سميح القاسم: أفنيتُ عمري في خدمة القصيدة، وقصيدتي أهمّ من الوطن!
لقاء صحفي مطوّل ومفصّل مع شاعر المقاومة سميح القاسم، في قريته الرامة التي يحبها ويعتز بها. سبع ساعات من الحديث ستقرأون غالبيتها الساحقة هنا، بصراحة وانفتاح ومن دون خوف من طرق أكثر المواضيع صعوبة: مرض السرطان، الموت، الحياة، محمود درويش، الشعر، الحب، النساء، المقاومة، المُتع الصغيرة والحتمية التاريخية في أن يكون الشاعر الكبير دون جوان…
{نُشرت نسخة مختصرة من هذه المقابلة في عدد “الكرمل الجديد” الأخير}
حاوره: علاء حليحل
يجلس الشّاعر سميح القاسم في غرفة مكتبه الصغيرة في بلدته الرامة الجليلية ونتحدّث عن الموت. لا يطلب القاسم من الموت إلا بعض الأمور: “لا أطلب سوى أن يمهلني كي أنهي بعض الأمور العالقة. أريد أن أزوّج ياسر (ابنه الصغير)، وأن أصدر عدة كتب أخرى أعمل عليها، ومن الممكن أن أكتب “شغلة” أخرى، ممكن.. ولكنه إذا جاء “طز عليه”!.. وآملُ أن يكون الموت مُرتبًا. يعني أن تكون طاولتي وأوراقي مُرتبة.. أن تكون الكتب التي أرغب بطبعها في المطبعة، ألا أكون مدينًا، أن يكون أولادي مرتبين في أعمالهم وحياتهم. أن يكون بيتي مُرتبًا. وليأتِ الموت وأنا مُستحمٌّ ومُرتدٍ ملابسَ جميلة ومرتبة. أنا أحبّ الأناقة حتى في الموت. أحبّه أن يكون أنيقًا ونظيفًا وجميلاً ومُرتبًا.”
كان هذا الحديث الصّادم في برودته وعقلانيته عن الموت آخرَ ما تحدّثنا عنه بعد ثلاث جلسات طوال استغرقها هذا اللقاء المُسهب. القاسم لا يحبّ المواربة أبدًا، يتحدّث بصراحة ومباشرة عن كلّ شيء: عن الموت ومرض السّرطان الذي دهمه، عن الطائفة العربية الدرزية وعلاقتها بالمجتمع العربيّ ككلّ، عن السّنة التي أمضاها في الجيش الإسرائيلي مسجونًا ومُدرّسًا، عن حبه الكبير لرفيق دربه محمود درويش، وعن “الخيانة” التي شعر بها حين ترك الأخيرُ البلادَ عام 1970. تحرّجتُ في أكثر من مرة في جلساتنا الطوال من السّؤال عن مواضيع حساسة ربما، النساء مثلا، لكنه كما في كلّ مسألة طرحتُها وطرحها لم يتهرّب ولم يتلعثم. يقول بثقة كبيرة: “نعم، على الشاعر الجيّد أن يكون دون جوان.. هذا ما أقوله عني على الأقل”، ثم يضحك.
لهذا لم أتحرّج من افتتاح هذا الحوار بهذا المقطع عن الموت. هو مدخل صعب إلى السّهل المُمتنع الذي عاشه شاعر المقاومة طيلة حياته. خرجت من عند القاسم بحبّ جديد لشعر المقاومة وثقافتها، بعد أن ثرنا عليه أنا وجيلي المعاصر. وبين الرّفض السّابق والحبّ الجّديد، امتدّت تسع ساعات من الحديث والكلام، ستقرأون جُلّ ما دار فيها. هذه المادة حوارية، هدفها الأول والأخير الاستماع إلى أحد أبرز وأهمّ الشعراء العرب والفلسطينيين، ومحاولة فهم هذه المسيرة التي عاشها بالطول والعرض. بعد الاستماع إلى التسجيلات، لم أجد مكانًا للإسهاب في تجربته الشعرية كما كنتُ خططتُ في البداية. التجربة موثقة في كتب نقديّة كثيرة وهي مُتاحة للدارسين والمهتمين.
الخندق الأخير
ينبسط القاسم حين أناديه “يا رفيق”. يقول: “كلمة يا رفيق لم تعد في الموضة، ولكن جيد أنك تستعملها. برافو عليك.. هي كلمة إنسانية، حتى الله اسمه الرفيق الأعلى.” وبين رفيق ورفيق، ينزعج القاسم حين يعرف أنّ المجلة التي بين أيديكم صار اسمها “الكرمل الجديد”. فهو يؤثر أن تظلّ على اسمها القديم، “الكرمل”، وأن يُكتب عليها اسم محمود درويش كمؤسس ورئيس تحرير أوّل. لكنّ هذا ليس مأخذه الوحيد على “الكرمل”، فله بعض منها على “الكرمل” القديمة أيضًا: “مجلة “الكرمل” كانت تصدر منفصلة عن الحركة الثقافية الفلسطينية.. كانت كأنها في كوكب آخر. ومحمود (درويش) لم يكن متفرغًا لها، ومن كان ينوب عنه (سليم بركات) لم يكن ابن الميدان، ابن الهمّ الثقافي والشّعبي والجماهيري، مع أنه كان موهوبًا وحبّوبًا.”
– كانت “الكرمل” بعيدة عنا قليلا..
سميح القاسم: “نعم، لم تكن مجلة الثقافة الفلسطينية. لا. كنت أتحدث مع محمود ويقول لي “أنا مسلمها لسليم وسليم يعمل عليها”… أتأمل أن تتطوّر الآن.”
حين قلتُ للقاسم إنّ المجلة ستنشر موادّها على الويب مجّانا انزعج مرة أخرى، وقال إنّ هذا لا يجوز: “غلط. نحن في عالم رأسماليّ وحتى العمل الثقافي يجب أن يأخذ هذا بعين الاعتبار. التمويل (الأجنبي) ليس دائمًا ولا يمكنك أن تضمنه. ممنوع أن تتكل على التمويل. يجب على المجلة الثقافية أن تموّل نفسها بنفسها. أن تصدر العدد على نفقتها بالحدّ الأدنى. فمثلما يقول اليهود “المُموّل هو صاحب الرأي” وسيفرض رأيه، سواءً أحكى أم لم يحكِ. يجب أن تأخذ وجهة نظره بعين الاعتبار. إذا كانت فرنسا تمول مجلة ما فلا يمكنك أن تحكي شيئًا ضدّ فرنسا. وإذا موّلتها بريطانيا يجب أن تجامل بريطانيا… والمهادنة هي خيانة. لا مجاملة في الثقافة. كلمة خائن بالمفهوم الثقافي أخطر من كلمة خائن بالمفهوم السياسي. في الثقافة يجب أن تكون واضحًا وجريئًا وصريحًا بكل معنى الكلمة.”
– الفعل الثقافي في يومنا فعل انتحاريّ من الناحية المادية.
س.ق. “لا، توجد بعض المبالغات… لا ليس فعلا انتحاريًا.”
– “من الناحية المادية أقصد.. أنت مثلا عشت على معاش الحزب سنوات طويلة…
س.ق. “مرة اندلع نقاش بيني وبينهم واتهموني بأنني قوميّ عربيّ وأرستقراطيّ ومش عارف شو.. قال لهم توفيق زياد: سميح القاسم أعطى الحزب أكثر مما أعطى الحزب لسميح القاسم. والحزب يحتاجه أكثر ممّا يحتاج هو الحزب. أمّا الثقافة فتظل برأيي الخندق الأخير للجنس البشري كله. الاقتصاد اليوم ملوّث، السياسة ملوثة، الحرب ملوثة، الإيديولوجيات تلوثت، ما بقي برأيي للإنسانية كلها –ليس لنا فقط كعرب ومسلمين وشرقيين- هي الثقافة، الخندق الأخير. وإذا انهار هذا الخندق سنفقد معنى إنسانيتنا.”
– وكيف ترى خندقنا اليوم؟
س.ق. أنا متفائل. لم أكن بطبيعتي مع اليأس يومًا، وتعرف؟ من يومين زارني شباب وقالوا لي: أنت ومحمود (درويش) صنعتم سقفًا وأنشأتم ظلا لا تنبت النباتات فيه. قلت لهم هذا كلام سخيف وكلام فارغ. فقبلنا كانت سقوف أيضًا، إبدأ من الشنفرى وامرئ القيس والمتنبي والمعري وحتى أيام إبراهيم طوقان وأبو سلمى ومعين بسيسو وفدوى طوقان وعبد الكريم الكرمي، كلهم سقوف ما شاء الله. يستطيع كلّ جيل أن يضيف. لا يوجد جيل محكوم بسقف غير قابل للاختراق. لا يوجد سقف غير قابل للاختراق في الثقافة في الإبداع.. هذا وهم. والإعلام لا يصنع شاعرًا والأحزاب لا تصنع أديبًا- من غير الممكن! كلّ أحزاب العالم لا يمكنها فعل ذلك. إذا كان النصّ الذي لديك غير مؤهّل لفرض نفسه فليس بإمكان الدولة أو الحزب أو الإعلام فرضه. في فترة ما أعتقد أنّ بعض الناس تضايقوا مني ومن محمود لأننا قطعنا شوطًا في العالم، لكننا لم نُغطِّ على أحد ولم نمنع أحدًا. ونحن لم نأخذ شوطنا لا من ياسر عرفات ولا من محمود عباس ولا من الحزب الشيوعي ولا من “الاتحاد”. من يأخذ الشوط هو النصّ؛ النصّ هو الذي يقرّر إذا كنت ستظهر أم لا، إذا كان ظهورك مستمرًا أم غير مستمر.
– وهذا ربما جعلك في مرحلة ما ضحية للتشويه.
س.ق. “أنا ضد نظرية صراع الأجيال. لا يوجد صراع أجيال، يوجد تكامل أجيال. الصراع هنا أكذوبة ووهم واختلاق. أنا أفرح عندما أسمع قصيدة أو أقرأ نصًا لكاتب جديد وكأنه وُلد لي ولد. أيّ وضع آخر سيُنتج عداوة.. ماذا؟ هل سنعادي المتنبي مثلا؟ “
العروبة والأممية
يستغلّ القاسم وجودي في اللقاءات عنده فيفرط في التدخين وشرب القهوة. أفرط أنا معه أيضًا، رغم أنني أحاول التقليل من الاثنين. لكنّ التدخين في هذه الحالة نوع من التواطؤ والتحدي ضدّ السياق الذي نجلس فيه. يبتسم وهو يقول: “أنا متفاجئ من أمر ما. منذ سنة أو أكثر كتبت مقالة ضد برامج الطبخ التي يبثونها على الفضائيات العربية. وكتبت بغضب. ما قصة هذا الشِّف رمزي والشِّف لا أدري مَن، والمطبخ الفرنسي والمطبخ الإيطالي.. نحن أمّة جائعة! بالكاد نحصل رغيف العيش والطعمية؛ فما معنى هذه البرامج؟ كانت تُجنّني، أتضايق. فهذا تزوير لحياتنا. ليست مشكلة الأمّة العربية الآن الطبخ، ليست هذه مشكلتنا. مشكلتنا رغيف الخبز. ضعوا برامجَ عن العمال العاطلين عن العمل، عن المثقفين، عن الأكاديميين العاطلين عن العمل. لكنني في المدّة الأخيرة، ومنذ بدء المرض، صرتُ أضطرّ للبقاء في البيت فترات طويلة. ولكن مع تكرار نشرات الأخبار اكتشفتُ أنني صرتُ أتابع برامج الطبخ. يضحك. هذا شرّ البلية الذي يضحك.. انقلبت على نفسي.. بعد أن كتبت مقالة عنيفة وتوبيخية عن هذه البرامج.”
في تشرين الثاني من العام المنصرم 2011، أصدر القاسم كتاب سيرة أسماه “إنها مجرّد منفضة”.[1] تحت العنوان الرئيسي كتب بشكل غير عاديّ وغير مُتبع: “لأبي محمد سميح بن محمد بن القاسم بن محمد بن الحسين بن محمد بن علي بن الحسين بن سعيد بن خير بن محمد بن سلمان بن الحسين بن علي بن خير بن محمد بن الحسين”. ما يشبه شجرة عائلة لأجيال تتعاقب بنفس الأسماء، حاملة معها نواة الاستمرار والتعاقب، وسميح القاسم يحبّ هذه الشجرة. على الحائط قبالته، في غرفة المكتب الصغيرة، تجد خمس أو ست صور للآباء والأجداد وأجداد الأجداد.
لا يمكنك أن تظلّ محايدًا إزاء هذا الحبّ والارتباط بالوجوه والفروع والتاريخ العائلي-القوميّ. أفكّر في هذا الفخر وفي المساحة الكبيرة التي خصصها في سيرته كي يحكي عن عائلته، آل حسين، وأول ما يتبادر إلى ذهني التناقض الذي تعيشه الطائفة العربية الدرزية. أسأله، فيرفض:
س.ق. “الطائفة العربية الدرزية ليس فيها أيّ تناقض. عندما تجلس مع المُسنين والختيارية والمشايخ، يقولون لك إننا عرب ومسلمون وروحنا فلسطينية.. ولكن يا عمّي عندما جاء أهل هذه البلدة أو تلك وفعلوا بنا كذا، وسرقوا الأرض وسبّوا ديننا والنبي شعيب؛ وفي الدالية يقولون: جاءوا وأخذوا زوجة المختار وأعادوها بعد شهر… توجد قصص قديمة تراكمت. ثم جاء اليهود الأوروبيون وقالوا: لن يقترب أحد من دينكم وأرضكم وعرضكم ومن هذا الكلام، وسنحميكم. عندها أحسّوا بالفرق في المعاملة. توجد رواسب قديمة، نعم. السّؤال هو: هل على جيلنا وجيلكم والجيل الذي بعدكم أن نستسلم لهذه الرواسب ونحكّمها بحياتنا أو نتحدّاها ونقاومها؟ أنا مع عدم الاستسلام للرّواسب. خذ ساجور مثلا، هنا، في فترة من الفترات تحوّلت القرية إلى معسكر جيش، جميعهم ذهبوا إلى الجيش. تسألهم لماذا؟ بماذا نفعكم الجيش؟ يقولون لك: جيراننا يسبوننا ويسرقوننا ويبهدلوننا. جاء اليهود وشغّلونا وصرنا نملك النقود واشترينا السيارات… هذا طبيعي في مجتمع بسيط مثل المجتمع العربي بشكل عام.”
عندما يتحدث عن الأمة العربية لا يستطيع القاسم أن يتوقف أو يهدأ. من ساجور قفزنا رأسًا إلى السودان، فعنده المكانان واحد: “اليوم لدينا 60% من الأمّية في مصر والسودان. “أمة إقرأ لا تقرأ”- هذا شعار أنا أول من رفعه بالمناسبة وصار الكل يردّده. هناك من استوعب هذا الشيء وتحدوا هذا الماضي المعتم وهناك ظلوا يتخبطون في هذا الجوّ. وأنا اعتقدت منذ بداية حياتي، وبفضل أجدادي وآبائي الذين ربوني، أنّ هذا خطأ. هذا تشويه للتاريخ ونحن كشعب كنا عرضة لمؤامرات، مرة من الأتراك ومرة من الإنجليز ومرة من الصهاينة، ومرة من الفرنسيين. نحن تعرضنا لمؤامرة تاريخية، يجب أن نواجهها ونقاومها ونسعى لخلق إنسان عربي جديد يعتزّ بكلّ انتماءاته ولا يُؤثر طائفته على طوائف أخرى لمجرد أنها طائفته.. أنا أفضل بوذيًا جيدًا على 500 درزيّ سيّئ. لذلك أقول إنه لا يوجد تناقض (لدى الطائفة العربية الدرزية). العدوّ الخارجي دائمًا يجرّب خلق التناقض. السؤال يظل حول مناعتنا نحن كشعب وكأفراد ودورنا كمثقفين.”
– لديّ فرضية بأنّ أحد الأمور التي أبعدت أبناء الطائفة العربية الدرزية عن المجتمع العربي، وبقسط كبير، بذنب من المجتمع العربي نفسه. لأننا نحن هجرنا ولم نحتضن أبناء الطائفة. كان هناك تجنيد إجباري ومُلزم، وكان علينا رغم ذلك أن نحتضن العرب الدروز ونقول لهم لديكم حضن دافئ وانتماء، ولكننا قمنا برد فعل عكسي كبير وهجمة عاتية مما زاد من عملية الإبعاد والابتعاد.
س.ق. “هناك ما يُسمى عند الحشرات مجسّات خاصّة قد لا تراها، وأنا بمجسّاتي الخاصة أحزن عندما يبدأ حوار إعلاميّ بسؤال من هذا النوع. أشعر بالحزن، لأنّ الوضع عند الأمم الطبيعية يختلف: لا يبدأون من هنا بل يصلون إليها في النهاية. نحن عندنا نبدأ بهذا ولا لوم؛ فالواقع بما يحدث في العراق، عراق الجواهري وعراق الرصافي، من سنة وشيعة ومذابح ومسيحيين وآشوريين، واهدم كنيسة وأحرق كنيسة.. وما يحدث في سوريا اليوم، سنّيّ وعلويّ، هذا لم يكن واردا في البال بالمرة. لذلك فإنّ هذه الحساسية للأسئلة هي نتاج واقع. لا أنتَ اخترعتَه ولا أنا اخترعته. وأنا عندي قناعة بأنّ الانتماءات غير المنظمة، غير المرتبة وغير المدركة عقليًا سلفًا تخلق المشاكل. يعني: يمكنك أن تطلب من شاب ما أن يعرّف نفسه فيقول لك: أنا درزيّ. وآخر يقول لك: أنا سني أولا، أنا مسيحي أولا، أنا كاثوليكي أولا، هذا النظام غير عقلاني وغير منضبط للانتماءات. الإنسان ينتمي إلى أكثر من حلقة، وأكثر من دائرة. والمفروض أن يكون شيء من الانسجام بين كل الانتماءات. من دون عنجهية وشوفينيات وعصبيات. يعجبني كثيرًا حديث الرسول: “ليس منا من دعا إلى عصبية”. أنظر كم جميل هذا الحديث وكم بسيط ومباشر. فالانتماء حلقات، سلسلة، وبسبب ظروفنا وتربيتي، فإنّ الحلقة الأولى عندي هي العروبة. وبسبب تعرّض الأمة العربية لاضطهاد مستمرّ منذ أواخر القرن الرابع عشر، فقدت الأمة العربية هيمنتها على قدرها وعلى مكانها بين الشّعوب. هذه الأمة أضاءت العالم 800 سنة، لم يكن في العالم حينها سوى الثقافة العربية والإسلامية- العربية أولا.”
– وفي هذه الـ 800 سنة كان للأقليات دور مركزيّ.
س.ق. “طبعًا! لم تكن هذه الحساسيات قائمة. كان طبيب الخليفة يهوديًا ووزير ماليته مسيحيًا، كاتبه الأول بوذيّ.. ولكنّ هذا انتهى منذ نهايات القرن الرابع عشر، وسأسمّيها منذ مأساة ابن رشد؛ فمأساتنا بدأت بالتنكّر لابن رشد، ووقوعنا في أسر نظريات تبدو دينية لكنها قومية. فتجد من يدافع عن الإمبراطورية العثمانية التي حكمتنا بأنها خلافة إسلامية. لا. أدرسها في العمق وستجد أنها إمبراطورية تركية استغلت الدّين حتى تفرض هيمنتها على الأمة العربية. الأتراك أقلّ حضارة وتاريخًا من العرب، فكيف سيطروا علينا؟ باسم الدين. وهذا ما أخشى أنه يتكرّر الآن. الفُرس لديهم مشروع قوميّ فارسيّ ويعتبرون العراق والخليج كله جزءًا من فارس. يوجد مشروع فارسيّ (قوميّ)، وأنا قد أكون الوحيد من بلادنا الذي ذهب إلى إيران بدعوة رسمية وبجواز سفر إسرائيليّ. أكيد الوحيد، لم يذهب أحد غيري. لا قبلي ولا بعدي.”
– تقصد بعد الثورة الخمينيّة.
س.ق. “بعد الثورة. كان خاتمي وزير الثقافة وقتها ودعاني وذهبتُ. وكان أمرًا مدهشًا حقًا وجودي في إيران، وردود فعل الطلاب والجامعات، كان عرسًا. لكنني أحسست بلقاءاتي مع المثقفين الكبار أنّ المشروع هنا ليس دينيًا. إيران لا تريد أن تُشيّع العرب (تجعلهم شيعة). إيران لا تستطيع تشييع 340 مليونَ سنيّ، هذا جنون. فالمشروع هو تجديد الإمبراطورية الفارسية، مشروع قوميّ. وأنا أقولها دائمًا: بعد أن استعبدنا الأتراك قرابة 500 سنة باسم الخلافة، قد يأتي الفُرس لاستعبادنا 500 سنة أخرى باسم الخلافة… ولكنني قلتها مرة: أتريدون خلافة؟.. أنا موافق ولكن أنا سأكون الخليفة. حدث هذا في لقاء صحفيّ مع “الشرق الأوسط” على ما أذكر، فسألوني: وإذا لم تكن أنت الخليفة، فقلتُ: جورج حبش… كان الحكيم لا يزال على قيد الحياة.
“نحن نريد استرداد كياننا القوميّ. ما حدث معنا حرام، غير منطقيّ بالمرة. صرنا مَلطّة لكلِّ شعوب الأرض. لماذا؟ هذه السقوط في تاريخنا غير مبرّر.”
– هناك من قال مرة إذا أردت أن تتعرف على حضارة شعب ما فانظر كيف يعامل الأقليات.
س.ق. “في التاريخ، جميع الإمبراطوريات زالت إلا إمبراطورية واحدة هي الإمبراطورية العربية. سأشرح لك. الإمبراطورية الفارسية عادت إلى إيران. الإغريق اجتاحوا العالم وعادوا إلى جزرهم، حتى إسكندر المقدوني، أنظر إلى ماسيدونيا، دويلة صغيرة.. الإمبراطورية الرومانية عادت إلى الجزمة الإيطالية. الإمبراطورية البريطانية عادت للتنافس على صيد السمك مع الإيرلنديين. كل الإمبراطوريات زالت إلا العربية، وأنا مُصر على تسميتها بالإمبراطورية. فنحن خرجنا من شبه جزيرة العرب قبائلَ، لا أعرف إذا كنا جميعنا نرتدي “الصّنادل” أم لا. صحيح أننا خرجنا حفاة عراة كما يدّعي الفرس، لكننا خرجنا مع كتاب على الرمح. كتاب عظيم اسمه القرآن. لم نخرج بالسّيوف والسّهام. خرجنا بدين جديد. بفلسفة وفكر جديدين خلقا عالمًا جديدًا. دعك ممّا يقوله من يُسمَّوْن علماء وفقهاء وغيرهم، هؤلاء يسيئون للإسلام إساءة فادحة يومية. لا أتكلم عن هؤلاء. أنا أتحدث عن جوهر الرسالة المحمدية؛ هذه رسالة عظيمة.
“كل الإمبراطوريات تراجعت إلا العرب: خرجنا من شبه الجزيرة بدشداشة ومِثلّة (قطعة قماش يربط الإعرابي رأسه بها)، وانظر: العراق، بلاد الشام، مصر، المغرب، الصومال، السودان، حتى بلدان لا تتكلم العربية اليوم لكنها داخلة في الجامعة العربية. هذه ظاهرة وحيدة من نوعها في التاريخ. لماذا صمدنا؟ لماذا عرّبنا العراق وبلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا، مع أننا كنا قبائل قليلة عددًا؟ بماذا؟ بالحسّ الإنساني المناقض للتعصّب والشوفينية والعنصرية.
“والآن سأشرح لماذا: جئنا إلى بلاد ما بين النهرين وتزاوجنا معهم وعشنا معهم، علمناهم لغتنا وعلمونا لغتهم. وكذا إلى بلاد الشام، حتى السّودان. السّودان بلد أفارقة، لم نترفّع عليهم ولم نتكبّر. لم تكن عنصرية في ثقافتنا العربية والإسلامية. خذ هذه الآية من القرآن: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة”[2]. إذًا التعددية مشيئة إلهية بالمفهوم الديني. “وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم”[3]. لم يقل: أكرمكم عند الله العربي أو الإنجليزي أو الشيعي أو الدرزي. أتقاكم هو الأكرم. والأحاديث النبوية كذلك. حتى في مجال الإبداع والتفكير والاجتهاد: هؤلاء البهائم –عدم المؤاخذة- الذين يقولون إنّ باب الاجتهاد أُغلق، كيف تغلقون بابًا فتحه الرسول؟ بأيّ صلاحية؟ بأيّ حق؟ هذا اعتداء على الرّسول. أنظر ما أعظم حديث الرسول في مسألة الاجتهاد: “من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر.” له أجر حتى لو أخطأ لأنه فكر وشغّل دماغه.”
القاسم ومحمود درويش. صداقة استثنائية
س.ق. “بالضبط! النبي محمد ليس صاحبَ رسالة دينية فقط. لقد بنى رسالته الدينية على رسالة قومية. هو مؤسّس القومية العربية. عُد إلى التاريخ: هو الذي جمع القبائل العربية وبلور لغة قريش. أنا لا أريد أن أغضب أحدًا، فلا جدل في الإيمان والعقيدة ومن يؤمن بتنزيل القرآن. ولكنني شخصيًا لا يرضيني تجريد محمد من دوره. محمد ليس بوسطجي! محمد قائد عبقري ومفكر ومثقف وأنه أمّيّ لا تعني أنه لا يقرأ ولا يكتب، بل كان يعرف عدة لغات. وإلا فكيف سيقود تجارة من أكبر التجارات في العالم؟ فالنسبة في العربية للمفرد، ولذلك فإنّ كلمة “أمي” تعود إلى الأمم وليس عدم القراءة والكتابة. أصلا، عند نزول القرآن لم يكن تعبير الأمية يعني عدم القراءة والكتابة. هذا تعبير حديث.”
– الصادق النيهوم كتب عن هذا الأمر مقالة مفصلة حول أصول الكلمة وما عنته وقتها، كما تقول.. وفي كتاب السيرة الذي كتبته أيضًا إعجاب شديد بشخصية محمد. أنت لا تفصل في هذه النظرة بين السماويّ والترابيّ، أي الحاجة لإدارة حياة مادية على الأرض. والشقّ الثاني من السؤال أنتَ وشخصيتك: الترابية والروحانية. أنت شاعر، كان يمكنك أن تنعزل في صومعة ولا تترشح لعضوية المجلس البلدي مثلا كما فعلت في الرامة، وألا تنخرط في شؤون الحياة. يعني أن تقول: أنا شاعر، أشرب النبيذ وأكتب القصيدة. هل هناك علاقة بين الأمرين؟
س.ق. “قطعًا توجد علاقة. في تكوينه الثقافي والسّيكولوجيّ، يتوصل الإنسان إلى رؤية وموقف. وحكاية الفصل بين الثقافة والحياة أنا أعتبرها هوسًا ومضيعة وقت. هذا هراء بصراحة. لا يوجد إبداع خارج الحياة. من الممكن أن يروي أحدٌ ما كوابيسه على كرسيّ الطبيب النفسانيّ ويمكن أن تكون جميلة، لكن هذا ليس فنا- هذه كوابيس. لا تحمل دورًا فيها للفنان. يعني أنه ليس هو الذي أبدعها.”
– أي أنك ضد رومانسية “الفن من أجل الفن”؟
س.ق. “هذا كلام فارغ- لا يوجد فن من أجل الفن. وأصلا أنا ضدّ مقولة “الفن من أجل الحياة”. أنا أرفض هاتين المقولتين. الفن هو نتاج فرديّ، نتاج مبدع في الشعر والموسيقى والأدب والرسم والرقص- كل شيء محوره الفرد، هو الأساس والمركز، لكن هذا الفرد يتفاوت من إنسان لآخر. هناك فرد انعزاليّ يفضّل الجلوس في نادٍ ليليّ ويشرب كأسًا من النبيذ ويكتب قصيدة غيبية ويشعر بالسّعادة. هو حرّ، لا شيء لي ضدّه ولم أقلْ في أيّ مرة إنّ هذا مسموح وهذا ممنوع. كل إنسان يكتب ما يشاء. لكن في النهاية أراحني بيكاسو وسلفادور دالي. لقد أراحاني جدًا. فمرة سألت نفسي: إذا قالوا لي أمامك لوحتان: لوحة “غيرنكا” لبيكاسو ولوحة “السّاعة” من رسم دالي، وعليك أن تختار واحدة فقط. الاثنتان تحويان عملا إبداعيًا عاليًا جدًا. بيكاسو ودالي فنانان عظيمان. والاثنان قدّما عملا فنيا استثنائيًا، ولكنني أختار في النهاية غيرنكا. لماذا؟ لأنّ فيها المتعة الفنية وفيها العمق الإنسانيّ: صرخة ضدّ الحرب. تجد لدى دالي متعة فنية وله لوحات جميلة جدًا وأحبّ أعماله كثيرًا، لكنّ بيكاسو هو خياري.”
الحداثة والاستحداث
– سأعود إلى الفرد وسأسأل في سياقه عن حبك وهيامك بآل حسين، عائلتك، كما كتبت في سيرتك. كيف ينشأ فرد مستقل مفكر ومغاير في ضمن هذا الجوّ العاطفي الذي يحوي حبًا عائليًا كبيرًا ربما لدرجة الاختناق؟ كيف خرجتَ من المجموع؟
س.ق. “هذا الإطار يبلور الطفل. أنتم مثلا، عائلة حليحل عائلة كبيرة لكن كلّ فرد منهم له شخصيّته الخاصّة. لستم لَبنات أو مصنوعين بماكينة. خذ مثلا الشّنفرى، صديقي الذي أحترمه وأحبه جدًا جدًا، صار معاديًا لقبيلته لأنهم اضطهدوه. فالبيئة كانت معادية. أنا على عكسه؛ البيئة والعائلة احتضنتاني، لكنهما لم تفرضا عليّ شروطًا. مثلا، في الرامة مجلس محلي وتوجد انتخابات ودار حسين، عائلتي التي تتحدّث عنها، موجودون كممثلين في المجلس المحلي منذ تأسيسه. ولكن عند تأسيس قائمة الحزب الشيوعي وغير الحزبيين، وأنا كنت من أولئك غير الحزبيين، دخلتُ في هذه القائمة ضد القائمة العائلية لبيت حسين. لم أنجح في المرة الأولى لكنني نجحت في المرة الثانية. أي أنني لم أسلم أمري لهم. في البداية غضبوا مني، ولكن لاحقًا احترموا الموقف لدرجة أنهم قبلوا بحلّ القائمة العائلية والاندماج في قائمة الجبهة. يجب على الإنسان أن يعتزّ بانتمائه القوميّ والقبليّ والعائليّ والأسريّ، أن يحبّ حارته التي يسكن فيها ويدافع عنها ويحميها، ليس من منطلق التناقض، بل التكامل. خذ مثلا هؤلاء المشايخ في العائلة (يشير إلى حائط الغرفة في بيته المليء بصورهم)، تاريخهم محترم وأعتزّ بهم، منهم الإمام والمختار وغير ذلك، ولكنني لا أريد أن أكون إمامًا أو مختارًا. ولو أنّ لأحدهم تاريخًا سيئًا لما علقت صورته هنا، كنت رميتها، حتى لو كان جدي أو أبا جدي. وجدّ جدّي كان من فرسان صلاح الدين الأيوبي وقاتل في حطين وغيرها- لذلك أنا أحبّه. أعتزّ بدوره. لو كان مؤسّس العائلة مرابيًا لرفضته ورفضت الانتماء إليه قطعًا.”
– في مقابل هذا يقولون إنّ أيّ مبدع في زمننا المعاصر عليه أن يقتل أباه بشكل رمزيّ، أن يكون متفرّدًا وخاصًا. هل مررتَ بهذا الشيء؟ هل كان هذا القتل شرطًا من شروط إبداعك؟
س.ق. “اِسمح لي، ولكنها نظرية خاطئة جدًا. خاطئة جدًا جدًا. ليس المطلوب أن تقتل أباك، وإنما المطلوب أن تتجاوز أباك. هو قدّم ما عنده وما استطاع إبداعه. في الشعر من آباؤنا؟ امرئ القيس، عروة بن الورد، الشنفرى، تأبط شرًا، المتنبي، المعري، ابن الرّومي، البحتري.. هؤلاء آباؤنا. أنا أفهم ما يعنونه بهذه المقولة، أن تقتل أباك يعني تدمير ما سبق، بحسب نظرية أخي وصديقي أدونيس. هذه نظرية تحوي قليلا من الوَلدنة والصّبيانية. فيها نَكْرَجة. يقولون لك: دمّر ما سبق وابدأ شيئًا جديدًا. ليس هناك شيء جديد (سينمو) على شيء مدمّر بالكامل. الجديد ينشأ على القديم. جديد بالنسبة لماذا؟ عندما تقول إنّ هذا أدب حديث فبالنسبة لماذا؟..”
– أنا سأقول لك أمرًا في هذا السّياق: أنت شاعر المقاومة بأل التعريف. لا توجد نماذج شعر مقاومة كلاسيكية في تاريخنا، أنت ومن معك اجترحتم شيئًا جديدًا. أي أنّ المتبني والمعري لم يكونا عونًا لك في شعر المقاومة.
س.ق. “هذا بالضبط ما حاولت أن أقوله. الاستمرارية، التحديث والتجديد قياسًا لما سبق. إذا لم أضُفْ إلى المعري والمتنبي وشوقي ولم آتِ بشيء جديد- فما هو مبرّر وجودي؟ في هذا أنا دائمًا أناقش قضية الحداثة والاستحداث. أنا أزعم أنّ هناك خلطًا في الثقافة العربية بين مفهوم الحداثة وبين مفهوم الاستحداث. الحداثة أن تتجاوز من سبقك، أن تأتي بما لم يستطعه الأوائل: “وإني وإن كنت الأخير زمانه/ لآتِ بما لم يستطعه الأوائل”[4]. من غير المفروض أن تأتي بما استطاعه الأوائل. دورك أن تأتي بما لم يقله الأوائل. أنت من عصر آخر، الحداثة هي أن تضيف للتراث، لا أن ترفض وتنسف وتهدم التراث. أضفْ إلى هذا التراث العظيم الجميل. أنا أحكي دائمًا أنّ امرئ القيس يملك صورًا شعرية قد تنجح الكاميرا بعد خمسين سنة من الآن أن تصلها. وعند المتنبي أيضًا: “مِكرّ مفرّ مُقبل مُدبر معًا”. هذه الصورة التي قالها الرجل من ألفي عام تقريبًا، تخيّلها؛ السينما وحدها قادرة على ضبط مثل هذه الصورة. هو مكر ومفر ومقبل ومدبر معًا في نفس الوقت وفي نفس اللحظة. الحداثة أن تضيف وتستفيد ممّا حولك ومن التراث وإبداع الشعوب الأخرى، لكن عليك أن تضيف. إذا نسختَ فلا فضل لك. الاستحداث يعني شراء أمير من السّعودية لطائرة هليكوبتر للسفر فيها. لقد استحدث وسيلة سفر. لكنه لو اخترع فيها برغيًا واحدًا فقط فستصبح عندها حداثة. عندها نكون حدّثنا، أضفنا. ولكن الاستحداث يعني أن تستهلك الإبداع والحداثة من دون أن تضيف إليه، مع أنه ضروريّ وأنا لست ضدّه.”
– وهذا قد يفسر حبك لمباني وبحور الشعر الكلاسيكية حتى اليوم، فيما تركها تقريبًا جميع شعراء اليوم.
س.ق. “طبعًا، طبعًا. وهم تركوا الشعر الكلاسيكي ليس لأنهم يريدون تركه بل لأنهم لم يستوعبوه. أقولها بصراحة. لم يكتشفوا عبقرية الأوزان العربية. العرب فقط من يملكون هذه الثروة من الإيقاعات. هذه ثروة موسيقية هائلة. صاروا يقولون إنها قيود. كيف تقولون قيودًا؟ هي قيد لمن لا يعرفها. ولكنها أجنحة حرية إذا أنت استوعبت الأوزان وصارت جزءًا من تكوينك الداخليّ، من إيقاعك الداخليّ، من نفسك، فهذه أجنحة حرية ستأخذك إلى أماكن لا تتخيّلها. ولكن حتى في الأوزان الكلاسيكية خطر ببالي مرة أن أضيف شيئًا فأضفتُ. ففي الكلاسيكيات ثمة صدر وعجز في البيت الشعريّ. وأعتقد أنني ربما في رثاء حافظ الأسد طلع معي صَدران للبيت فأبقيتهما، ثم جاء عجزان فأبقيتهما. وتكرّرت معي أكثر من مرة. هذه أصبحت إضافة شخصية للكلاسيك. الأوزان الكلاسيكية بحدّ ذاتها تحوي ثروة، وخسارة خسارة وجود نوع من التغريب في تعليم اللغة العربية. ثمة غزو فكريّ وثقافي عند العرب، حتى أنهم لا يتعلمون العروض في المدارس. كيف سيستوعب الطالب المتنبي إذًا عندما يكبر؟ والمعري؟”
– دعني أعود بك إلى السّيرة. عندما قرأتُ الكتاب كنت طيلة الوقت أفكّر كم كنتَ أحيانًا براغماتيًا وكم كنت متصلبًا بلا هوادة مرات أخرى. مثلا تجربتك مع السّجن الإسرائيلي وقضية الخدمة العسكرية الإلزامية. هناك أبديتَ براغماتية كبيرة جدًا. وبعدها تركت أماكن عمل لم تُبدِ حينها أيّ براغماتية. كيف تستوي هذه التناقضات في مسيرة حياتك وكأنك مكر مفر مقبل مدبر معًا؟
س.ق. “لكلّ حادثة منطق. أنا تبيّن لي منذ البداية في قضية التجنيد الإجباري أنها قضية سياسية. وعندي مكاتبات بيني وبين الكلب بن غوريون. أحسستُ بأنها قضية سياسية وأنا شاب صغير عمري 18 سنة. فبن غوريون قال عام 1954 إننا سنجند كل العرب. وذهب آلاف الشبان العرب إلى مكاتب التجنيد. لكن الأشخاص الذين من حول بن غوريون خافوا أن يتحوّل العرب بأنفسهم إلى جيش. وعندها قرّروا عدم تجنيد كلّ العرب وضرب عصفوريْن بحجر واحد: تجنيد الطوائف الصغيرة، الدروز والشركس والكاثوليك والبدو. هذه قضية سياسية معروفة سلفًا والهدف منها تمزيق شعبي. وفي ظلّ هذه السّياسة الخطيرة جدًا أحسستُ بمسؤولية كبيرة جدًا أمام هؤلاء الشبان الدّروز الذين كانت غالبيتهم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة. وتمسّك فيّ هؤلاء الشبان في المعتقل العسكري وكأنني جئت إليهم للخلاص. أحسست بمسؤولية. عندها بدأت قيادة المعتقل بالترويج ضدّي: هذا من عائلة معروفة وراقية ومتعلمة، عائلة أرستقراطيين يحتقرونكم، لا يريد أن يكون مثلكم أو معكم. ثم يأتي الشباب من يركا ودالية الكرمل وعسفيا وبيت جن، ولا يخاطبونني إلا بكلمة أستاذ، ويسألونني: أستاذ صحيح أنك من عائلة متعلمة وتتكبّر علينا؟ ماذا كان ردّي؟.. “فشروا كلاب”! أنا واحد منكم. غدًا يوجد تدريب وأنا قادم إليكم إلى التدريب.
“إذًا، نعم، سأكون براغماتيًا. هذه قضية سياسية ولم أبحث عن البطولة فيها أبدًا. البطولة لم تشغل ذهني في حياتي أبدًا لا في الحياة ولا الشعر ولا السياسة.”
– ولكنك تعي أنّ هذا الموقف فتح عليك بابًا من التساؤلات بشأن الخدمة العسكرية، والمزايدات أيضًا.
س.ق. “طبعًا، طبًعا. لا يهمّني. هذه أشياء صغيرة لا وزن لها.”
– في مجالس معينة وفي أوساط معينة يأتي ذكر سميح القاسم والخدمة العسكرية في سياق غير إيجابيّ بالمرة.
س.ق. “أوكي. لكنّ الردّ واضح. من هذه التجربة نشأت منظمة الشبان الدروز الأحرار. ونشأت لجنة المبادرة وصاروا اليوم يحاكمون شيوخًا (دروزًا) يسافرون إلى سوريا. هذا كله وكلّ التيار الوطني الذي نشأ لاحقًا، لم يكن ليكون، لولا الأسس التي وضعناها. فالمردود في النهاية يبرّر كلّ البراغماتية. والذين كانوا متضايقين أكثر هم القيادات الرّجعية الذين كانوا يطالبون بإخراجي من المعتقل العسكريّ. كانوا يأتون إلى فرقة الأقليات ويقولون إنه “يخرّب الأولاد”، أطردوه!.. كنت تقريبًا سنة كاملة في المعتقل.” (في كتاب السّيرة تفاصيل ومعلومات وقصص حول هذه التجربة وما سبقها وما جاء بعدها، لمن يرغب بالاستزادة.)
القاسم يغضب عندما يتحدث عن محاولات إخراج الشعر العربي المعاصر من سياقه التاريخي والتراثي واللغوي: “لوي أراغون، أهم شعراء فرنسا، كان يُجنّ ويقول لي لا أريد من أحد أن يشبهني. أريد أن تشبهوا أنفسكم. كبار الشعراء الأوروبيين كانوا يتضايقون من الشاعر العربي الذي يأتي كي يشبههم. كان هؤلاء يترجمون شعرهم للعربية على أنه حداثة وإبداع. وكي لا يُساء فهمي فأنا مع الترجمة وأنا أعرف الشعر الفرنسي والأمريكي والبريطاني والصيني والياباني أكثر من جميع من يدّعون الحداثة. أنا درست هذا الشعر. لكنني لا أريد أن أكون ت.س. إليوت الثاني. لماذا؟ القصيدة العربية سيدة القصائد كلها عبر التاريخ كله. كيف أتنكر لأصلي وتراثي وتاريخي.”
– هذا يفسر لي شيئًا ما. أنت أول شعراء المقاومة، وحتى الآن، وبعد تعاقب الأجيال، بقيت شاعر المقاومة الأخير. هناك من يقول إنّ شعر المقاومة انتهت موضته…
س.ق. “أولا شعر المقاومة ليس موضة كي تنتهي. من يعتبره موضة فهو لا يستوعب ما معنى وجوهر هذا الأدب والشعر. من لا يعرف يقول موضة. هذه قضية تنفس، عملية حياة، نبض… بعد أوسلو بدأوا يناقشونني قائلين: ها هو السلام الآن حلّ. كنت أجيب: لا تكونوا سطحيين. هل زال الاحتلال؟ هل القدس هي عاصمتنا؟ هل تحرّر لواء إسكندرون؟ هل مشكلتي تنحصر في فلسطين فقط؟ لواء إسكندرون هو أرضي الشخصية. والأحواز؟ 8 ملايين عربي تحت الحكم الفارسي- أليست هذه أرضي ووطني؟ هل تحرروا؟ سبتة ومليلية في شمال المغرب. في آخر زيارة للمغرب أخذوني هناك. انهرتُ. إنفجرت بالبكاء. قلت لهم لا أريد أن أذهب. كان الوضع هناك مثل حواجز غزة وحاجز قلنديا. وإقليم أوغادين، أرض عربية احتلتها أثيوبيا، هل تحرّر؟ هل انتهت “سايكس بيكو”؟ هل لدينا دولة عربية محترمة علمانية متنورة حضارية تعددية؟”
– أنت الآن تتحدث كأممي وليس كعروبيّ؟
س.ق. “أنا أرفض افتعال التناقض بين العروبة والأممية. أصلا العروبة في جوهرها أممية. سأحكي لك لماذا العربي بتكوينه الأصلي هو إنسان أممي. هذه وجهة نظري. أنظر: صحراء شاسعة وعلى كل كثيب عدد من بيوت الشعر. مساحات شاسعة. أنظر إلى الشعر العربي، هناك الكثير منه يخاطب أم عامر، وقضاعة والسّيد، والذئب، ويخاطب الحيوانات والأفاعي. لماذا يخاطب الشعر العربي الأفاعي والحيوانات؟ عندما يقول الشنفرى: “لا تدفنوا جثتي عند موتي دعوا أم عامر تأكلني”[5]، فإنه يريد إطعام الضبع! توجد أمور تبدو بسيطة لكنها غاية في العمق والعظمة. هذا البدويّ الذي يعيش في بيت الشعر يستأنس بالسِّيد، بأمّ عامر، بأيّ كائن حيّ. وعندما يأتيه ضيف يهلّل ويفرح وينبسط. ليس مهمًا إذا كان الضيف أبيضَ أو أسودَ أو أسمرَ، ما يهم أنّ إنسانًا قدم إليه ليؤنسه. يُعطيه شكلا من أشكال الحياة الاجتماعية. إذًا العربي البدويّ في الصحراء، كان من بداياته وفي تكوينه الفطريّ يحبّ الضيف. والكرم العربي له تفسيره، فهو ليس قضية جينات وراثية؛ الكرم العربي يأتي من حاجة العربيّ لمن يؤنسه. من يفكر مثلا بأنّ العربي لم يسأل ضيفه عن هويته قبل مرور ثلاثة أيام؟ كي يكسب صحبته ورفقته لثلاثة أيام.”
– وهذا برأيك جعل العربي نهمًا للحياة الاجتماعية؟
س.ق. “طبعًا! ذهبوا إلى السّودان فتزاوجوا مع السّود الأفارقة؛ ذهبوا إلى الأمازيغ فتزاوجوا معهم. لم تكن هناك مشكلة. بريطانيا ذهبت إلى الهند سنينا طويلة وظلوا يرفضون مجالسة الهنديّ إلا لمصلحة الإمبراطورية. لم يحصل بينهم تزاوج، كما لم يحصل تزاوج بين الفرنسيين والسّوريين ولا بين الألمان والإيطاليين وشمال أفريقيا. الأوروبيون اقترفوا المذابح في الأماكن التي وصلوها ونحن صنعنا الأعراس، وتزاوجنا مع الشعوب والتقينا معها وعرّبناها بطبيعة البدويّ الذي يحتاج إلى الصّحبة الاجتماعية والكيان الاجتماعيّ الإنسانيّ. لذلك لم تكن عنصرية في ثقافتنا.”
محمود وأنا، أنا ومحمود
قد تكون فترة سنوات الستين وحتى نهاية سنوات السبعين من القرن الماضي من أكثر الفترات إثارة في تاريخ شعر المقاومة والأدب الفلسطيني، حيث اجتمع في حيفا أبرز رموزه: سميح القاسم، محمود درويش، إميل حبيبي، سالم جبران، حنا أبو حنا، عصام العباسي وكلهم كتبوا ونشطوا في دائرة “الاتحاد” و”الجديد”. وما تزال هذه الفترة تثير الرومانسيات لدى جيلنا اليوم، من استذكار للقصص والنهفات واللحظات المصيرية التي مرّ بها روّادنا في الشعر والنثر الفلسطيني في داخل إسرائيل. لذلك، من يقرأ سيرة القاسم يتفاجأ من علاقته المتسمة بالجفاء نوعًا ما مع هذه الفترة ومع حيفا، عروس الأدب الفلسطينيّ.
– لنتحدث عن فترة الستينات والسبعينات في حيفا. عندما قرأت السيرة توقعتُ أن تتغزل بحيفا أكثر. نحن جيل عشنا وكبرنا في حيفا ولم أشعر فيما كتبت بهذا الوَله بالمكان.
س.ق. “لأنه لم يكن وَلَهًا، صدّقني. عن أيّ وَله تتحدّث؟ حيفا لها دور كبير في حياتنا من دون شكّ، في تكويننا الشعريّ. لكن مثلا عندما تحلّ ليلة “عيد الاستقلال” الإسرائيليّ، كنا أنا ومحمود نذهب إلى مقهى كان اسمه “روما”، ونجلس ونطلب كأسًا ونشرب وهم يحملون الألعاب ويلعبون مع بعضهم البعض ويغنون فرحين بعيد الاستقلال. كيف يمكن أن ينشأ وَلهٌ بيننا وبين حالة من هذا النوع؟ كنا نذهب لاستئجار بيت، وعندما يعرفون أننا عرب فجأة يصبح السّعر ثلاثة أضعاف أو يقولون إنهم أجّروا البيت أمس الأول. نحن نحبّ حيفا والكرمل طبعًا، ولكنّ القضية ليست قضية وَلهٍ. العلاقة والموقف من المكان هما محصّلة الموقف من الإنسان.”
– سأسأل بشكل آخر: أنا عملت في “الاتحاد” مثلك. في أحد الأيام دخل إلى غرفتي المحرر المرحوم إدوار الياس وسألني: أنت تعرف على طاولة مَن تجلس؟ هذه طاولة سميح؛ دير بالك عليها. نحن جيلنا استهلكنا حيفا بقصصك وقصص محمود. بعشق المدينة التي فيها الصّحيفة والسياسة وإميل حبيبي وصليبا خميس. قد يكون هذا انطباعي الخاصّ، ولكنني مثلا لم أرَ محمود في السّيرة، أو صليبا. أحسستُ بأنك كنت وحيدًا في حيفا. فرق هائل بين كتابتك عن الرّامة وعن حيفا في السيرة.
س.ق. “صحيح. طبعًا. في حيفا قضية تناقض غير معقولة. حيفا التي كانت وكان رئيس البلدية عربيًا (حسن شكري)، اليوم- هذه ليست حيفا! ليست حيفا التي في مخيّلتي. لم أشعر بأنها مدينة عربية فلسطينية. كنت ملزمًا في حيفا بالتوقيع في الشرطة مرتيْن في اليوم كإثبات وجود؛ حيفا التي كانت الشرطة تقتحم بيتي فيها بأيّ لحظة وتفتش وتعتقل. لا يمكن أن تكون حيفا جانبًا رومانسيًا فقط. غير ممكن. يوجد الجانب التاريخي الرّومانسي، ولكن هناك الجانب الواقعيّ. وإذا قرأت “ملعقة سمّ”[6] ستفهم عمّا أتحدث. حيفا لم يكن فيها أمان، لا يمكنك أن تكون مطمئنًا فيها. أنت غير مستقرّ فيها. تعيش 24 ساعة في اليوم في مدينة ليست لك، هناك سيد يذكرك بأنك مؤقت وعابر. أنا ضدّ الرومانسية المفرطة بأيّ شيء لأنها تشوّه الحقيقة وتخبّئها.”
– فعلا، لا أذكر أنني قرأت نصًا عن مدينة فلسطينية لا يحوي الاحتضان الزائد.
س.ق. “نعم. ولليوم أقول إنه لا يجوز الفصل بين الذاتيّ والموضوعيّ، بين الحلم والواقع. ممنوع الفصل، ثمة تشابك وتداخل، تصادم وتضادّ، بين الحلم وبين الواقع. حتى عندما كنت أخرج مع صديقة إلى غابة أو حديقة ويسمعني شرطيّ أتحدث العربية، يوقفني: “لحظة، بطاقة الهوية”. لماذا؟.. لا يمكنك أن تسلخ رومانسية الرحلة في الغابة أو الحديقة عن تطفل هذا الشرطي عليك. وإذا فصلتَ فأنت تخون الحقيقة. الحقيقة كما هي، سواءً أكانت جميلة أم قبيحة، لا يهمّ، المهم أنه لا تجوز خيانتها.”
– رغم ثراء مسيرتك الشخصية، أنا أرى أنّ محاولة هروبك إلى لبنان وأنت شاب، أهمّ حادثة في حياتك. لأنّ سميح القاسم لو ذهب إلى لبنان وخرج إلى الفضاء الواسع في العالم، فإنه بتقديري الشخصي سيكتب شعرًا أسوأ. فهناك فرق بين أن تكتب شعر مقاومة من باريس أو موسكو وهنا. ما رأيك؟
س.ق. “وأنا رأيي كذلك. وهذا خلافي مع أخي رحمه الله محمود درويش. خلافي معه معروف، ليس سرًا. فنحن اختلفنا بشكل جديّ. وفي “الرسائل” كتب “أنا نادم على خروجي”. نظرية أنك إذا خرجت إلى الخارج فإنك ستتطوّر هي “حكي فاضي”. ومحمود في السّنوات الأخيرة رجع إلى جذوره، إلى العفوية، إلى الصّدق الفني. وكان يأتي إليّ هنا وعند أهله. محمود أعاد اكتشاف ذاته… وفي فترة من الفترات كان على وشك أن يضيع بسببهم. كنت أقول عليه: “على وين رايح؟” ما تكتبه ليس أنت. ليس شعرك. وفي فترة معينة كنت أصرخ عليه وأقول له: “والله أتبرأ منك! هذا ليس أنتَ!”.
ثم يختلط الشخصي الذاتي بجدال الحداثة: “الصورة التي كانت شائعة عن محمود أنه شرس وعنيف صورة ظالمة وغير حقيقية. كان طفلاً طيبًا وبريئًا ووديعًا جدًا. لكنه اكتشف أنّ هناك فرقًا بين الحداثة التي أرسيناها وبين الاستحداث.”
– هل شعرت بخيانة عند مغادرة محمود البلد؟
س.ق. “طبعًا. غضبتُ جدًا وصُدمت. وكتبت وردّ عليّ وتدخل أبو عمار… طبعًا. فنحن سائران في طريق مع بعضنا البعض، نجوع سوية، نعيش سوية، نقرأ سوية، نعمل سوية، نتظاهر سوية ونُسجن سوية، ولا يوجد مبرّر. لم يقنعني حتى اليوم. في المدّة الأخيرة زعلوا مني في لبنان حيث أجرى معي صحافيان لبنانيان مقابلة في القاهرة وقال أحدهما: لو أتيتَ إلى بيروت مثل محمود، ألم تكن قصيدتك ستتطوّر أكثر؟ أجبته: أنتم لديكم وهم بأنّ بيروت والقاهرة ودمشق وعمان هي الحداثة في أوجها. أنتم تحتاجون مئة سنة كي تصلوا حيفا (بسياق الحداثة- ع.ح.). في حيفا توجد حداثة أكثر من كلّ العواصم العربية. هل عليّ أن أذهب إلى بيروت كي أكتشف الحداثة؟ لديهم وهم كهذا.”
– أعتقد أن الفلسطيني المقاوم فقط من يستطيع أن يقول لمراسلين من بيروت جملا كهذه.
س.ق. “طبعًا. وأنا على حق. كلامي صحيح. وقلت حيفا ولم أقل تل أبيب كي لا يزاودي عليّ. كما أنني لا أعيش في تل أبيب، أنا أعيش في حيفا. وأنا أعني ما أقول. الحداثة الاجتماعية والفنية والثقافية في حيفا اليوم تسبق بيروت بمئتي سنة. يعتقدون أنّ من يقلد الفرنسيّ أو الإنجليزيّ أو الأمريكيّ أصبح مودِرن. لا أنتم لستم الحداثة، أنا الحداثة. أنتم الاستحداث. والدليل أنّ جمهور الشّعر العربي من المحيط للخليج استقبلني واستقبل محمود درويش وتوفيق زياد وقصائدنا ولم يستقبلكم أنتم. أحبّ قصيدتنا واحتضنها. كما أنّ قصيدتنا ليست قصيدة الشنفرى، قصيدتنا حديثة، ابنة اليوم، ابنة عصرها وزمانها… أنا بدأت أكتب وأدندن قصيدة “تقدّموا” في مظاهرة في القدس وقصّتها معروفة. قلتُ لهم: أقسم بالله أنني لا أستطيع أن أكتب قصيدة أخرى مثل “تقدّموا”. إنها تبدو سهلا ممتنعًا ولكنني أتحداكم وأتحداني أن أكتب مثلها. وشئنا أم لم نشأ أصبحت القصيدة نشيد الانتفاضة في كلّ العالم. فالسّهل الممتنع ليس أمرًا هيّنًا. السهل الممتنع أصعب الفنون. أن تقرأ القصيدة وتقول إنك فهمتها وتستطيع أن تكتب مثلها، ولكنك لا يمكن أن تكتب مثلها.”
– لعلاقات الحب والزمالة جانب من الغيرة والتنافس أيضًا. هناك من كتب وتحدّث عن كونك أنت ومحمود “صديقيْن لدوديْن”.
س.ق. “لا، هذا تزوير وتشويه. محمود في دنيا الحق وأنا أجيبك بكلّ صدق وصراحة: لم يكن بيننا في يوم من الأيام شيء اسمه غيرة أو حسد أو منافسة. على الإطلاق. كان يأتي في الليل ويسألني: ماذا كتبتَ؟ ما الجديد لديك؟ أقرأ له. أسأله عن جديده، يقرأ لي. ونتناقش. أنا مثلا عُرفت على مستوى الشعر قبله. ومجموعتي صدرت قبله. وكانوا عندما يدعوني طلاب جامعة القدس أو تصل دعوة من الناصرة أقول لهم أُدعوا محمود درويش أيضًا. كان بيننا تكامل. في آخر رسالة له نُشرت في عيد ميلادي السّتين على ما أعتقد، قال فيها إنّ صداقتنا أقوى من الحبّ. ويحكي فيها ويشير إلى أنه في مرحلة معينة كانت القصيدة تلتفت إلى أختها. تعبير ذكيّ وجميل وحقيقيّ.”
– وتحته نص دفين.
س.ق. “طبعًا، طبعًا. القصيدة تلتفت إلى أختها يعني أنها تتأثر بأختها. أنا اعتبرتها اعترافًا طيبًا وإنسانيًا منه، وعندما رأيته قبّلته وقلت له: مش بيناتنا. أنا أخوك الأكبر منك وتجربتي قبلك وليس عيبًا أن تتأثر بي، بالعكس؛ أنا أخرجتُ محمود من نزار قباني. في مجموعته الأولى “عصافير بلا أجنحة” كان مفتونًا بنزار قباني. كنت أقول له: يا محمود نزار فنان عظيم ولكنه ليس نحن. ليس لنا. شعرنا لا يمكن أن يكون مثل شعر نزار. نحن حياتنا شيء آخر، عالمنا شيء آخر. يجب على شعرنا أن يمثلنا نحن لا أن يمثل نزار أو المتنبي أو أحمد شوقي. نحن نكتب قصيدتنا. وعندما بدأ العالم العربي يقول “شعراء المقاومة” فوجئت وصرنا نضحك. قلت له: خذ خذ أنظر ماذا كتبوا… لم نفكر بالموضوع ولو لمرة واحدة بأننا شعراء مقاومة وشعراء وطن وخلافه. كانت معركتنا أن نعيش يومًا آخر، وأن نعطي للناس شيئًا من الأمل والفرح عندما نذهب لقراءة الشّعر في عرّابة مثلا. هذا كان همّنا الأكبر. لم تكن منافسة، ومحمود ليس صديقًا لدودًا بل صديق حميم.
“في عزّ خلافاتنا وقعت هذه الحادثة: كان هناك كاتب سوريّ اسمه سعيد حورانية، كاتب قصة مهمّ جدًا، يعيش في موسكو، يحرّر مجلة اسمها “الأوقات الجديدة”. عندما سافرتُ إلى موسكو عام 1971 أو 1972 أعدّ عشاءً كبيرًا على شرفي ودعا الكتاب العرب الذين كانوا موجودين في موسكو، منهم د. حسين مروة رحمه الله وغائب طعمة فرمان وتاج السرّ حسن وفنانون منهم يوسف وأمل حنا وشعراء وكتاب سوفييت. وكان معين بسيسو رحمه الله حاضرًا أيضًا. كنا نشرب حين قال أحد الشعراء لا أريد أن أذكر اسمه: أريد أن أشرب نخبًا خاصًا، نخب سميح القاسم المنزرع في الوطن وليس مثل صديقه الذي هرب. وقفت وقلت له: إسحب كلامك فورًا وإلا سأضربك بالكأس على رأسك! لا أسمح لك بذكر محمود درويش بكلمة. لديه ظروفه ولا تتدخل بيني وبينه. عندها بدأ سعيد حورانية بالبكاء. سألته: مالك، سكرتَ؟ قال: لا، في الشهر الماضي كنتُ في بغداد وجرّب شاعر عراقيّ أن يسيء لك وأجابه محمود درويش بنفس الجواب.
“الناقد سمير فريد كتب مرّة أنّ أمسية هذيْن الشاعريْن في القاهرة ليست أمسية شعرية، بل أمسية سيمفونية. كنا نذهب إلى أيّ بلد، نجلس ونختار القصائد التي سنقرأها، كي يكون عملا سيمفونيًا فعلاً. كل هذا الكلام عني وعن محمود ليس صحيحًا وهو ليس إلا من باب التمني (Wishful thinking) ونوع من النظرة الصغيرة وغير المحترمة لعلاقتنا وتاريخنا.”
– هذا من جهة، ومن جهة أخرى النظر إليكما كمسيطرين على الساحة الشعرية؟
“نحن كنا دائمًا نشجع الكتاب الشباب، ولكن السؤال “لماذا أنتما؟” هو سؤال لا علاقة لنا به. ما ذنبنا أنّ تجاوبًا حصل مع قصيدتنا؟ لم يحدث مرة أن اتصل بنا كاتب أو شاعر شابّ ولم نساعده. وأنا لا أنسى أمسية في لندن كان فيها نزار قباني وأدونيس وأنسي الحاج ومحمود درويش وأنا لذكرى يوسف الخال. جاء شاب لبنانيّ وطلب مني أن أقرأ قصيدة من قصائده وأن أعطيه رأيي. القاعة كانت مليئة بالناس والشعراء جالسون في الصفّ الأول كي يدعونا إلى المنصة. أمسكتُ الدفتر وقرأت قطعة من قصيدة نثرية. أدهشني. قرأت الثانية والثالثة، فقلت له: حضّر حالك سأدعوك لتصعد وتقرأ معنا. ذُهل، ولكنني أصرّيتُ. كان رياض الريّس عريف الأمسية. قلت له وللشعراء: يوجد شاب هنا قرأت له عدة قصائد وأنا أدهشني وإذا أدهشني فسيدهشكم. وأريد أن يكون ضيفنا لقراءة قصيدتين أو ثلاث لخمس دقائق. فقال نزار: “خيي هاي شهامتك رح تخرّبلنا الأمسية”. ولكننا أعطيناه الفرصة. وهكذا كان. وكان اسم هذا الشاعر الشاب يحيى جابر.
“حتى المهرجانات التي كنت أُدعى إليها في الخارج لم أكن أذهب من دون أن يدعوا معي شعراء من شعرائنا، مثل شكيب جهشان وطه محمد علي رحمهما الله وحنا أبو حنا وجمال قعوار وفاروق مواسي. موضوع المنافسة عندي لم يكن مطروحًا أبدًا، وأنا متأكد من أنه لم يكن مطروحًا أيضًا لدى محمود بالنسبة لي.”
القصيدة أولا
من يقرأ السّيرة يشعر بحبّك ومتعتك في السفر. شعرت بأنّ السفر هو وقودك.
س.ق. “صحيح… السفر هو ما ينجم عنه من تجربة وعلاقة إنسانيتين. باريس، لندن، نيويورك، القاهرة، دمشق- المكان يستمدّ قيمته من العلاقة الإنسانية. إذا نشأت علاقة إنسانية مميزة ولها خصوصية فستقع في حبّ المكان. أنا أشتاق لباريس مثلا ولا أشتاق لبرلين. أشتاق للندن وفيينا وبودابست ووارسو وأثينا وإسطنبول، المدن التي لي فيها تجربة إنسانية، سلبًا أو إيجابًا. هذه التجربة تمنح المكان معنًى آخر ومختلفًا.”
– هل تحبّ الفنادق والمقاهي؟
س.ق. “نعم، طبعًا. أنا كتبتُ الحكاية الأولى “إلى الجحيم أيها الليلك” كلها في مقهى في حيفا، “أوريون” أعتقد. كان الغارسون يعرفني، ولي طاولة في الزاوية مع كرسيّ واحد وآتي من الصّبح، أفطر وأشرب القهوة وأدخن وأكتب. الناس يدخلون ويخرجون وكأنهم غير موجودين.”
– هذا أمر نادر، خاصة عند الشعراء، ألا تعتقد ذلك؟
س.ق. “لا أعرف. ولكن الناس لم يكونوا موجودين بالنسبة لي البتة. ينشأ نوع من الانقطاع الكامل، والضجة المحيطة تصبح نوعًا من استفزاز القلم، استطرادات هنا واستطرادات هناك، وحادثة طرق، صوت توقف سيارة مسرعة، يدخل في العمل الذي تكتبه. السّفر مصدر ثانٍ للشاعر والكاتب بعد التثقيف الذاتي. لا بدّ من التثقيف الذاتيّ ومن يعتقد أنه صار يعرف كلّ شيء غلطان وموهوم، ومن يقول “أنا وصلت إلى القمة” هو غلطان وموهوم. لا أحد يصل القمة. ومن يقول إنه وصل القمة إعلم أنه سقط. القمة أشبه بربنا، الله، غير مدرك وغير محسوس، غير قابل للانكشاف المباشر. حتى الصوفيين كلهم لم يستطيعوا ذلك.”
– هناك مكان واحد في السيرة أحسست حقيقة أنك كنت مرعوبًا فيه. كتبتَ أنك بقيت طوال الليل ترتعد من الخوف، عندما استقلت من “الاتحاد”، وتساءلتَ: كيف سأطعم الأولاد؟
س.ق. “لا، الصحيح أنني لم أستقل. كانت تلك حادثة سيئة وتصرف سيئ من بعض القياديين في الحزب (الشيوعي الإسرائيلي)، ليس جميعهم طبعًا. كتبت أنه عندما عرض عليّ توفيق وجورج طوبي أن أشتغل في صحافة الحزب، قلت لهم إنني لست حزبيًا. قالا أنت ستكون أول لا حزبي يشتغل في صحافتنا وليس شرطًا أن تكون حزبيًا. وعندما وقعت الخلافات بعد مؤتمر غورباتشوف في موسكو، دعا قرابة 800 شخص من العالم، وبالصدفة وصلتني دعوة شخصية باسمي الشخصي موقعة من غورباتشوف. وكان محمود في المؤتمر أيضًا. دعا فنانين وكتابًا وسياسيين ورجال دين لمؤتمر من أسبوع للتشاور في مصير الاتحاد السوفييتي. وعندها تساءلوا في الحزب: لماذا هو؟ قلت لهم هذه دعوة شخصية لي كشاعر. ناقشوا غورباتشوف أنا لا علاقة لي بالموضوع. بعدما عدت رفضوا أن أكتب عن مشاركتي وأن أكتب عن قضية البروسترويكا. قلت لهم العالم يتغير، يوجد زلزال، يجب أن نعطي إجابات للناس والشارع وجمهورنا. قسم أيّدني وقسم عارضني. عندها تذكرت جملة فؤاد نصار الشهيرة: “لا تُحرجونا فتخرجونا”. سألتهم ماذا تريدون مني؟ قالوا: نريدك أن تمشي كما نريد نحن، فقلت لهم: لا، أنا أمشي كما أريد أنا. واستقلتُ.
“بعد الاستقالة أوقفوا عملي في “الجديد”. قلت لهم يا رفاق ما الذي تفعلونه؟ أنا لا أملك مصدر دخل غير عملي. لديّ أطفال في البيت. كيف تفعلون ذلك. قالوا: هكذا القرار. وفعلا، كنت أحيانًا أستيقظ في الليل عرقانًا، كيف سأطعم الأولاد؟ كانت لديّ سيارة فبعتها، واشتريت سيارة أخرى بنصف سعرها، كي أصرف على الأولاد. وبدأت العمل في الترجمات، فترجمت كتب جغرافيا وغيرها، وعملت في مجلات بسيطة، ثم توجّهوا لي للكتابة في “الاتحاد” أربع مرات في الشهر لقاء مبلغ بسيط، فقلت فليكن… صحيح، مررت بمرحلة صعبة لكن لم أتحول إلى عدوّ للحزب وأنت تعرف أنّ كل الذين خرجوا من الحزب هاجموه في النهاية. أنا لم أفعل ذلك، وللحزب فضل على شعبنا كله وعلى تاريخنا كله وبقيت صداقتي واحترامي له وأنا مؤسّس في “الجبهة” ولست عضوًا عاديًا.
“أنا أقول دائمًا إنّ المبادئ والأفكار ليست ربطات عنق وقمصانًا نبدّلها على راحتنا. إما أن يكون مبدأ وإما أن لا يكون. حتى لو أساء لي فلان وعلان من المكتب السياسي، فإنّ هذا لا يغير موقفي من تاريخ الحزب، بخيره وبشرّه، بسلبه وإيجابه، لا أتبرأ من هذا التاريخ ولا أخون ذاكرتي ولا أخون العشرة، بالتعبير البسيط.”
– سألتك هذا السؤال كشاعر وكمبدع، رُزقت بأولاد، ألم يغيّر هذا حياتك؟ ألم يغيّر من أولوياتك في الحياة؟
س.ق. “أنا قلتها وأكرّرها، رغم أنّ زوجتي وأولادي لم يعجبهم هذا الحديث من قبل. ولكن أهمّ شيء في الدنيا لديّ قصيدتي. أهم من صحتي ومن أسرتي ومن الوطن- قصيدتي عندي أهمّ من الوطن.”
– هذا تصريح خطير يا رفيق…
س.ق. “لا لا لا، ليس خطيرًا أبدًا. قصيدتي بالنسبة لي أهم شيء في الدنيا. إذا قلتُ غير هذا الكلام فسأكون دجالاً ومهرجًا على شاكلة “أنا أكتب من أجل الشعب ومن أجل الوطن!”- هذا كلام فارغ! أنا أكتب بالدرجة الأولى من أجلي، من أجل سيكولوجيتي، من أجل أن أحافظ على عقلي وعلى توازني. أكتب كي لا أُجنّ وكي لا أنتحر، ولكنني لا أحبّ جملا مثل “أفنى عمره في خدمة الشعب والوطن”.. أنا أفنيتُ عمري في خدمة القصيدة ويبدو أنّ هذه القصيدة هامة للشعب وللوطن. لكن: القصيدة أولا. ومن دون هذا، أشكّ في أن ينجح أديب أو شاعر أو فنان إذا لم يكن يملك ما أسميه أنا “شيئًا من الرهبنة”. الراهب أو الراهبة يسلمان نفسيهما لله؛ الشاعر يجب أن يسلم نفسه للقصيدة.”
– هل تعرف مدى عمق الاختلاف بين حديثك هذا كشاعر وبين الصورة التي تحفّ شاعر المقاومة بالشعارات والكلام الكبير. أن تقول إنّ قصيدتك أهم من وطنك فهذه مقولة بالغة الأهمية.
س.ق. “لا تؤاخذوني.. ولكن الشاعر الذي لا يتعامل مع قصيدته على أنها أهمّ شيء في الكون أشكّ في صدقه، بصراحة. من يقول لي إنّ الوطن أهم من قصيدتي أقول له بارك الله بك. لكنني لا أصدّق ذلك. وهذا قد يُساء فهمه، ولكنه قد يُفهم أيضًا. قد يُساء فهمه باعتباره نوعًا من الأنانية أو الغرور، ولكن أبدًا، أقولها بمنتهى التواضع والصدق والعفوية. ولديّ إضافة: لو لم أكن هكذا لم يكن الجمهور ليحتضن قصيدتي، ولن يحبّها. أعتقد أنّ سرّ العلاقة الاستثنائية يكمن في هذا الإحساس: القصيدة أولا، القصيدة أولا. الوطن هناك من يقاتل من أجله ويحرّره، والأسرة تعمل وتعيش، لكن القصيدة كائن خاص جدًا جدًا وإذا لم تتعامل معه بهذا التكرّس وهذه الرهبنة الكاملة والمطلقة فإنك تخونها وتخون نفسك في نفس الوقت.”
ملعقة سمّ
في كتابه السرديّ الثالث، “ملعقة سم صغيرة ثلاث مرات يوميًا” يسرد القاسم تجربته المعيشية والعاطفية والسياسية في حيفا. الكتاب مليء بالتفاصيل اليومية والقصص، لكنّ ما يثير فيه حقًا السؤال الذي لا ينفكّ يتبادر إلى الذهن: هل هذا صحيح كله؟ هل مررت بكلّ هذا؟ وبشكل عينيّ: هل حقًا فجرت حبيبتك اليهودية نفسها بدبابة إسرائيلية بعد سجنك؟
س.ق. “صحيح مئة بالمئة. الأمر الوحيد الذي غيّرته هو أنهم عرفوا قبل أن تضرب الدبابة بسيارتها وأوقفوها. هي كانت ترغب بتفجير الدبابة فأنا أكملت القصة وفقا لما كان في مخيّلتها وما ترغب به. صارت تحكي لصديقاتها في جامعة حيفا، فهدّدوها وحذّروها.”
– حبيبتك الروسية تنيوشكا: هل هي حلم الشيوعية والأممية؟ أنت تكتب عنها برومانسية كبيرة جدًا، كإنسانة وفكرة.
س.ق. “نعم. تتيانا كانت إنسانة جميلة جدًا وصافية ونقية وروسية أصيلة. ثقافتها عالية، وأسرتها فعلا كما وصفت: أبوها جنرال كبير وكان قائد الجيش السوفييتي داخل براغ. وأخوها رائد فضاء… وفعلا جرّب السوفييت إبعادي عنها باعتبار العلاقة خطرًا أمنيًا، وتحدّث معي أشخاص من قيادة الحزب من عندنا. قلت لهم: أترُك غدًا (يترك موسكو التي كان يعيش فيها وقتها- ع.ح.)! أنا لن أنتقل من عنصرية إلى عنصرية، ولست قادمًا من قيود إلى قيود. أنا قادم إلى الاتحاد السوفييتي وإذا كان أبوها جنرالا وابنته أحبتني، فلا أسمح لأحد بالتدخل. أنا لا أريد أباها ولا أمها ولا جيشها…”
– حب مع أزمة حزبية؟
س.ح. “فعلا. وصل الموضوع إلى المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي. وتدخل فؤاد نصار، رحمه الله، زعيم الحزب الشيوعي في الأردن. ولكنه تدخل لصالحي، قال لي: لا تستمع لأحد. وابقَ هنا في معهد الفلسفة والاقتصاد السياسي. ثم اعتذر السوفييت وقالوا إنّ هناك قانونًا بما يخصّ الجنرالات، وحتى لو كنتُ روسيًا أو سوفييتيًا فسنحذر منك. وبعدها تزوجت تتيانا في إيطاليا فعلا كما كتبتُ، وسكرتُ أنا ليلتها…”
– في هذا الكتاب تكتب: “قلت لكم ولأكرر لكم ولكل البشر أنّ العروبة ليست في نظري عرقًا بل هي مجموعة قيم إنسانية راقية..” إلى آخر الاقتباس. أليست هذه نظرة رومانسية للعروبة والقومية؟ هل هذا النص محاولة للتجسير بين القومية والأممية؟ في حالة وجود 22 دولة والصّراعات والثورات الجارية اليوم.. ماذا يظلّ من مفهوم العروبة؟
س.ق. “مفهوم العروبة واحد وثابت ولا يتغير. ما تغير هو ظروف العرب الذين أبتعد قسم كبير منهم عن مفاهيم العروبة برأيي. إذا كنت تتبع كتاباتي فإنّ أكبر ضربة تلقاها العرب كانت اتفاقية “سايكس بيكو”. منذ 1916 يفكر الاستعمار الغربي في كيفية نشوء الدولة العربية. لأنّ الدولة العربية هي على جوار أوروبا. أطول حدود لأوروبا معنا. ومن التجارب التاريخية ظلت أوروبا مشبعة بأفكار الحروب الصليبية حتى اليوم. أخشى أن يكون الهولوكوست القادم ضدّ العرب والمسلمين في أوروبا. هذا إحساسي. سايكس بيكو هي وضع غير طبيعي وهو إفراز استعماري ضد العرب بالأساس. مخاوف أوروبا ليست من المسلمين بل من العرب، لأنّهم أقرب إليهم ثقافيا؛ 800 سنة من التلاقح الثقافي وشعور الندية قائم مقابل العرب. و”سايكس بيكو” جزّأت العالم العربي إلى 22 دولة غير شرعية بنظري. هذه الكيانات باطلة شرعًا ولا تستحق الوجود وهي ضد إرادة الشعب العربي.”
– هل يمكنك أن توحد الدول العربية اليوم خارج منظومة الخلافة مثلا؟
س.ق. “توجد إمكانيتان: منظومة الخلافة، لكن مشكلة الخلافة أنها أصبحت متخلفة عن التطوّر التاريخي، فهي مرتبطة بالدين، والقول إنّ الدين هو الحلّ ثبت فشله- في أوروبا وعندنا. الحلّ هو العلم والثقافة والتقدّم التكنولوجي وقوانين الديمقراطية وحقوق الإنسان، هذا هو دين العالم الجديد. لكن يظل الدين عزيزًا علينا كتراث نتمسك به ونقرأه ونتأثر به ونستفيد منه، لكن لا يمكننا أن نبني مصنعًا بالأدعية: “اللهم زدْ من إنتاج هذا المصنع!” هذا غير ممكن. أنت بحاجة إلى خطط من علماء وخبراء. إذا كان لديك شارع وحركة سير، ضع عشرين داعية يردّدون “اللهم لا تُحدث اصطدامًا بين هاتين السيارتين… اللهم جنبنا أخطار الطرق”. لا يصحّ. يجب أن تضع إشارات ضوئية. هذا هو مفهوم العلمانية عندي، وليس كما يدّعون أنّ العلمانية كفر. يوجد علمانيون كفرة ويوجد متدينون كفرة أيضًا برأيي. مثل ذلك المفتي الذي أفتى بأنّ الرجل يستطيع مضاجعة زوجته ساعة وفاتها. هذا ليس عربيًا ولا مسلمًا ولا إنسانًا![7]
“سألوا آينشتاين مرة: هل أنت ملحد؟ قال لهم: أنا ملحد في المختبر ومؤمن خارجه. فالمختبر يقوم على الأسئلة والشكوك والعلم والبحث، ليس فيه إيمان مطلق. وقد صرحت مرة بالنسبة للخلافة إنني لا أمانع الخلافة شريطة أن أكون أنا الخليفة. لا أعطي الأمان لأيّ شخص آخر. الأتراك أخذوا الخلافة 400 سنة فدمّرونا، وإذا أخذها الفرس سيدمروننا أكثر. أنت بحاجة إلى منظومة عربية تقدمية أممية.”
القاسم يشدد مرة بعد أخرى على التلاحم بين العروبة وبين الأممية. ومع أنّ هذا الكلام يبعث على “الخربطة” إلا أنه يتمسك به: “أنا لا أصدق أيًا كان إذا قال إنه يحبّ قوميته ويكره القوميات الأخرى. هذا كذب وقوميته زائفة. لأنني أحبّ قوميتي فإنني أحبّ القوميات الأخرى. والشيء الصحيح والفطري لنا كعرب أنّ العروبة من سماتها الأساسية ولا تكتمل إلا بالأممية.”
– كيف كان تأثير جمال عبد الناصر عليك؟
س.ق. “عبد الناصر خلق من دون شك حالة في الأمة العربية لم تسبقها إلا حالة النبي محمد. بأيّ معنى؟.. النبي محمد جمع القبائل وأنشأ قومية في مسرى الدعوة الإسلامية. كنا قبله قبائل ومحمد هو الذي أسّس القومية العربية. “وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا”. أنا أعتقد أنّ المقصود بالشعوب هم الفرس والأتراك والإنجليز وغيرهم، والمقصود بالقبائل هم نحن العرب. كنا قبائل متخاصمة وكلنا يعرف “أيام العرب”. طُز على هكذا أيام. أشرف أيام العرب هو “يوم الأرض” الذي صنعناه هنا.
“الحالة المحمدية خلقت الشعور القوميّ عند العرب. يحضرني قول المتنبي: “ولكنّ الفتى العربي فيها/ غريب الوجه واليد واللسان”. فشعوره القومي العربي تبلور في ظلّ الدولة الإسلامية. بعد النبي محمد لم يتكرّر هذا الإجماع العربيّ إلا على جمال عبد الناصر، فقط. وللأسف الشديد، وهنا يتكلم الشاعر لأنّ التاريخ لا يعرف كلمة “لو”، ولكن لو كان عبد الناصر أعمق ثقافة وأوسع إدراكًا وأسس حزبًا قويًا وخلق حالة من الديمقراطية والتعدّدية لكان عبد الناصر قادرًا على تحقيق الوحدة العربية. لكنّ هذه الوحدة لا تتحقق بقرارات فوقية. يجب أن تتم الوحدة بإرادة شعبية وبرضا وتراضٍ شعبيين وبالتفاهم. وبحكم التطور التاريخي نشأت أقاليم لها خصوصيات، فلتستمر هذه الخصوصيات لا مشكلة، لكن لدي مشكلة مع الشرذمة غير المبررة وغير المبررة والخيانية. أنا أعتبر كلّ من يؤيد الإقليمية خائنًا. وهناك من يسألني: وماذا مع الدولة الفلسطينية؟ أقول لهم: مطلوبة كمرحلة فقط. قلتُ مرة لياسر عرفات رحمه الله: إذا قامت الدولة الفلسطينية فسأصدر في اليوم الثاني بيانًا مني يدعو للوحدة إما مع الأردن أو مصر أو سوريا أو موريتانيا. أنا ضدّ الدويلات وحظائر “سايكس بيكو”. الجامعة العربية هي جامعة حظائر سايكس بيكو.”
– عندما حدثت ثورة يوليو في مصر كنت شابا صغيرًا. وعند العدوان الثلاثي كنتَ ربما في مرحلة كتابة ديوانك الأول. هل كان ما يحدث في مصر جزءًا من تشكيل وعيك؟ هل كنت تستمتع لخطابات عبد الناصر؟
س.ق. “طبعًا، طبعًا كنت أسمعها. أكثر من ذلك: عندما بادرت عام 1958 لإقامة حركة ضد قانون التجنيد الإجباري أسميتها “الشبان الدروز الأحرار”، تيمّنا بالضباط الأحرار في مصر. طبعًا أحببناهم واعتززنا بهم، ولكن للأسف الشديد لم تستمرّ الثورة- سرقها اللصوص والحرامية والدجالون وحرفوها عن مسارها.”
– تكتب في “ملعقة سمّ” عن النقاش مع اليسار الإسرائيليّ. أنت تبحث بإصرار عن الإنسانية في الوجود الصهيوني هنا. هل وجدتها؟
س.ق. “أبدًا! أنا على قناعة بأنّ الإنسانية والوجود الصهيوني نقيضان. لكن هذا لا يسري على الوجود اليهودي. هؤلاء الفنانون، عوديد كوتلر وعوديد تيئومي وغيرهما من أصدقائنا، هم إنسانيون. كنت أشعر بهم كأصدقاء بأنهم متعاطفون مع قضيتنا وشعبنا. يجب التمييز بين الصهيونية وبين اليهود. في الحكايات الثلاث التي كتبتها “إلى الجحيم أيها الليلك” و”الصورة الأخيرة في الألبوم” و”ملعقة سم صغيرة ثلاث مرات يوميًا”، هذا التمييز والفصل هو موتيف أساسي؛ نحن لسنا عنصريين، نحن ضد العنصرية.”
– هذا ما شعرته، بأنّ لديك هاجسًا دائمًا بالعثور على الإنسانية في الصراع.
س.ق. “طبعًا، طبعًا.”
– وهل نظرت يومًا للخلف وقلت: نجحت في ذلك؟
س.ق. “نجحت في الحالات الفردية. غيّرت أشخاصًا، بلى. أتعرف؟ كانت هناك كاتبة من المهاجرين الجدد من الولايات المتحدة، وتعرفنا على بعضنا البعض وتصادقنا. بعد شهرين أو ثلاثة قالت لي إنها تريد توديعي. تريد العودة إلى أمريكا.. قالت لي: هذه بلادك وليست بلادي. وعادت إلى أمريكا. كما نجحنا في تغيير مفاهيم وضممنا أناسًا إلى الحزب (الشيوعي) والجبهة (الديمقراطية للسلام والمساواة) وكنا نذهب ونتحدث في نوادٍ ومدارس يهودية أنا ومحمود وتوفيق زياد وسالم جبران وجورج طوبي وزاهي كركبي وإميل توما وإميل حبيبي. ولو كسبت من مئة شخص شخصًا واحدًا فقط فإنّ جهدك لم يذهب سدًى. وحتى لو لم ننجح في تغيير المجتمع الإسرائيلي فإنّ هذا لا يجب أن يكون سببًا لإحساسنا بأننا دون كيشوت. نحن أصحاب رسالة وموقف والخلل في الطرف الآخر ليس فينا. توجد قوى ظلامية أقوى منا سيطرت علينا. هذا ليس ذنبنا. نحن كمن جاء لإقامة الدين في مالطة. وإذا لم ترغب مالطة فهي حرة (يضحك). هذا ليس ذنبنا. “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”[8]، ونحن عملنا ما علينا.”
– أنت عاشرت اليسار الإسرائيلي، وكانت لك علاقات حب وصداقة؛ ما عقدتهم؟ لماذا لا يستطيع اليسار أن يخطو الخطوة الأخيرة نحو اليسارية الحقيقية؟
س.ق. “اليسار الإسرائيلي في ورطة تشبه ورطة حماس إلى حدّ ما. التشبيه غريب ولكن إسرائيل دولة أقامتها الصهيونية واليسار الماركسي ضد الصهيونية، ولكنه أتى أو تبلور هنا. يوجد تناقض بين فكره وبين الدولة التي أصبح جزءًا منها وأحد عناصرها ومكوّناتها. وهذا التناقض يمزقهم. الأمر شبيه بحماس، حين شاركت في الانتخابات بعد أوسلو وهم ضد أوسلو. وكانوا يتمزقون وأعرف ذلك من بعض الأصدقاء القياديين في الحركة. هذه حالة غريبة سريالية واليسار الإسرائيلي الذي جاء من الاتحاد السوفييتي وأوروبا أصطدم هنا بواقع صهيوني ورأسمالي متناقض بالكامل مع مثالياته. فلكي تقيم كيبوتس شيوعيًا مثل كيبوتس “يد حانه” عليك أن تقيمه على أرض عربية. الصراع غير سهل على الإطلاق. و”عين هود” كمثال آخر، حالة سريالية أيضًا.”
– لدي انطباع شخصي بأنك أغرب شاعر مقاومة. بالإضافة إلى سيرتك والكشف الصريح عن حياتك، وقولك إن قصيدتك أهم حتى من الوطن، وتكتب في “ملعقة سم”: “نحن نكافح لنعيش لا نعيش لنكافح”.. لأول وهلة يبدو هذا وكأنه النقيض للصورة التي يجب أن يبدو فيها شاعر المقاومة. أن يحمس وأن يضع القضية فوق كل شيء..
س.ق. “أنت على صواب كامل. أنا ضد شيطنة العدوّ بالكامل وتأليه الشاعر بالكامل، وضدّ رومانسية الطرح. الشاعر إنسان والعدو إنسان. هناك عدو يمكن أن تبرم الصلح معه وهناك عدو لا بد من أن تقتله أو يقتلك. بالنسبة لمفهوم المقاومة، فأنا أعتزّ بأنّ الكثيرين من النقاد يقولون إنّ سميح القاسم هو مؤسس شعر المقاومة. فكلمة “سأقاوم” تظهر لأول مرة في شعرنا عندي. فأنا وضعي يختلف عن باقي العالم العربي، ليس لديّ جيش ولا دبابات لأقاتل؛ أنا أقاوم. أقاوم الهجوم عليّ. وقصيدة “سنقاوم” خرجت من خطاب عبد الناصر “سنقاتل”. كما أنّ اتهام شعر المقاومة بأنه ليس إلا شعرًا تحميسيًا وتحريضيًا هو تهمة باطلة. شعر المقاومة رسالته الأساسية من وجهة نظري إشعار المظلوم أو الخاضع للاحتلال بإنسانيته الكاملة وبعدم التنازل عن حقوقه وعن إنسانيته. وأنا أقول دائمًا إنّ الصهيونية تنتصر علينا في اللحظة التي نتخلى فيها عن إنسانيتنا، ومُصرّ عليها. مفهوم المقاومة أرقى بكثير من أن تحمل البندقية وتهجم.”
س.ق. “طبعًا، طبعًا. أنا من أجل ذلك لأنّ النمطية الرومانسية تخلّ بالواقع، فهي ليست واقعية ولا حقيقية. كل شيء غير حقيقي يجب أن يصدمك في النهاية. على الإنسان أن يكون على سجيته وطبيعته، كُن صادقًا بالصواب وبالخطأ. وأكررها: مفهوم المقاومة عندي هو احتفاظ الإنسان الفلسطيني بكرامته ووعيه وثقافته وبقناعته وإيمانه بأنه على حقّ، وبإنسانيته. إذا جردتنا الصهيونية من إنسانيتنا نصبح مثلهم ونحن لا نريد أن نكون مثلهم. نحن الأرقى والأحقّ والأجدر ونحن أصحاب الوطن الأصليون، ولا نريد أن نكون مثلهم.”
– سأربط هذا السّؤال بما كتبته في “ملعقة سم” عن ليلة الحب والجنس (ص 100). إنه من أجمل النصوص الإيروسية التي كتبت بالعربية.. هناك شيء مفاجئ بأن يكتب شاعر المقاومة مشهدًا إيروسيًا جنسيًا وعاطفيًا بهذا الشكل.
س.ق. “مرة أخرى: أي صورة نمطية خطرة. قبل حرب 67 أجرت إذاعة “صوت العرب” في القاهرة مسلسلا إذاعيا من 7 حلقات عن قصّتي. وأرسلوا لي عبر أوروبا عددًا من مجلة “روز اليوسف” المصرية حول الموضوع. كيف رسموني فيها؟.. رسموا رجلا عملاقا مع شاربين كبيرين وحطة (كوفية) وبندقية أكبر من الرشاش تحت إبطه. ولكن هذا ليس سميح القاسم؛ هذه صورة نمطية.”
– هكذا يريدون أن يرونا..
س.ق. “هكذا يريدون أن يرونا. محمد دكروب مثلا صُدم عندما تعرّف بي. قال: أنت سميح القاسم؟… غير معقول. أنا أتخيلك ماردًا عملاقًا بأربعة أمتار. قلت له: وأنا كنت أتخيلك كابن رشد، فلا أنت ابن رشد ولا أنا بمارد. الحياة أكبر من الصّورة النمطية. وتصوير شاعر المقاومة بأنه مقطب الجبين دائمًا وخلف المتراس أمر غير صحيح. هذه ليست شغلته. هناك مقاتل وهو مكمّل للشاعر. والشاعر يكمل المقاتل.
“وفي ثقافتنا خجل غير مبرّر من الجنس، والتعامل معه في الأدب غوغائيّ جدًا. حتى الذين كتبوا كانت كتاباتهم غوغائية تهدف لإظهار فحولتهم. هذا جنس متخلف، وللأسف الشديد، كان العرب من أكثر شعوب العالم الذين قدموا من خلال الكتب الموضوعة والترجمات، أرقى ما يكون في هذا المجال. تعاملنا مع الجنس في الماضي أرقى من اليوم. ما المانع أن يضع كاتب أو شاعر مشهدًا جنسيًا برقيّ؟”
– ومع يهودية؟
س.ق. “طبعًا، لمَ لا؟ مع يهودية أو عربية أو سوداء.. لماذا نقع في التناقض؟ إما أننا عنصريون وإما أننا عرب أمميون. العنصرية والعروبة لا تستويان. من يقول لي: سأذبح اليهود وأذبح الإنجليز والأمريكان باسم العروبة أقول له: حلّ عن ظهر العروبة! هذه ليست العروبة. هل تعتقد أنّ الرسول عاشر يهودية وقبطية وغيرهما من أجل المتعة فقط؟.. هذا درس للناس وللمجتمع، للعرب وللمسلمين. في الماضي جرّبوا أيضًا مهاجمة محمود على قصائده عن ريتا وحبيبته إيريت.”
– تكتب في “ملعقة سم” أيضًا: “الحب، في المحصلة، هو الطاقة العظمى، هو القيمة العليا في المعنى والفعل والتحوّل… وبمقدور القوة الطاهرة، قوة الحب اللانهائية، كالله، أن تكفل انتصار السنابل والأزهار والعصافير”. هل نسينا نحن الفلسطينيين في صراعنا الطويل أن نحبّ على مستوى الأدب والمسرح والفنون؟ الحبّ ليس حاضرًا لدينا بكثافة.
س.ق. “أنا معك في ذلك. والسبب هو تعرضنا لإرهاب فكريّ وسياسيّ واجتماعيّ. المبدع الذي ينحني للمفاهيم السياسية السّطحية والاجتماعية المتخلفة والدينية المتحجّرة، يهرب من الحقيقة. أنا لا أهرب من الحقيقة. لا يهمّني أن أدخل في معركة مع مجتمع أو بيئة، لأنني على حقّ. أنا أمارس حريّتي مع عواطفي ومع جسدي فهذا حقي أنا، وليس من حق إنسان آخر أن يتدخل.”
– وربما نكون قد شاركنا أيضًا في هذا..
س.ق. “نحن شاركنا في هذا! وتواطأنا مع هذه الصورة المشوّهة التي أساءت لنا. كنت مسافرًا مرة من أوريغون إلى تكساس. إلى جانبي في الطائرة جلس شاب أمريكي ببدلة وقبعة تكساسية. بادر إلى الحديث معي، وسألني من أين أكون. قلت: فلسطين. قال متعجبًا: فلسطين؟.. ليس إلى كوبا!! لقد اعتقد أنني هناك كي أختطف الطائرة. قلت له: أنا لست هنا لاختطاف الطائرة، أنا شاعر آتٍ لأقرأ الشعر في تكساس للجالية العربية. لم يصدق أنّه بوسع الفلسطيني أن يكون شاعرًا. ثم جاء وحضر الأمسية الشعرية هو وأصدقاؤه. نحن شاركنا في خلق صورة غير دقيقة عنا. ترى رساما فلسطينيا يرسم فنا تجريديًا فيتساءلون: هذا فلسطيني؟.. نعم، فلسطيني ويرسم فنا تجريديا. ماذا تريد منه؟.. يقولون: عليه أن يرسم البندقية والخندق… لا هذا غير صحيح أبدًا. أنا دائمًا أعطي مثال لويس أراغون الذي كتب عن صاحبته إلسا وهي تمشط شعرها أمام المرآة أجمل قصائد شعر المقاومة الفرنسية. بقصائد الحب هذه جُند الكثير من الفرنسيين للدفاع عن فرنسا. مفهومنا لشعر المقاومة غير دقيق.
“كنت مرة في أبو ظبي في أمسية شعرية. جاء الحضور وطلبوا أن يسمعوا قصائد يريدونها، فرفضت وقلت سأقرأ لكم ما أريد أنا. قالوا: نريد “ليلى العدنية” و”أتحدى” و”سأقاوم” و”منتصب القامة أمشي”… قلت لهم إنسوا كل هذا الموضوع. أنا أصدرت كتابًا جديدًا اسمه “كولاج” وسأقرأ منه. إذا أعجبكم أهلا بكم وإذا لم يعجبكم يمكنكم أن تذهبوا. قرأتُ لهم؛ وفي اليوم التالي كتب أحدهم: هذا ليس شعر سميح القاسم!
“كنا أنا ومحمود رحمه الله نقيم أمسيات شعرية كثيرة مشتركة. ونجلس محتارين قبل الأمسية، ماذا سنقرأ. فيقول محمود: تعسًا! لا بد أن يطلبوا منك “سأقاوم” ولا بد أن يطلبوا مني “سجّل أنا عربي”. فنختار سوية القصائد على شكل حوارية في الشعر. في بعض الأقطار لم يتحمّسوا كثيرًا، وبعد أن ننهي يطلبون “سأقاوم”. هناك نمطية ولكن علينا أن نكسرها وأنا أعتقد أنني نجحت في كسر هذه النمطية. في أمسياتي في مصر والمغرب وتونس وسوريا كنت أقرأ قصائد حبّ قصيرة. فشعرت بوجود تفكيك لهذه الصورة النمطية.”
– قد تكون أنت ومحمود من أكثر الشعراء اللذين طوّرا ذائقتيهما وذائقة الجمهور أيضًا.
س.ق. “قد تجد 2000 شاعر عربي كتبوا لفلسطين على الأقل. لا تغضبوا منا. لا تلومونا إذا أحبّ الجمهور شاعريْن وانسجم معهما. نحن لم نخطئ. لقد تعاملنا مع الجمهور بصدق. في ذكرى شوقي في الإسكندرية قرأت قصيدة حبّ عن الموبايل:
هاي
لموبايلك الحلو
نقالك الحلو
جوّالك الحلو
أشرح أسباب موتي عليك
وبالفاكس أرسل قلبي إليكِ
باي.
قرأتها فدوّى التصفيق ووقف الجمهور على قدميه. وبعدها قرأت لهم ملحمة شوقي. فأنت تفرض حالة إنسانية تضع الشاعر في مكانه الطبيعي بأنه إنسان وليس جنديًا أو إلهيًا.”
– أن تنتقل من قصيدة الموبايل إلى ملحمة شوقي يحتاج إلى ثقة كبيرة بما يكتب.
س.ق. “أنا أجري اختبارًا على الجمهور. أقرأ قصيدة المتنبي وبعدها قصيدة “ميكرو ويف” مثلا وأرى ردود الفعل. واكتشفت بمرور الوقت أنّ الجمهور يحبّك ويتعاطف معك ويكتشفك أكثر. ثم يقترب منك أكثر فتصير بالنسبة له إنسانًا وليس رجلا آتيًا من الفضاء الخارجي ومنقطعًا عن الجمهور، يقرأ القصيدة ويذهب. عليك أن تُشعرهم بأنك واحد منهم، وهذا ليس سهلا.”
– إذا كان شعر المقاومة هدفه إعادة الإنسانية إلى الناس فهو لن ينتهي أبدًا. هل ترى أنّ هناك من يكمل هذه المسيرة؟
س.ق. “لن ينتهي أبدًا. طبعًا. وأنا مستمرّ في هذا. ولكنها حالة يجب أن تستمرّ. أنظر إلى كمّ الضحالة.. بعد أوسلو بدأوا بكتابة المقالات عن نهاية شعر المقاومة وما جدوى ومبرّر شعر المقاومة؟.. يأتي صحفيون لسؤالي، فأقول لهم: معلش خيا، هل تحرّرت فلسطين في أوسلو؟ هل تحرر لواء الإسكندرون والأحواز وأوغادين؟.. كلها ما زالت تحت الاحتلال. هل أنهى أوسلو جموح الإنسان لكرامته وإنسانيته وحقوقه وحضارته؟ ما هذا الهبل؟ ما هو أوسلو؟ وأنا أقول دائمًا: حرّروا جميع الأراضي المحتلة واشطبوا اسمي وشعري من الوجود بالكامل. في هذه الحالة يكون ما أريده قد تحقق.”
– بعد بيروت 82 والخروج نشرت عدة دواوين بحالة حزن عميق. هل اهتزت عروبتك وقتها؟
س.ق. “لا. لكن ما أحزنني أنّ فهمي للعروبة لم يتحقّق على مستوى الأمة. وحتى الآن لديّ فهم ورؤيا للعروبة… أنا أشعر بالإهانة عندما تحضر هيلاري كلينتون اجتماعًا لوزراء الخارجية العرب. في لقاء لي لبرنامج “زيارة خاصة” على قناة “الجزيرة” قلتُ لمقدّم البرنامج الذي أستفزّني قليلا: اسمع، إسرائيل لم تُقم لسرقة أرض فلسطين ولا لطرد الشعب الفلسطيني ولا لإجلاء الأمة العربية؛ إسرائيل أقيمت لهدف واحد فقط: إغاظة سميح القاسم!”
– في قراءتي لك واستماعي إليك، أشعر بتسامح زائد في تعاملك مع الواقع. أنت تفهم كل الناس وتتفهم المعظم.
س.ق. “تسامح، هو تسامح. في السنوات الأخيرة دخلت في عدة حالات من الصلح العشائري في قضايا قتل وجاء يومًا ما د. غنطوس غنطوس من سخنين يريد أن يكتب كتابا عن الصّلح العشائري. وكان يتشاور معي ومع آخرين غيري. وفي إحدى الجلسات قال: قواعد الصلح هي المصافحة والممالحة (الطعام المشترك). قلت له إن هذا ناقص لأنّ الصلح يبدأ بالمسامحة ثم المصافحة والممالحة. للتسامح سببان: إذا أساء لك إنسان ما فلا تحكم عليه من هذا المنطلق فقط، فالإساءة يمكن أن تكون غير مقصودة أو عن سوء فهم أو على حق. ولكن على المستوى الأكبر لا يوجد صلح عشائري بين العرب والصهاينة.”
أكتب لي قصيدة!
النساء. القصص كثيرة حول القاسم ودرويش في هذا السياق. رُويت الكثير منها وضُخّمت بعضها وبولغ في بعضها حتى غدت هذه القصص جزءًا لا يتجزّأ من هالة الشاعرين وحضورهما.
– هل يمكن أن تكون شاعرًا حقيقيًا من دون أن تكون دون جوان؟
س.ق. “لا أعرف ما الوضع بالنسبة للآخرين، ولكن بالنسبة لي لا يمكن. هناك ارتباط واضح قطعًا. العلاقة بالنساء والطبيعة والأنهار والبحيرات والجبال مثل السّفر، وإلا فإنّ الحالة تكون غير إنسانية. الدون جوانية ليست خروجًا على الإنسانية. الخروج على الإنسانية هو قمع الجّسد. لي قصيدة قديمة أقول فيها “أعينوا الجّسد”. لا تقمعوه. ولا أريد أن أستعمل مصطلح “دون جوان” لأنه لم يكن شخصية طبيعية بل كان مريضًا.”
– هل هناك تأثير لهالة الشاعر على المرأة؟
س.ق. “أكيد… هناك تأثير للشاعر والفنان…”
– أي أنك تأتي المرأة على جناح القصيدة؟
س.ق. “لا، هي قد تأتي إليّ على جناح القصيدة. وأنا رأسًا أنزلها إلى الواقع. ضعي الشاعر على جنب، نحن رجل وامرأة. وهناك الرومانسيات والرومانسيون طبعًا. فدوى طوقان رحمها الله كانت تحكي عن شباب يأتون إليها متيّمين بها، وكانت تضحك بخجل: قرأ لي قصيدة فصار يريد أن يحبّني. من الطبيعي أنّ كل إنسان يُنجز مشروعًا ما متميزًا يمكن أن يكون موقع جذب للنساء، حتى لو لم يكن جميلاً.”
– ولكن الطمع في حالة الشاعر أكبر.. فهي تريد أن تخلدها بقصيدة أو بيتي شعر.
س.ق. “طبعًا، طبعًا، وهذا يدخل الشاعر في ورطات وورطات. “أكتب لي قصيدة”، تقول. أسألها: لماذا؟ ما المناسبة؟ هذا طلب فيه شيء من الوقاحة. هل القصيدة جاهزة تنتظرك؟ وكأنني نجار أصنع لها كرسيًا.”
– هل أثرت بك علاقاتك مع النساء تأثيرًا تراه ملموسًا وحاضرًا في حياتك اليوم؟
س.ق. “لم تكن لديّ أزمة علاقة مع النساء منذ طفولتي. أنا نشأت في مجتمع منفتح وغير ذكوري والاختلاط فيه عاديّ ومألوف. ولم يكن حضور المرأة يومًا في حياتي استثنائيًا أو مثيرًا مثلما كان المرحوم صديقي الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي يقول: “كنا عندما نسمع حفيف عباءة امرأة نُجنّ!” ومن جهتي، من الطبيعيّ أن يكون لهذه العلاقات تأثير في حياتي وقصيدتي وسلوكي. ولكنني لم أتعامل يومًا مع المرأة باعتبارها ملاكًا أو باعتبارها شيطانًا. بعض الشعراء صنعوا منها ملاكا والبعض الآخر شيطانًا. هي إنسانة مثلي تمامًا: فيها الملاك وفيها الشيطان.
“أعتقد أنّ العلاقة مع المرأة عند كلّ رجل مرتبطة بالبيئة التي وُلد ونشأ فيها. وبيئة الفصل الحادّ بين النساء والرجال هي بيئة مريضة برأيي وتؤدّي إلى انحرافات جنسية عند الرجال وعند النساء. البيئة المغلقة هي بيئة الانحرافات- هذه قاعدة، وأقولها وأمري لله. البيئة المنفتحة إنسانية أكثر وطبيعية وجميلة أكثر.”
– بتقييمك، هل صحيح أنّ كتاب غسان كنفاني هو التذكرة للدخول للعالم العربي بالنسبة لشعراء الداخل؟
س.ق. “لا. لا تؤاخذني. غسان رحمه الله أسهم بلا شك في ترويج شعر المقاومة. لكن كان هناك كاتب اسمه إبراهيم أبو ناب كتب دراسة قبل غسان (عام 1966، مجلة الآداب). ولا ننسى يوسف الخطيب وكتابه “ديوان الوطن المحتل” (1968) الذي كانت له أصداء ضخمة. وغنوا قصيدتي “ما دامت لي من أرضي أشبار” وكانوا يقدمونها يوميًا في “صوت العرب” عام 1966 قبل الحرب. مسلسل إذاعي عني في صوت العرب بُث أيضًا قبل الحرب. واكتشفتُ أنّ مجلة الجيش السّوري بدأت تنشر لي منذ 1965. ومع ذلك لا أنسى دور غسان. وأذكر عندما سافرنا محمود وأنا إلى صوفيا عام 1968 وجاء صحفي من الكويت وادّعى كذبًا أن شاعري المقاومة يحملان العلم الإسرائيلي، تصدّى لهم غسان وقال لهم: لا تتمادوا على جناحي شعر المقاومة. ودافع عنا ببسالة.”
– تحضرني مقولة “يوما ما سأجد الكلمات الصحيحة وستكون كلمات بسيطة”… هذا الموتيف موجود في شعرك ونثرك، هناك سهل ممتنع وليس هناك بحث عن إعجام وتفخيم. بساطة ذكية… ولكن في “سبحة للسجلاّت” وما بعدها طرأ نوع من التركيب مقابل البساطة السابقة…
س.ق. “أنا لا أسميه لا تقدّمًا ولا تأخرًا، أسمّيه تغيّرًا وتجدّدًا. وهذا شيء طبيعيّ. لا يجوز أن نطالب شاعرًا أن يكتب في السّبعين ما كتبه وهو في الثامنة عشرة. الثقافة والتجارب تختلف. هناك الخبرة والتثقيف والخيبات.. كما أننا مبعثرون كبشر، نفكر في أكثر من أمر واحد في ذات اللحظة. ممنوع أن نتمرّد على تكويننا الإنسانيّ، هذه البساطة الصعبة. لا يوجد أصعب من السّهل الممتنع. هذا أصعب أنواع الكتابة.”
– وماذا مع الجيل الذي نشأت معه غير محمود درويش. هل كانت حالة ثقافية ومداولات في سنوات الستين والسبعين؟
س.ق. “دائمًا. أعتقد أنّ حركتنا الثقافية وصلت أوجها وقتها. “الجديد” تحولت إلى نادٍ ثقافيّ، وكان معنا كتاب غير حزبيين أيضًا يكتبون، وفتحنا الأبواب حتى مع المختلف. عمّمنا مفهوم التعددية والحوار، وأصبحت مجلة “الجديد” ناديًا يأتي إليه الجميع، وصارت منتدى للشعراء والأدباء والمفكرين للنقاش والحوار.”
– وعملية التأثر هل كانت مع شعراء آخرين غير درويش؟
س.ق. “هذا كان بيني وبين محمود فقط، لأننا كنا نسكن في نفس الدار أو كنا جيرانًا ونلتقي يوميًا ونسهر ونقرأ لبعضنا البعض. كنا نعمل في نفس المكان ونقابل نفس النساء ونأكل في نفس المطعم ونقبع في نفس السّجن. حياة مشتركة أدّت إلى هذه التأثرات.”
– ما يشبه الكومونة.
س.ق. “صحيح. بالضبط. أحيانًا يجوع واحد منا فيقوم أصدقاؤه بتوفير العشاء له، حتى لو لم يكن معهم الكثير.”
– وضعكم أفضل من وضعنا اليوم بكثير.
س.ق. “من الناحية الاجتماعية والإنسانية- أكيد. لكن وضعكم الاقتصادي أفضل من وضعنا وقتها بمئة مرة. نحن كنا فقراء بكل معنى الكلمة ونجوع حقًا. وكان لدينا نوع من المكابرة؛ فأهلنا وضعهم جيد وعندما آتي إلى الرامة يعرض أبي وأمي النقود علي فأنتفض: أعوذ بالله! الحزب يعطيني معاشًا ممتازًا، بينما أكون قد صرفت ثلاثة معاشات سلفًا. ومحمود نفس الشيء. قبلنا الحياة كما هي وتمرّدنا عليها كما هي، بلا مبالغات.”
– كيف ترى جيل الكتاب الفلسطينيين الشباب اليوم؟ هل تتابع أحدًا ما؟ قرأتُ مؤخرا للشاعريْن سامر خير ونمر سعدي، هل تقرأ لهما مثلا؟
س.ق. “أنا أتابع الجميع، شعرًا ونثرًا. لدينا طاقات جيدة وقوية وجميلة. وقرأت طبعًا الشاعرين سامر خير ونمر سعدي، وهما شاعران جيدان، لكل منهما صوت خاص ومتفرّد. لكن في المجمل، أنتم لم تبلورا تحدياتٍ مشتركة. كل واحد يغنّي على موّاله وخلق لنفسه تحدّياته الشخصية. لا يوجد بينكم هذا اللقاء والترابط حتى لو انعدمت المحبة. لا يوجد عمل جماعيّ. وبما أنّ كتابة القصيدة عمل فردي جدًا، يجب من أجل التوازن أن يكون احتكاك جماعيّ. حتى اتحادات الكتاب التي كانت تنشأ، كانت تنشأ بألفة ومحبة ويأتي الكتاب متحمسين، وأحيانا بالتزكية. وعملنا وأصدرنا مجلات قدر الإمكان.”
القاسم يرى وجوب عودة مجلة مثل “الجديد” لتكون مركز الحركة الثقافية في بلادنا، “ويجب ألا تكون حزبية”. لكنه يعي مطبّ العامل الاقتصادي المنهك وعلاقته الشائكة مع المضامين في مثل هكذا إصدارات: “رجاء النقاش كان يحرّر فيما مضى مجلة الدوحة على ما أعتقد. كانت مجلة ضخمة. قلت له: عيب عليك أن تصدر مجلة ثقافية بهذه الفخامة. قال لي: يموّلونها أناس لا يعرفون العيب!.. ومرة اتصلوا بي لكتابة صفحة على أن أحدّد السعر الذي أريد. قلت لهم: لا أريد أن أكتب لكم صفحة وحدّدوا السّعر الذي تريدون.”
– مشكلتنا اليوم أن الثقافة تنعدم حيث النقود، والنقود تنعدم حيث الثقافة.
س.ق. “صحيح، صحيح. والمشكلة الجماعية. أنشأوا مؤخرًا اتحاد كتاب، لكنه تبيّن كأمر هزيل وفيه شخصنة للأمور. واُستغل اسمي وأسماء آخرين بقلة أدب. فيأتيك شاب ويقول نريد أن ننشئ اتحاد كتاب ونريدك أن تكون على رأسه، أقول له شكرًا لا أستطيع، ولكن احذروا التعصّب الحزبيّ والطائفيّ والقبليّ وتذكّروا أنكم أبناء شعب واحد. فيقول: على راسي. ولكن يتضح في النهاية أنّ الأمر ليس كذلك، بل ألعاب شخصية… شغلة صغيرة جدًا. وأنا وحنا أبو حنا ومحمد علي طه باركنا لهم على أساس أن يكون وفق تصوّرنا. هذه حرب صبيانية!
“هذا الفرق. لديكم طاقات ممتازة، وتوجد أسماء موهوبة ولغة جميلة وأفكار حرة وجريئة ولكن لا توجد هذه الحالة الجمعية. ينقصكم أن تُطيّبوا لبعضكم البعض. واليوم مثلا انعدمت المهرجانات الشعرية المشتركة على خلاف ما كنا… وأمر آخر: إذا رأى أحدهم اليوم اسمه في الجريدة يعتقد أنه شاعر عظيم. يعتقد أنه وصل الأوج والقمة رغم أنّ كلمة شاعر بالنسبة له ليست مبررة حتى الآن.”
– قد يكون الانفتاح الإعلامي وسهولة النشر اليوم ولدا تنافسًا غير صحّيّ.
س.ق. “ولكن تظل هناك ولدنة وصبيانية. الأمر لا يصبح مسألة شاعر أكبر من شاعر، بل تظلّ المسألة “ولد أكبر من ولد”. هذا يحكي أكثر وينشر أكثر وصورته أكبر، ولكن في النهاية: لا هذا شاعر ولا ذاك شاعر. ما هي قيمة نصّك وقيمة نصّه؟ هكذا يجب أن يُسأل في البداية قبل المعركة على النشر.”
– ناهيك عن غياب الدور التاريخيّ للمحرّر.
س.ق. “كنت أستلم في “الجديد” مئة قصيدة فأنشر اثنتين. وقصتي مع توفيق طوبي معروفة: أحد الشعراء من المثلث بعث بقصيدة إلى “الاتحاد” وكنا في موسم انتخابات، وكنت أنا المحرّر الأدبي في الصحيفة. قصيدة من قرابة 20 بيتًا، ضعيفة وهشة، فعدّلت 6-7 أبيات ونشرتها. في اليوم الثاني أو الثالث دخل عليّ توفيق طوبي: يا رفيق ماذا فعلت بنا؟.. قصيدة فلان لماذا لم تنشرها؟ قلت له: أنت تكتب في “الدّرب” (مجلة نظرية وقتها- ع.ح.)، هل سألتك مرة لماذا نشرت هذا المقال وذاك لم تنشره؟.. الأدب من اختصاصي وليس من اختصاصك ولن أنشر قصيدة مكسّرة. فقال: ولكنك ستضيع علينا ألف صوت. أجبته: في ستين داهية!
في هذا السياق يروي القاسم وهو يضحك عن تلك الصبية المبتدئة التي اتصلت إلى بيته قبل فترة، وقالت لزوجته إنها ترغب بالحديث مع سميح القاسم. فلما سألتها من تكون، أجابت: زميلته. أنا شاعرة أيضًا”.
عرفات وعباس: من أكثر دهاءً؟
– كيف كانت علاقتك بياسر عرفات كشاعر مقاومة، عبر تأسيس المنظمة وولادة قيادة فلسطينية وأنت هنا في الجليل؟ من هو هذا الرجل برأيك؟
س.ق. “ياسر عرفات كان إفرازًا طبيعيًا لحالة شعب تحوّل إلى شعب لاجئين ومضطهدين. طبيعة التاريخ تفضي إلى إفراز شخص يقول لا نحنا لسنا لاجئين، نحن شعب. ونحن لدينا وطن وقضية. صحيح أنّ هناك من تكلم في هذا قبل عرفات مثل أحمد الشقيري، لكنّ القضية الفلسطينية كانت قبل عرفات جزءًا من اللعبة السياسية العربية والدولية. فإذا كان نظام معين راضيًا عن الشقيري يستقبله وإذا لم يكن راضيًا عنه يطرده. في عهد ياسر عرفات تحوّل الوضع إلى قيادة خاصّة فلسطينية من دون الانقطاع عن عُمقها العربيّ. وأنا لا يمكن أن أقبل أبدًا بالتنازل عن عمقنا العربيّ. القضية الفلسطينية هي قضية عربية في النهاية، وياسر عرفات أخرج القضية الفلسطينية من الحيّز العربي إلى الحيّز الدوليّ. أصبحت قضية وطنية بشكل بارز وقضية قومية للعرب وقضية دولية. وبغضّ النظر عن تفاصيل الموقف العرفاتي والثغرات التي يمكن أن نجدها في موقفه، إلا أنّ الخلاصة تبقى أنّ عرفات هو القائد الفلسطينيّ الأول الذي بلور القضية على المستوى الوطني الفلسطيني والقومي العربي وعلى مستوى العالم الإسلامي. فهو نجح في تحويل القضية الفلسطينية إلى جزء من الهمّ الإسلامي عبر منظمة المؤتمر الإسلامي.”
– لكن البعض يقول إنّ انتهاء كل هذا باتفاق أوسلو هو أمر سيئ.
س.ق. “بعد أوسلو طلبت مني مجلة “المصوّر” المصرية أن أكتب مقالا، فكتبت مقالا فيه حزن وقرأه أبو عمار. بعدها كنت في المغرب، وقرابة الواحدة صباحًا جاء شباب إلى الفندق وقالوا إنّ الأخ أبو عمار يرغب برؤيتك. فتفاجأت أصلا أنه يعرف بوجودي في المغرب. قال لي: قرأت مقالك، لماذا أنتم زعلانون؟ قلت له: من تقصد بأنتم؟ أنا كتبت مقالا باسمي أنا. قال: المثقفون الفلسطينيون. قلت له: أنا لا أحبّ المزايدة ولن أزايد عليك، أعرف أنّ ظروفك غير ظروفي، أنا شاعر وحرّ وأنت تعمل في السّياسة ولك حدودك وقيودك. لكن مساحة ما أُعطِي لشعبنا في أوسلو أقلّ من مساحة الدم الفلسطيني الذي سُكب. دمنا أوسع من أوسلو. وأنا لديّ على الأقل 10 نقاط حول أسباب اعتراضي على أوسلو. فقال: وأنا سأعطيك عشرة أسباب أخرى! قلت له: أبو عمار أنت ذكيّ وليس من السّهل الحوار معك. ولكن إذا كنت ستعطيني عشرة فوق العشرة فماذا تبقى؟ فقال: لماذا تسألني أنا؟.. إسأل عربك واسأل الوضع الدولي. لقد تُهنا. ماذا تبقى لنا بأيدينا؟ أيّ أوراق نحمل نحن؟.. وفعلا كان وقتها انهيار الاتحاد السوفييتي والوضع في العراق وغيره. لم يكن بأيدي القيادة الفلسطينية أيّ شيء.
“ما كان ممكنا وقتها تحسين شروط النقاش مع الاحتلال الإسرائيلي. لكنّ الشعب الفلسطيني شعب مقاتل وليس شعب مفاوضات، صراحة. في حينه كان نقاش أيضًا بيني وبين إدوارد سعيد ولم يعجبني موقفه لأنه شارك في المفاوضات بداية، هو وإبراهيم أبو لغد، وبعدها لاحظ أبو عمار أنهما رومانسيان أكثر من اللازم من وجهة نظره. فلم يتفقوا. لم تكن لدينا أطقم مفاوضات مع خبرة ووثائق. حتى خرائط لم تكن متوفرة بما يكفي عند المفاوض الفلسطيني. حتى في “غزة أريحا أولاً” لم يجرِ التمييز بين أريحا المدينة وبين أريحا المحافظة؛ لم يدخلوا في هذه التفاصيل فتورّطوا وورّطونا. ولكن بين هذا وبين نعته بالخيانة والتفريط لا يجوز، حرام. التخوين سهل جدا، ويمكنني أن أخونك ويمكنك أن تخونني، ولكننا في المحصلة لم نكن قد فعلنا شيئًا بهذا.
“الإسرائيليون ليسوا سهلين، لا في سياق الكلام القديم عن قتل الأنبياء وغيره، ولكنهم ليسوا سهلين في الحوار السياسيّ. لديهم مشروع ويعملون في إطاره ويلفون ويدورون ويرجعون إليه. في المقابل، لم نكن نحن نملك مشروعًا واضحًا. كنا نقول “التحرير والعودة”. لكنّ هذا شعار، وليس مشروعًا بتفاصيل: كيف نحرّر وكيف نعود؟ لم يكن خطة عمل، كان حلمًا فقط.”
– أي أنّ أوسلو أنهت مرحلة الشعار هذا.
س.ق. “طبعًا، طبعًا. يوجد واقع وممارسة على الأرض واحتلال ومئات الحواجز والمستوطنات. يقولون “القدس عربية إلى الأبد”. يمكننا أن نقول ذلك ونكتبها شعرًا –أنا أصدرت كتابا عن القدس- ولكن ماذا بعد ذلك؟ يوجد تهويد يوميّ للقدس. ماذا سنفعل في وجه التهويد؟ العربي الذي يريد بيع بيته بمئة ألف دولار، كيف سنجمع مئة وعشرة آلاف دولار كيف لا يبيعه للأمريكان والمشروع الصهيوني؟ هذا يستوجب عملا. هذا كان حديثنا الدائم أنا وفيصل الحسيني، رحمه الله، أنّ الفلسطينيين والعرب يطلقون الشّعارات، ولكن في الواقع عندما كانت عائلة عربية ترغب ببيع بيت في القدس كان فيصل يذهب ويأتي مثل المجنون: تحدّث مع أبو عمار وتحدث مع فلان، نريد ونريد ونريد. مليونير يهودي واحد (ميسكوفيتش) يدفع لتهويد القدس أكثر ممّا تدفع في المقابل الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وهيئة الأمم المتحدة. يدفع ملايين الدولارات سنويًا لتهويد القدس، ونحن ماذا لدينا؟.. خذ مثلا عندما رفعوا شعار الأقصى في خطر، قلتها أكثر من مرة: ليس الأقصى الذي في خطر- هناك ثلاثمئة ألف فلسطينيّ في القدس هم الذين في خطر! الخطر عليهم أشدّ من الخطر على الأقصى. الرسول قال إنّ قطرة دم أهمّ من الكعبة. حتى لو هُدم الأقصى فيمكن بناؤه من جديد. ولكن هناك 300,000 إنسان يعيشون في القدس ولا أحد يلتفت إليهم أو يدعمهم. وما زلت أكرّر حتى اليوم هذا الكلام. للأقصى رب يحميه ولكنيسة القيامة رب يحميها- نحن الذين في خطر، شعبنا.
“أنا أعي أنّ هناك خطة لبناء الهيكل وهم يحفرون الأنفاق، هذا صحيح. توجد في إسرائيل حكومة ظلّ من المستوطنين واليمين الفاشيّ. هم من يحكمون إسرائيل فعليًا. قتلوا رابين ويمكنهم أن يقتلوا من يريدون. ولذلك أقول إنه لا ينبغي الذهاب إلى التكفير والتخوين.
“كمال ناصر قال عن الدول العربية: الخيانة أصبحت وجهة نظر. عندما يصبح الأمر كذلك فماذا تبقى لنا سوى إرادتنا وحلمنا وحقنا؟”
– لنتحدث عن الوضع اليوم مع محمود عباس، والانشقاق مقابل حماس ووضعية المفاوضات اللانهائية ومستوى القيادة التي لا ترقى لمستوى عرفات… يجوز أنه رغم حصار بيروت وأيلول الأسود فإننا نمرّ اليوم أصعبَ فترة في تاريخ الشعب الفلسطيني: لا قيادة، لا طريق، لا وحدة، شعب ضائع…
س.ق. “أنا لا أحكم على محمود عباس من خلال كلامنا، بل بحسب ما يرى فيه الإسرائيليون وأمريكا والعالم. بهذا المعنى، يتضح أنّ عباس أكثر دهاءً من أبي عمار. فأبو عمار كان عندما لا يعجبه أمر ما يضرب على الطاولة ويقول: “خلاص! مفيش!” أما عباس فلا يضرب على الطاولة، بل يقول: أنا أريد مصالحة “حماس” ولكنني لن ألغي المفاوضات. المفاوضات والحلّ السلميّ إستراتيجية لدينا. مصالحتي مع حماس من أجل هذه الإستراتيجية. من يُجنّ من هذا؟ نتنياهو. لدرجة أنّ نتنياهو في لقاء مع قادة اليهود في الولايات المتحدة قال لهم: أخطر عربي على إسرائيل اليوم هو محمود عباس. لماذا؟ لأنه يمسك بهم في عنقهم ولا يتركهم. يتحدّث عن المفاوضات والحلّ السلمي. عباس أكاديميّ وباحث، وهو يعرف ما العقل الصّهيوني، ويتعامل معهم ببرود وهذا يبعثهم على الجنون. يريدونه أن يقول: أريد حماس ولا أريد السّلام معكم، لكنه لا يقول هذا. ثم يقول خالد مشعل بذكاء كبير: نحن أوقفنا الكفاح المسلح ونحن الآن سننتهج المقاومة الشعبية. هذا ذكاء خارق أيضًا.”
– هذا الكلام محرج لنتنياهو؟
س.ق. “طبعًا محرج. فهو يريد من حماس أن تقول إنها تريد القضاء على إسرائيل، بينما هم يقولون اليوم: دولة في حدود 67. هذا إنجاز كبير لعباس ومشعل وهذه ورطة كبيرة لنتنياهو وحكام إسرائيل. كما أنّ الغرب يحترمه إلى أقصى الحدود.”
– كما أنّ صورة عباس الجماهيرية المعروفة ليست مقاتلا ببندقية.
س.ق. “نعم. فهو يقول لهم: أنا أذهب إلى الأمم المتحدة من دون مسدس وغصن زيتون (كما قال عرفات وقتها- ع.ح.). أنا ذاهب بغصن زيتون فقط. خطابه الأخير في الأمم المتحدة كان ضربة معلم.”
– لكن هناك قطاعات وحركات سياسية غير قليلة ترى أنّ هذا النهج غير صحيح. نحن بحاجة إلى المقاومة الشعبية وحلّ السلطة الفلسطينية ووقف المفاوضات العبثية.
س.ق. “أمر طبيعي، فنحن الشعب الفلسطيني، نحن لسنا قطيعًا. نحن لسنا شعبا شموليا، يطيع الزعيم بشكل أعمى. نحن شعب حيّ وحرّ مثل كل شعوب العالم ولدينا تعدّدية. عندنا فتح وحماس والشعبية والديمقراطية وحزب الشعب وحركات أخرى كثيرة، وهذا دليل عافية وليس دليل مرض. التعدّدية الفكرية والسّياسية والإيديولوجية لدى الشعب الفلسطيني هي دليل عافية. أعرف أنّ هناك من يقولون إنكم شعب ممزّق. لا، لسنا شعبًا ممزقًا، هذا هو الأمر الطبيعيّ. أنظر إلى شعوب العالم، أنظر إلى اليهود هنا. في داخل حزب الليكود تجد فيغلين ومريدور وتيارات أخرى. وأنا ضدّ أن يُكثف الحوار الفلسطيني-الفلسطيني بين فتح وحماس. أنا أصرّ دائمًا على أن تكون الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب في صلب الحوار. لا نريد حزبًا جمهوريًا وحزبًا ديمقراطيًا (على غرار المنظومة الأمريكية- ع.ح.).”
– إذًا فأنت لا ترى الوضع قاتمًا.
س.ق. “لا، لا ليس قاتمًا. لكنني أرى أنّ الوضع معقد جدًا. ولكن مهما يتعقد الوضع ففي المحصلة نحن موجودون بين البحر المتوسط ونهر الأردن. وموجودون بكثافة ونزداد ولا مفرّ أمام الصهيونية: إما دولة ثنائية القومية وأهلا وسهلا، وإما دولتين لشعبين. لسنا نحن المحرَجين. نحن في صراع منذ مئة سنة ولا ضير لو استمرّ الصراع مئة سنة. ماذا سيجري لنا؟”
– أنت تكتب في مطلع سربية “عجائب قانا الجديدة..”[9]: “أنا كفُّ يدْ/ فقدت يديّ، فقدتُ الجّسدْ/ أنادي. أنادي. وما مِن أحدْ/ أنا كفّ يدْ/ وعمري ثلاثُ سنينْ/ تكسّرَ عظمي القليلْ/ وضاعَ فمي في الرّكامِ الثقيلْ…”. هذا الحزن في هذه السّربية، كيف يستوي مع البراغماتية التي تحلل بها الوضع؟ تكتب بحزن عميق وتحلّل ببرودة كبيرة.
س.ق. “أنا تابعت العدوان على لبنان[10] يومًا بيوم وساعة بساعة ودقيقة بدقيقة. ورأيت دمى الأطفال وأيدي الأطفال والبيوت المدمرة ورأيت الختيار الذي نُسي في البيت وجاءت ابنته تبحث عنه في البيت. رأيتها وعشتها. كانت هذه السربية التعبير العفوي عن الذي رأيته. لكن هذا مردوده كما أرى تعميق الوعي العربي بضرورة المقاومة. كفّ الولد المقطوعة والدمية المرمية بين الأنقاض، هذه ليست دعوة يأس بل دعوة مقاومة مثل كلّ السربية، من خلال إظهار بشاعة العدوان وحقارة المعتدي. لا أريد أن أصور المقاتل البطل والشجاع فقط، بل أريد أيضًا تصوير الجثة والطفل. وأحيانا تختلط المقاومة مع البشاعة والفظاعة: “رأيت رأي العين/ مقاتلا في العاشرة/ يمشي بلا ساقين/ ووجهه للناصرة”. رجلاه مقطوعتان لكنني لست كاميرا أصوّر فقط، بل أنا شاعر أصوّر وأعبئ وأشحن. هذا الولد سيمشي بلا ساقين ووجهه لبلده ووطنه.
“وبالنسبة لقضية الحوار السياسي، قلتها من قبل: قصيدتي لا تفاوض، قصيدتي لا تعرف الخرائط.. أين 67 و73. قصيدتي لها وطن، الوطن كله. لذلك قصيدتي لا تقف عند الحاجز، “المحسوم”. أنا أقف عند “المحسوم” لكن قصيدتي لا تقف. تتجاوزه غصبا عن الجيش الإسرائيلي والاحتلال والأمم المتحدة والعالم كله. هي حرة، تتنقل كما تشاء. يستطيعون منعي من دخول بلد، لكن لا يستطيعون منعها. يافا وطني ورام الله وطني، القدس وطني والرامة وطني، الجش وطني وبئر السبع وطني. الاتفاقيات لا تعني لي شيئا في الشعر. لكنني لست شاعرًا فقط، أنا رجل سياسة أيضًا. والرجل السياسي يدخل في مواجهة مع الشاعر.”
– إنفصام أو ازدواجية؟
س.ق. “لا لا أبدًا. الازدواجية والفصام هما أمران سيكولوجيان إكراهيان. أنت تُصاب بالفصام كمرض، لكن في حالة الشّاعر والسياسيّ الأمر يكون بوعي كامل. هذه ليست حالة مرضية. أعرف ما تريده القصيدة، ولكن السّياسي يعرف أيضًا أنّ ما تريده القصيدة يواجه حواجزَ ودباباتٍ وسلاحَ جوّ وجيشًا وصراعَ مصالح ودولاً. إذا تجاهلت الواقع السياسي في العالم والمنطقة أصير شاعرًا رومانسيًا أهبلَ. أنا منخرط في الحياة السياسية لشعبي، ولذلك إلى جانب القصيدة أعطي أيضًا فرصة للحلّ السّياسيّ المرحليّ. فكلّ الحلول السياسية بالنسبة لي مرحلية. أصلا إذا قامت الدولة الفلسطينية فهل يعني هذا النهاية؟ لا، هذه مرحلة. الحلّ النهائيّ لدي هو دولة عربية ديمقراطية كاملة من المحيط إلى الخليج. هذه رؤيتي السّياسية والشعرية، وبحق وهذا ليس مستحيلا وثورات الربيع العربي أكدت لي أنّ كل الأمة العربية تعيش على هذا الحلم.”
بلاد العُرب ثوري
– الثورات العربية بحاجة إلى وقت، هناك أنظمة بعد رحيل الزعيم وحالة سياسية واجتماعية.
“طبعا. المجلس العسكري الأعلى في مصر الآن هم ضباط مبارك، هو من علمهم. هم يحاولون سرقة الثورة. طبعا هناك أمريكا وروسيا، وإسرائيل تلعب في هذا الملعب. نحن لا نعيش على كوكب آخر. لذلك توجد محاولات لسرقة الثورات العربية والالتفاف عليها. أنا مطمئن إلى حدّ بعيد من أنّ الحركات الإسلامية التي صعدت إلى السلطة أعقل من أن تضيع الثورة. في تونس الإسلاميون يتحدثون كلامًا عقلانيًا وفي مصر الإخوان المسلمون أثبتوا أنّ لهم عقلاً وتفكيرًا سياسيًا، وأنا لا أتحدث عن السلفيين الذين أسميهم “السّفليين”. كنت أفضل أن يمسك الحكم الليبراليون والتقدميون والعلمانيون، ولكن فلنعد إلى العقلانية السياسية: هذا ما أفرزته الانتخابات. هذا أمر مرحليّ. لا يجوز أن ألطم. عليّ التعامل معه بواقعية.”
– لكن العقدة الأكبر اليوم هي سوريا، بحكم موقعها في تيار الممانعة.
س.ق. “أتركني من تيار الممانعة. قضية المقاومة والممانعة وأنّ ما يحدث مؤامرة عليهما، هذا كلام لا يسري لديّ. من قال إنّ المقاومة والممانعة ضدّ الديمقراطية؟ بالعكس تمامًا: الديمقراطية تجعل المقاومة والممانعة أقوى وأشدّ وأعمق. لا يجوز باسم الممانعة أن يكون حزبٌ واحد يحكم سوريا. لا يجوز. هذه لم تعد مقاومة، هذا استعمال شعار المقاومة والممانعة لإسكات الشعب. “لا صوت يعلو على صوت المعركة”. ولكن لا توجد معركة؛ أين المعركة؟ أنا أعرف محاذير القيادة السورية في مواجهة إسرائيل، ولكن نحن نتكلم منذ 40 سنة عن المقاومة والممانعة ولا توجد مقاومة. ماذا تعني الممانعة؟ مفاوضات؟ لقد حدثت بالفعل بين المرحوم حافظ الأسد وإسرائيل. من قال إنّ المقاومة والممانعة تعنيان قهر الشعب ومنع الديمقراطية؟ بالعكس. التعدّدية تجعلهما أقوى وأصدق وأكثر تجذرا في الشعب.”
– هذا ناهيك عن وطنية الشعب السوري وأنه لن يصبح عميلا للغرب.
س.ق. “لا، أبدًا. نتيجة لتربية تاريخية، ومن أيام الثورة على العثمانيين، سوريا تصدرت وقدمت شهداء علقوا على المشانق في دمشق وبيروت وعكا. بلاد الشام تاريخيًا فيها الزخم القومي وهذا الزخم تُرجم للممارسة. سوريا المسلمة السنية كان لها رئيس حكومة مسيحيّ، وفيها وزير أوقاف مسيحيّ! سوريا المسلمة السنية منحت قيادة ثورتها الكبرى لسلطان باشا الأطرش الدرزيّ. سوريا المسلمة السنية أعطت قيادة الثورة في مرحلة معينة للعلوي صالح العلي. ليست هناك مشكلة دين ومذهب لدى الشعب السوري. الإنسان يُحاسَب على موقفه وآرائه وتصرّفاته. أنا لست خائفًا. يُخوّفون المسيحيين والدروز والعلويين بأنّ الأصوليين سيستلمون الحكم ويقومون بالمذابح ضدّهم. ولكن هذا الكلام افتراء وتزوير على الشعب السوري. أديب الشيشكلي صنع انقلابًا وأرسل طيارات ودبابات تضرب جبل الدروز. اختلفوا معه. قالوا له أنت عميل أمريكي، لا تهمك فلسطين ولا سوريا. من تمرّد ضدّه؟ حلب السنية ودمشق السنية. حلب هبت هبة رجل واحد وهدّدوه بالهجوم على دمشق. ثم أسقطوه وطردوه من البلاد. أنا لست خائفًا على الشعب السوري رغم وجود أصوات “سفلية” تحرض: الكفار الشيعة، الكفار العلويين، النصارى، الإسماعيليين… لكن هؤلاء ليسوا الشعب السوري. وإذا نجح الإخوان المسلمون باستلام الحكم فليكن.”
– ماذا سيحدث برأيك في الثورة السورية في ظلّ تصادم القوى العالمية؟
س.ق. “إستمرار النظام غير وارد بالحسبان. لم يعد أيّ مبرر لبقائه في الحكم بعد آلاف الضحايا، رجال ونساء وأطفال. هل تتخيل الدبابات الإسرائيلية تضرب كرميئيل؟ هل يمكن تخيّل هذا؟ ما يحدث أمر لا يقبله العقل. كيف يمكن لجيش عربيّ سوريّ له تاريخه يحاصر حمص وحماة ويحرق ويضرب ويقتل- كيف؟ أين العروبة؟”
– لدينا هنا أيضًا تيارات وحركات سياسية فلسطينية وشرائح غير مُأطّرة حزبيًا تقول إنه يجب بقاء النظام وهذه ثورة مأجورة. كيف يعجز بعض الفلسطينيين عن فهم ما يمرّ به السوريون الثوار، فنحن شعب ثائر؟.. أين الخطأ؟
س.ق. “أولا هناك حقيقة أنّ سوريا قالت لا للأمريكان وهي تدعم المقاومة في لبنان وفلسطين. هذه حقائق تاريخية. ولكن هل يكفي هذا لاتخاذ موقف كهذا من سوريا؟ لا. عيب وحرام. بالمناسبة، أنا أول من ذهب إلى سوريا من فلسطين الداخل، في أيام حافظ الأسد. ورأيت تماثيله في كل مدينة.. فسألت أحد الوزراء هناك لماذا هذا التقديس غير المبرّر لشخصية الزّعيم؟ فهو لم يصنع من البلد دولة صناعية كبرى مثلا ولم يحرّر الجولان… لماذا تصدّر البعث كل شيء في الحياة السورية؟ أنت لا تستطيع أن تكون مدرسًا إذا لم تكن المخابرات راضية عنك. يجب أن نتحلى بالحساسية تجاه هذا الشعب. لا يكفي أن يكون النظام ممانعًا ومقاومًا، أنا يهمّني كيف يعيش ويحسّ 23 مليون سوريّ. الشعب السوري مقموع وخائف وعليه أجهزة مخابرات لا تعدّ ولا تحصى، وهو ليس حرًا. الأحزاب التي كانت في الجبهة الوطنية مثل الحزب الشيوعي والناصري والقومي… كانت في السلطة ولها وزارات، والآن ممنوع إصدار الصحف وممنوع أن ينشطوا بين الجيش وبين الطلاب وبين العمال، فأين سينشطون إذًا؟
“لذلك، فإنّ الموقف السّياسي وحده لا يكفي لتبرير مكابدة الشعب السوري. أنا قلبيا مع بقاء بشار الأسد بشرط أن يحقق الديمقراطية في البلد وتعددية الأحزاب وانتخابات تعددية، ولو قام بذلك لما تنازل عنه الشعب السوري مدى الحياة. لكن اليوم انتهى هذا. اليوم يوجد آلاف الضحايا ودماء. ولكن للأسف الشديد أن النظام لم يحافظ على علاقة إنسانية منفتحة مع شعبه. القذافي كان يسب إسرائيل وعلي عبدالله صالح يسب إسرائيل وصدام حسين كان يسب إسرائيل وأمريكا. هذا الموقف هو أنانية كبيرة منا كفلسطينيين.”
– في نظرة إلى الوراء، هل أنت نادم على علاقتك مع النظام في سوريا؟
س.ق. “أبدًا. أصلا، في بداية العلاقة أنا كتبت أقسى نص يمكن أن يُكتب ضد زعيم عربي. كتبته ضد حافظ الأسد بعد مذابح تل الزعتر والنهر البارد في لبنان. ووصفته بمقولة “حافظ كوهن” (على غرار إيلي كوهن، الجاسوس الإسرائيلي في دمشق- ع.ح.)، ولا أتصور أنّ عربيًا آخر كتب مثل هذا الكلام على رئيس عربيّ. والعراقيون نشروا المادة وعمموها إلى أن أتاني اتصال من باريس. شخص يقول: أنا مدير التلفزيون السوري، السيد الرئيس يريد أن يراك. أهلي قالوا لي إنّ مصيري سيصبح مثل مصير الصدر (الذي اختفى بإيعاز من القذافي- ع.ح.) إذا ذهبت، قلت لهم: أنا لست الصدر وحافظ الأسد ليس معمر القذافي. وذهبت للقائه. قال لي: لا يوجد ضابط سوري لا يحفظ شعرك، وأنا أحفظ شعرك أيضًا. نحن نعتبرك شاعرنا القومي ولديك معلومات خاطئة عما حدث في لبنان. وشرح لي وجهة نظره وقال لي اسأل أبا عمار. سألته واتضح أنّ الكثير مما قاله حافظ الأسد صحيح.”
– مثل ماذا؟
س.ق. “أنه وفر معسكرات تدريب للمقاتلين الفلسطينيين في سوريا التي تحملت كل النفقات. بعد فترة ضُبطت مجموعة من الذين تدرّبوا في هذه المعسكرات، كانت قادمة لاغتيال الأسد. سألت أبا عمار فقال هذا صحيح ولكنني لست من أرسلهم. مع كل ذلك فإنّ هذا لا يبرئ النظام السوري بالمرة. وبعد لقائي به نشأت علاقة شخصية معه. يداي نظيفتان وقسما بالله أنا لم آخذ منهم حتى نفقات سفري. لم آخذ شيئًا من سوريا رغم أنه يمكنني أن أطلب وأن آخذ الملايين. هذا كلام للنشر: أتحدّى أيّ نظام عربي أو مسؤول عربي يقول إننا دفعنا له. ولكن إذا جاءتني جائزة من الكويت، مع أنني لم أكن فيها، فهذا حقي وإذا جاءتني جائزة أدبية من مصر فشكرا جزيلا. طبعًا يستضيفونني ويدفعون نفقات الفندق. ويمكن أن تؤدي العلاقات الشخصية إلى تنمية علاقات أفضل بالنسبة لشعبنا. يوجد عدد هائل من الفلسطينيين في سوريا وما الخطأ إذا كانت علاقاتي الشخصية هناك كعلاقة ندّ وليس كبائع ومشترٍ، تحمل المصلحة لشعبي؟ لم لا؟ أكرّرها: أنا لا أعيش في كوكب آخر، أنا أعيش على الأرض.
“لا، لست نادمًا على علاقتي وصداقتي. أنا آسف أنّ هذا النظام يسقط، لأنه قوميّ وعلمانيّ وتقدميّ ومقاوم، ولكن هذا لا يكفي. الشعب السوري له حق عليّ، برقبتي، ألا أخونه. الشعب السوري ثار من أجل حقوق مشروعة. وأنا نبّهت النظام أكثر من مرة في لقاءات شخصية وكتابات ورسائل، ولكن ماذا أستطيع أن أفعل؟
“أنا حصلت على ثلاث دعوات شخصية للعراق، للمربد، أيام صدام، وكان الجواهري والبياتي يقولان لي: هل ستذهب من دوننا؟ لم أذهب. أنا متضامن مع الشعب. في السنة الأخيرة وصلتني أكثر من دعوة من السودان عبر وزارة الثقافة. رفضت أن أذهب لمباركة تقسيم وتضييع جنوب السودان. أنا أتهمكم بتضييع جنوب السودان. لم أذهب. علاقتي بأيّ نظام محكومة بعلاقتي بالشعب أولا.”
– لا زلت أذكر لليوم صورك أثناء زيارتك لمخيم اليرموك في سورية…
“نعم. الشعب هناك، بلا مؤاخذة، حملني على الأكتاف سبعة كيلومترات. شعبنا الفلسطيني. كان عرسًا. وحضر جورج حبش وأبو علي مصطفى وأحمد جبريل ونايف حواتمة، كل القيادات الفلسطينية التي كانت في سوريا شعرت بانتعاش من جولتي في سوريا.”
تفاصيل الشّاعر
– من بين 60-70 إصدارًا لك حتى اليوم، هل هناك كتاب أو ديوان هو الأحبّ لديك؟
س.ق. “لا. كلّ مجموعة وكتاب صدر في مرحلته وكان له دوره في تلك المرحلة. وتجد شعراء مثلا يصدرون الأعمال الكاملة ويتجاهلون المجموعة الأولى. أنا لم أتجاهل مجموعتي الأولى “مواكب الشمس”، مع أنها كانت ساذجة من ناحية فنية. قصائد كتبها ابن 12 و13 و15 عامًا، من الطبيعي أن تكون فيها سذاجة لكن فيها صدقًا وعفوية لم أتنازل عنهما. واكتشفت أيضًا أمورًا مثل قصيدة “ليست جميلة”، ساذجة ولكن فيها شيء خاصّ.. كان أبناء جيلي جميعهم يتغزلون ويبحثون عن المرأة الجميلة، ولكن شابًا في السابعة عشرة من عمره يقول لهم: وما لها غير الجميلة؟ هي إنسانة أيضًا ومن حقها أن تُحِب وتُحَب. هذه القصيدة لفتت نظري لاحقًا ربما بعد خمسين عامًا، رغم أنني كتبتها وعمري 17 عامًا ولم يكن ينقصني نساء جميلات من حولي.. هذا نوع من التمرّد على الذائقة والمفاهيم، ثورة إنسانية.”
– لا يمكن إذًا فصل قراءة النص الشعري عن القراءة التاريخية؟ هل هناك شعر مطلق؟
س.ق. “لا، لا يمكن. لا يوجد شعر مطلق. الحديث عن هذا فيه سذاجة وربما نوع من الجهل والغباء. عن أيّ مطلق يتحدثون؟ هل سيكون ما كتبته وعمري 17 عامًا مشابهًا لما كتبته في السبعين من العمر؟ خذ أدونيس مثلا الذي يتكلم عن المطلق، هل قصائده في “مهيار” مثل قصائده الأخرى؟.. هذا حكي فاضي. لا يوجد شيء مطلق. الإنسان جزء عضوي من كون، حالة الطقس تؤثر عليه، وهذه العقلية الأبيقورية من الانقطاع عن العالم والذاتية والفردانية غير منطقية وغير واقعية وغير إنسانية حتى. الحياة مراحل والشاعر يمرّ بهذه المراحل ويكتب عنها. فرامبو مثلا، لو لم يذهب إلى اليمن ويعمل في تجارة الأسلحة ويعش مع البحارة لم يكن ليكتب ما كتب. شعره نتاج حياته وليس نتاج ثقافته. لا يوجد شعر ناتج عن الثقافة فقط؛ هناك الثقافة والحياة. تقرأ الصوفيين والديانات وكل ما تريد، لكن يظلّ الانخراط والتورط في الحياة يفرضان نفسيهما. أعجبتني كاتبة أمريكية، أعتقد أنها توني موريسون حائزة نوبل، حين قالت: لا أتخيل مبدعًا غير مُسيّس. كيف يمكن ذلك؟ أن يدير ظهره للعالم؟ ألم يقل ماركس: ليس لي قفا ثور لأديره للعالم. السؤال ليس في وجود السياسة، بل كيف يتم التعبير عن الموقف السياسي.
“خذ القطعة التي قرأتها (عن مجزرة قانا)، كان يمكن أن أكون أنا ضد الاحتلال وضد الغزو الإسرائيلي، ولكن هذا كلام عاديّ. على الشاعر أن يعبر عن الموقف السياسي بالأدوات الشعرية الخاصة.”
– حين ينتصر السياسي يخسر الشعر.
س.ق. “يخسر الشاعر بلا شك. لا أريد أن أعطي أمثلة لأنّ جميعهم أصدقائي ولكن يوجد شعراء جيدون وكانت بداياتهم جميلة جدًا ولكن عندما ابتلعتهم السياسة فقدوا البوصلة وتقلصت شاعريتهم. الشاعر يحس باختلال التوازن بين همّه الشعري وبين السياسة.”
– أنت تلحن وترسم…
س.ق. “(يتعجب بخجل) الصحيح أنّ المرحوم أخي سامي كان عازف عود ومُغنّيًا وكنت أمسك العود وأعزف “سماعي” بلا دراسة، وقصة التلحين نكتة. كان طلاب جامعة حيفا يحضرون لاحتفالية وأنا كتبت لهم كلمات لمسرحية اسمها “دولا”.. دولا حيروني، دولا جننوني.. بدهن نبدل كل النفط بقنينة كوكا كولا… قصيدة ساخرة فيها تلاعب على كلمتي “دولا” و”دولة”. ورغبوا بتلحين الأغنية. كان لي صديق اسمه رجب الصلح، قلت له خذ ولحّن، فقال أنا أعزف ولكنني لا ألحن. فقلت له: تعرف؟ أنا سألحّنها وأنت أكمل. وهكذا حدث. ثم صاروا يغنون الأغنية في الأعراس والمناسبات وسمير الحافظ يغنيها وغيره كثر. ولكنها كانت تجربة عابرة.
“وأنا أحبّ الرسم طبعًا. ولكن هذه الموهبة فطرية ولم أدرسها. ولكنني نادم لأنني لم أدرس الموسيقى والرسم. ولكن ماذا يمكن للمرء أن يفعل؟ الحياة محدودة.”
– لكنك عوضت عن ذلك في الأيقاع والصورة الشعريين.
س.ق. “بلا شك، الشعر ساعدني على تقديم الموسيقى واللوحة.”
– أحيانا يخالك المرء وهو يقرأ شعرك أنك تكتب وبيدك الأخرى تضرب إيقاعًا.
س.ق. “ممكن، ممكن. نعم. كنت مرة مع الجواهري رحمه الله في القاهرة وذهبنا لنتغدّى. ثم بدأ يدندن بصوت عال وبإيقاع حثيث، فقلت له: ما بك؟ شو صابك؟ فقال: “أدندن قصيدة.. أنا أغني القصيدة قبل كتابتها”. يلحنها ثم يكتبها. هذه صفة مشتركة عند الكثير من الشعراء، الهمهمة. نعم، الإيقاع، مع أنّ هذه ليست مسألة سهلة بالمرة.”
– لديك طقوس للكتابة؟
س.ق. “لا. كنت أسخر من الشعراء الذين يتحدثون عن طقوس خاصة. مرة قال شاعر أوروبي: لا أستطيع الكتابة إلا إذا شممت رائحة السّفرجل الفاسد. من أين سآتي له بسفرجل فاسد وأشممه إياه؟.. “عُمرو لا يكتب”! (يضحك) رحمه الله أبو توفيق (نزار قباني) كان يحبّ الكتابة على ورق ملون. أنا في فترة معينة لم أكن أعرف الكتابة إلا بحبر سائل. كنت أخجل من الكتابة بحبر جافّ. ومع مرور الزمن تغيّرتُ، فأحيانا تكون في الطائرة مثلا وتأتيك شطرة وليس معك قلم سائل فتكتبها. لا أحبّ الحديث عن طقوس، ولكن هناك بيئة للكتابة. مثلا بعد منتصف الليل يكون الجميع نيامًا، أدخل المطبخ أو مكتبي هنا أو في الطابق السفلي. في المطبخ أكون بين رائحة القهوة وأصوات أنفاس النيام وقطة تموء في الكرم. يعني أصوات الليل. هذا جوّ جميل جدًا للكتابة. أنا أكتب من منتصف الليل إلى الصباح. وتكلمت في مرات سابقة أنني أودّ الذهاب إلى الشهر العقاري لتطويب لحظات الفجر الأزرق في الصباح الباكر على اسمي. أنا أدّعي أنّ أحدًا في العالم لم يرَ هذه اللحظات مثلي. إنها لحظات قصيرة لا تدوم طويلا، ولكنها من أجمل لحظات الحياة. الانتقال من العتمة إلى الضوء، لحظات ساحرة. كنت في كل يوم تقريبًا، وبشكل لا شعوري أقوم عن الطاولة لأرى زرقة الفجر… لا أسميها طقوسًا، ربما هي العادة أو الظروف.”
– تذكّرني بجملة قلتها “دع القصيدة تأتي إليك”. أنت جاهز دائمًا لاستقبالها، لا تستحم وتتعطر من أجلها.
س.ق. “لا لا أبدًا. رحمه الله أخي محمود كان يصحى في الصباح ويتدوّش ويلبس ويجلس للكتابة. أسأله فيقول لي: لا أعرف إلا هذا. لكلّ إنسان وعاداته. لا أحبّ تسمية الطقوس… يقولون لك لا أعرف الكتابة إلا إذا سمعت موسيقى كلاسيكية. ما هذا الكلام؟.. يمكنني أن أسمع موسيقى كلاسيكية وأكتب ويمكنني أن أسمع أحمد عدوية وأكتب. أحيانًا تجد شعراء أو فنانين يحبون خلق هالة حول أنفسهم بواسطة أمريْن: الحديث عن الطفولة البائسة والحديث عن طقوس العملية الإبداعية. وأنا أصلا لا أحب تعبير “العملية الإبداعية”. فليست كل كتابة عملا إبداعيًا. كلمة إبداع كلمة ليست سهلة، مع أنّ الجميع يستعملها.”
– ماذا يتغير على الإنسان حين يمرض بالسرطان؟ ماذا تعني العلاجات الكيماوية للجسد والروح؟ وماذا يعني أن يصيبك مرض مع احتمال كبير وواقعي بأنك ستموت بعده؟
س.ق. “إذا قلت لك إنّ هذا لم يؤثر عليّ مطلقًا فهذا سيكون كلاما وادعاء غير مبررين. أنا لا أدعي البطولة، ولكن أنا لي قناعات وإيمان. قناعاتي أنّه لا يوجد إنسان يحق له أن يقول “لا، يحدث مع غيري ولا يحدث معي”. الإنسان معرّض لكل شيء. كان نوع من المفاجأة حين يقول لك الطبيب إنّ عندك ورمًا خبيثًا، لكن السّؤال يظل في رد الفعل. وردّ فعلي العفوي كان: سرطان؟.. أنا لا أحب ثمار البحر، أريد سمكًا. وهو تفاجأ أيضًا. هل تعلم أنّ كل شخص ثالث في البلاد إما مريض بالسّرطان أو معرض له؟ وأنا أعيش هنا وجزء من هذا. يجب أن آخذ الأمور بروح رياضية وبواقعية ومن دون جبن. ليس عيبًا أن أقول إنني لست جبانًا. لم أكن جبانا في حياتي ولا أريد أن أصير في نهاية عمري جبانًا. وخاطبت الموت:
“أنا لا أحبك يا موت/ لكنني لا أخافك..
“لست خائفًا… أنا لا أعرف حتى أسماء الأدوية. لولا زوجتي لا أعرف شيئًا ولا آخذ الأدوية. لا أذهب إلى مواعيد الفحص لولاها. المرض صعب، يُربك حياتك بلا شك. إلى أيّ مدى؟.. هذا يتوقف عليك وعلى معنوياتك وإيمانك.”
– هناك من يرى أنّ المرض نوع من أنواع الإهانة للجسم.
س.ق. “أنظر. لا أريد أن أسميها إهانة. هي إرباك… لكن لم ينكسر فيّ شيء. وحين أذهب للعلاج يستقبلني المرضى والممرضات والأطباء بشكل استثنائيّ جدًا وبروح طيبة ومداعبة ومزاح. لم أنكسر. ولكن التوى فيّ شيء ما، بلا شك. أنا مَن كنت دائم السّفر أعتذر الآن عن الدعوات. هناك التواء، ولكن هناك قناعة أيضًا بأنّ هذه طبيعة الحياة. فمن غير المعقول ألا أكون عرضة للمرض أو لحادث طرق أو طائرة وأنا في الثانية والسبعين من عمري… لكنّ داخلي لم ينكسر.”
– هل تنظر إلى الوراء وتستعرض شريط حياتك؟.. نوستالجيا ربما؟
س.ق. “ربما أكون اهتممتُ بطباعة السيرة في ضمن هذا الإطار. نوع من ترتيب الطاولة وأوراقي. طبعًا الإنسان يعود أحيانًا إلى أمور في حياته. ففي كل ليلة رأس سنة كان محمود يسهر معي، إما في البيت عند أهلي أو في نادٍ ليليّ. وحتى بعد خروجه وبعد أن اختلفنا ثم اصطلحنا، ظللنا نلتقي ونسهر في عيد ميلاده وعيد ميلادي. وفي ليلة رأس السنة بعد وفاته فتحت التليفون وطلبت رقمه. كان لديّ إحساس بأنه سيردّ. حتى زوجتي تفاجأت، سألتني بمن تتصل، قلت: بمحمود. لكنه لم يردّ.
“حياة طويلة وعريضة وعميقة وفيها عواصف وزوابع… لا أذكر أنني قمت بشيء يسيء لربنا أو الناس أو المجتمع. حتى من كانوا يسيئون لي يتفاجأون بردّ فعلي. بلا حقد. أحيانًا أتذكر ثلاثة أو أربعة أشخاص أساؤوا لي كثيرًا.. قسمًا بالله ماتوا ميتة شنيعة وفي سنّ مبكرة! عندما أسمع أنّ فلانًا مات أُصاب بقشعريرة. يدهمني توبيخ ضمير وكأنّ هذا بسببي.”
– وماذا مع الله؟
“الله بالنسبة لي ليس من يتحدّثون عنه في الكتب الدينية. يوجد قانون علميّ: لا شيء يأتي من لا شيء. وهذا الكون الهائل جاء من شيء، هناك شيء أبدعه. هذا الشيء بعض الناس يسمونه “الله” وآخرون يسمونه “إلوهيم” وناس يسمونه God وغيرها.. يسألونني: من صنع الله؟ أجيب: هذا “الله” اللا نهائي أكبر من أن أستطيع إدراكه كإنسان. أنا أسمّيه الله ولكنني لا أتعامل معه كما يتعاملون معه كعقاب وثواب. لا، الله أعقل من هذا. ثم هل لديه الوقت لمراقبة 7 مليارات إنسان وفتح دفتر لكلّ واحد؟ لا، الأمور ليست كذلك. ولكنّ هذا الشيء الخالق اللامحدود واللامُدرَك هو الله بالنسبة لي وأومن به، ولكن ليس بطرائق الأديان. قوة الإيمان وقوة الحياة هما ما يثبتانني في الحياة. والعمل. ما زلت أكتب وأجري مقابلة معك، ومن يومين أو ثلاثة اتصلت صاحبة محمود درويش الحقيقية (اليهودية) التي كان يريد الزواج منها، وجاءت لزيارتي. لديها منه رسائل جميلة واقترحت عليها إصدارها في كتاب. ما زال في الحياة ما نعمله.
“ما أتأمله الآن أن لا أصير مُقعدًا. أفضّل الموت على ذلك… ولا أريد أن أفقد وعيي. أعوذ بالله.”
– من هم أصدقاؤك؟ من تستشير؟ من يقرأ مخطوطاتك قبل النشر؟
س.ق. “بطبيعتي لديّ أمران يبدو أنهما متناقضان جدًا. أنا أحبّ الناس والمجتمع، وفي الوقت نفسه أنا ذاتيّ جدًا. يمكني أن أكون حاضرًا بين ألف إنسان وأكون وحدي. وتطوّرت عندي قدرة بمرور الزمن حيث يمكنني أن أنظر إلى إنسان وألا أراه. ويمكن أن أصغي إلى إنسان ولا أسمعه. وبشكل عام أنا أحبّ الناس وأحبّ تبادل الزيارات معهم، وبالنسبة للشعر فربما يوجد الكثير من الأنانية أو الفردية، فلم أحبّ يومًا أن أقرأ قصيدة جديدة لأصدقاء. الوحيد الذي كان كذلك، بحكم حياتنا المشتركة، هو محمود. أقرأ له ويقرأ لي. لكنني لا أشعر بحاجة لأن يسمع شخص ما ويقول رأيه. أنا أعيد القراءة مرة واثنتين، ولا أغيّر كثيرًا. قد أغيّر من مئة صفحة أربع أو خمس كلمات. يمكنني أن أشطب صورة بدلا من أخرى. هذا عمل فرديّ وشخصي جدًا، بيني وبين نفسي.”
– هل صحيح أنّ الكتابة تصبح أصعب كلما تقدّم المرء بالعمر؟
س.ق. “الكتابة دائمًا سهلة وجميلة. الصعوبة تكمن في ما قبل الكتابة. اللحظة التي تكتمل لديك صورة فتكتبها، من أجمل لحظات الحياة. عملية خلق بكل معنى الكلمة. هكذا كتبت لمرض السرطان:
“إشرب فنجان القهوة يا مرض السرطان،
إشرب كي أقرأ بختك في الفنجان،
إشرب…
“وأنا أكتبها أكون مبسوطًا ومنسجمًا، ولكن قبل الكتابة يكون الواحد في نقاش بينه وبين نفسه: ماذا سأفعل به هذا مرض السرطان؟ هل سيكسرني أم أكسره؟ كيف سأتعامل معه؟ هناك أسئلة صعبة، ولكن عندما تصل إلى لحظة الكتابة مع فكرة وموقف في لا وعيك ووعيك، وتضع ذلك على الورقة، تكون لحظة ممتعة وسهلة جدًا. إرهاصات القصيدة أصعب من القصيدة، فحين تنضج تصبح متعة جميلة جدًا. لا يمكن أصلا أن أباشر الكتابة قبل أن تكون القصيدة جاهزة.”
– أنت عمليًا تقوم بعملية تحرير النص قبل كتابته.
س.ق. “طبعًا. أعيد الصورة والفكرة والبيت أكثر من مرة في مخيلتي، ومن الممكن تغيير بعض الكلمات، ولكنني أفضل تحرير النصّ قبل الكتابة. بعد الكتابة يمكنك أن تكتشف بعض الأمور الصغيرة، مش مشكلة.”
– ما هي متع الحياة الصغيرة؟ أنا أعرف أنك تحبّ لعبة “المحبوسة”…
س.ق. “(يضحك) لا أعرف من ألعاب الطاولة إلا لعبة المحبوسة. أحبّ أن ألعبها مع أصدقاء ومعارف. كنت ألعبها مع محمود رحمه الله ومع أدونيس أطال الله بعمره، ومع صليبا خميس وحنا أبو حنا.. مع الأصدقاء المقرّبين. ألعب “الترنيب” (الوِست) من ألعاب الشدّة. يجتمع الأصدقاء ونلعب ونتسلى. في شبابي كنت أحبّ السّينما كثيرًا. كنت أقول لمحمود: يوجد فيلم جديد. يقول لي: أنا أريد الذهاب إلى البحر. هو يذهب للبحر وأنا لمشاهدة الفيلم الجديد. كتبت زاوية في “الاتحاد” وقتها كان اسمها “سينَماذا”… كنت أكتب تعليقات عن آخر الأفلام التي كنت أشاهدها.”
– ما هي أفلامك المحببة؟
س.ق. “لا أريد أن أتحدّث عن الأفلام الكبيرة والمعروفة، ولكن أذكر بشكل خاص فيلم “إنهم يطلقون النار على الخيول، أليس كذلك؟” (They Shoot Horses, Don’t They?). فيلم مدهش في إنسانيته وعمقه. ولذلك بعد مشاهدة هذا الفيلم بفترة دعوني إلى مهرجان دوليّ ضدّ الرّقابة على الأدب في بريطانيا وطلبوا أن اقترح عليهم شعارًا للمهرجان كما طلبوا من كلّ الضيوف. قلت لهم اقترح شعارًا بسيطًا: They Shoot Writers, Don’t They. تبنوه رأسًا كشعار للمهرجان.”
رغم العلاجات الأسبوعية والإرهاق الذي ينتاب الجسد بعدها، إلا أنّ القاسم يستعيد نشاطه بين وجبة علاج وأخرى، ويتابع الأخبار وتفاصيل الحياة. حتى في هذه اللحظات الحرجة من حياة أيّ إنسان يختار الحيّز العام على الصّومعة. قد يكون توق الشّاعر للعلن، للاختلاط وجسّ النبض والتيقظ الدائم لاستقبال القصيدة. وقد يكون سميح القاسم معجونًا بهذه الرغبة للبقاء في صورة الحدث، بعد حياة طويلة وعريضة كالتي عاشها ويعيشها وسيعيشها. لا أعرف. تراه يحيط نفسه بالكتب من كلّ جانب. يقرأ بنهم ويتابع ويتشبث بالنصّ كما لو أنه بدأ للتوّ.
في لحظة صافية لا أعرف إذا كانت مستسلمة أم مقاوِمة، يقول بهدوء: “الآن، تبقّتْ لي القراءة”.
(شباط- آذار 2012)
[1] القاسم سميح، “إنها مجرد منفضة”، دار راية للنشر، الطبعة الأولى، حيفا 2011.
[2] سورة هود، الآية 118.
[3] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. سورة الحجرات، الآية 13.
[4] أبو العلاء المعري.
[5] “لا تقبروني إنّ قبري محرّم / عليكم ولكنّ خامري أم عامر”.
[6] القاسم سميح، “ملعقة سم صغيرة ثلاث مرات يوميًا”، منشورات دار الحقيقة، كفرياسيف، الطبعة الأولى، 2011.
[7] قال الشيخ عبد الباري الزمزمي، رئيس الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في فقه النوازل، إنّ الدين الإسلامي يبيح ممارسة الجنس على الجثث، بشرط إذا كان الطرفان يربطهما عقد القران قبل الموت. وأضاف الزمزمي أنه لا حرج إذا أراد الرجل/ الزوج ممارسة الجنس مع جثة زوجته بعد ساعات من موتها، معتبرا أنّ الدين الإسلامي لم يحرمه على الأزواج، مبررا موقفه بالقول إن الزوجة حلال لزوجها حتى بعد مماتها، وأن الموت لا يفسخ العلاقة الزوجية، باعتبار أنه جاء في القرآن أن الزوج والزوجة يمكن أن يكونا في الجنة معا، أي بعد الموت، حسب تعبيره…
[8] سورة التوبة، الآية 105.
[9] القاسم سميح، “عجائب قانا الجديدة..” (سربية)، منشورات إضاءات، 2006.
[10] المقصود حملة “عناقيد الغضب” عام 1996 التي قادها رئيس الحكومة الإسرائيليّ آنذاك، شمعون بيرس، وارتكابه مجزرة قانا التي راح ضحيتها 106 قتلى من الأطفال والنساء والرجال.
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 19 أيلول 2012)