكبة. هناك من يكتب عن النكبة ويخلدها من مراكز أبحاث وأكاديميين. الأدب الفلسطيني اليوم عليه أن يعيد الثقة والحياة للفلسطينيّ. ولا يمكنك أن تفعل ذلك فيما القضية اللعينة تجلس على كرسي خلفك وتراقب ما تكتب على الشاشة. لهذا يصير فعل التخلص من عبء فلسطينيّتي وأنا أكتب، طريقَ العودة إلى فلسطين الجميلة.
• •
الكُتاب الرائعون هم من يحشرونك في الزاوية، فتتعرّق وتتخربط وتحاول أن تسأل نفسك بصمت مريب مخجل: هل سأصبح يومًا مثلهم؟ لا يهمني كم كتابًا كتبوا أو كم جائزة أخذوا أو كم نسخة باعوا. هؤلاء الكُتاب أكبر من أن يُقاسوا بذلك، برغم أنّ جميعهم كتبوا الكثير وباعوا الكثير وحصدوا الجوائز الكثيرة. أولهم “كليلة ودمنة” التي سبقت “ألف ليلة وليلة” في تحفيز المخيّلة والجوع إلى السّرد. إنه الجوع إلى السرد الذي يبقيني حيًا بكل معنى الكلمة. أراه في توسلات ابنتي شذا كلّ ليلة من أجل قصة ولو صغيرة (قصة الصرصور والنملة!). أتوجد حياة خارج الجوع إلى السرد؟ كيف هي وما لون الذروة فيها؟ هل هناك ذروات بلا نهايات مُتقنة؟ وكيف يمكن أن يتحدث المرء إلى جاره دون أن يتخيله في مشهد روائيّ أو سينمائيّ؟ هل يمكن الإنصات إلى محادثة في تاكسي سرفيس أو في القطار من دون التفكير في كيفية كتابتها في القصة القادمة؟
أكثر من أثر عليّ في الكتابة هم الناس من حولي. أبي وأمي ساردان بامتياز؛ خالاتي كوميديات بارعات؛ أعمامي شخصيات دراماتيكية مبالغ بها؛ أصدقائي جلبوا لي آباءهم وخالاتهم وأعمامهم على طبق من فضة. كلّ الناس من حولي يعملون من أجلي. كلّ من ذكرتهم وأضيف إليهم الجيران والمعارف والزملاء في العمل. وأضيف أيضًا: بورخيس وماركيز وميندوثا وساراماغو ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وتشيخوف ودوستيوفسكي وتولوستوي وكونراد وبوكوفسكي ورءوف مسعد وإميل حبيبي وراشد حسين وطه محمد علي ومحمود شقير وشكسبير ومحمد شكري… ولا شك في أنني نسيت جبرا ابراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف (خصوصًا في روايتهما المشتركة “عالم بلا خرائط”) ورواية واحدة لحنا مينا (“الياطر”)، وغيرهم الكثير.
كلّ رواية أحببتها صارت عندي مرجعًا وبيتًا. أنا منفتح على كلّ منابع الريح. لا لغة مفضلة عندي ولا تيار ولا مدرسة. أحبّ أعماق البشر حين تتقشر بقسوة وحبٍّ في النصوص، أحبّ من يدوّخني ويسحرني حتى في رواية بوليسية يمكن أن تُعتبر تافهة أو ليست “على المقام” (من يأخذ بثأر رواياتك الساحرة يا مايكل مارشال؟). كم كنت سعيدًا حين اكتشفت روايات الإثارة والتشويق والبوليسية. إنها أعظم مدرسة لتدريس حرفية الكتابة بتقنياتها البارعة: غزل الحبكة المتقن، بناء الشخصيات الدقيق، ذكاء التحكم بالمعلومات، المفاجأات المتكررة التي لو اُتقنت لكانت مثل الساحرة الجميلة في قصة سندريلا التي تزيد من سرعة أنفاس ابنتي شذا في كل ليلة من جديد.
أنا مدمن على البحث والتأثر والسرقة الذكية. كلنا لصوص نارٍ ولكن بعضنا أذكى من الآخر، وبعضنا أغبى من الآخر. لا نصّ بدئيّ ابتدع نفسه بنفسه. ولذلك علينا أن نكون منفتحين على الجهات الأربع وإلا ضاعت علينا فرصة التأثر بهذا أو ذاك. الأدب مثل بالون صغير يتقاذفه الأدباء في سرمدية سيزيفية كي لا يقع على الأرض. ستكون محظوظًا بكميات هائلة من الحظ، لو أنك مددتَ يدكَ يومًا وأسهمتَ بضربة خفيفة كي لا يقع البالون على الأرض فتتوقف القصة. ستُسجّل عنها في سجلّ الأدباء العظام، وإذا لم يسعفك الحظ في هذه الضربة الخفيفة فيكفيك متعة أنك تابعت هذا البالون، ودون أن يدري أحد حاولتَ أن تنفخ عليه ذات يوم من شُباك بيتك، دون أن ينتبه أحد لمجهودك الهائل.
نعم، وثربانتس.
(نشرت هذه الشهادة في مجلة الدراسات الفلسطينيّة، العدد 96، خريف 2013)