الخيمة
أمعن الأب النظر إلى السماء، فاقترب حماده منه وغمره سيل جارف من الفرح حين رفع الأب ذراعه وسمح لحماده بالدخول تحتها، فالتصق بجسد أبيه الذي يبثّ رائحة الرجال، ثم سمع أباه وهو يشير بيده صوب السماء ويسأل: “وهاظ اللي بعيد هناك، شو إسمو؟”
علاء حليحل
بدأت الساحة المتربة بالتحوّل إلى ساحة موحلة، وصار اللعب بكرة القدم المرتجلة المصنوعة من القماش في مثل هذا المطر صعبًا للغاية. أسرع حماده تاركًا رفاقه في منتصف لعبة كرة القدم في الساحة المتربة وبدأ يركض نحو الخيمة. كان حماده يحرس المرمى وعندما اختفى فجأة استغلّ المهاجم ابن السّابعة من الخيمة المقابلة أنّ المرمى شاغر فوجّه الكرة نحو المرمى المبني من حجرين وُضعا في طرف الساحة، ليسجّل هدفًا سهلاً وسريعًا. في تلك اللحظة صرخ أكبر الفتيان عمرًا في فريق حماده بأعلى صوته:
“حماده!!”
لكنّ حماده كان قد ابتعد عن الساحة الموحلة ليدخل في الطريق الضيقة بين الخيم الكبيرة التي أطلق عليها سكان المخيم “شارع يافا”. من “شارع يافا” توجّه حماده راكضًا والمطر يبلله نحو “شارع الكويكات” ثم نحو “شارع المَجدل”، لينتهي ركضه أمام خيمة كبيرة في “شارع قديتا”. كان سكان المخيم يطلقون أسماء القرى والمدن على الممرّات الضيقة، وفق المكان الذي أتى منه ساكنو الخيم في كلّ ممرّ. علا اللغط من داخل الخيمة، ثم رأى أخته نجاح ابنة الثانية عشرة تخرج من الخيمة مُسرعة وبيدها جردل معدنيّ مملوء بالماء، لتبتعد قليلا عن مدخل الخيمة حيث أفرغت المياه التي تجمّعت في الجردل، وعادت أدراجها نحو حماده الذي كان يقف عند مدخل الخيمة من دون أن يدخلها، قائلة له بتأفف وهي تنظر إلى الخيمة:
“كمان مرَّه…”
تردّد حماده قبل أن يلحق بنجاح ولكنه في النهاية، واتقاءً للمطر الذي أخذ يشتدّ، دلف إلى الخيمة ببطء وحذر ليرى والده يقف في طرف الخيمة البعيد ويحاول إزاحة الجردل الفارغ ليضعه تحت سيل الماء الذي كان ينهمر من ثقب في سقف الخيمة. كانت والدته وأخوته الثلاثة الآخرون يجلسون صامتين في الزاوية، يحاولون تصنع الهدوء قدر المستطاع، تفاديًا لغضب والده الشهير بسرعة تعكّر مزاجه. حين نظر الوالد صوب حماده، صرخ باتجاهه:
“وين كاين؟”
“بالملعب.”
“كل النهار بالملعب. إفتحلك شي كتاب!”
“فش كتب بالمخيم…”
“أقعد بالزاوية!”
إستجاب حماده لطلب والده الحادّ والنهائيّ وحشر نفسه بين أخوته الصغار الملتصقين بأمهم، ملاذ العائلة حين يغضب الأب. مسحت أمه على رأسه بحنان، فرفع رأسه ليجدها تبتسم له.
“كمان مره؟” سأل حماده وهو يعرف الجواب.
نظرت الأم إليه بيأس حائر، ثم مسحت على رأسه مرة أخرى:
“أكلت يمّا؟”
لم يجب حماده الذي نسي تناول وجبة الغداء قبل ساعتيْن، وهي في الواقع وجبة العشاء أيضًا، فنظر ثانية صوب والده. كان الوالد يجلس القرفصاء إلى جانب الجردل الذي أخذ يمتلئ رويدًا رويدًا بالماء، ويلفّ التبغ في ورقة سجائر بيضاء. أشعل السيجارة فسيطرت على الخيمة فورًا رائحة التبغ العربيّ التي يألفها جميع أبناء العائلة، فتزحزح الأطفال قليلا ليبتعدوا عن حضن الأم. كان الجميع يعرف أنّ إشعال السيجارة مؤشر واضح على انتهاء موجة غضب الوالد، وهي إشارة للجميع بالعودة إلى الحياة الطبيعية. قام الأطفال الثلاثة وتفرّقوا في الخيمة بحذر كبير، فيما أخذت نجاح ترتب الفراش والفرشات في الخيمة التي بعثرتها هي وأمها بسرعة بعيدًا عن الثقب الذي انهمر منه الماء.
قام حماده وجلس إلى جانب الأب. مسح الأب شعر حماده برفق وهو يدخن، ثم سأله بحنوّ:
“أكلت؟”
لم يجب حماده لأنه لم يرغب بإغضاب الأب ثانية، حيث ينسى مرارًا تناول الطعام حين يكون مشغولا بلعب كرة القدم، رغم تنبيهات وتحذيرات أبيه وأمه المتكررة والغاضبة. لكنه لم يرغب بالكذب أيضًا، لأنّ الكذب سيودي به إلى الجحيم قطعًا، حسبما نبّهته أمه مرارًا، أيضًا.
“يا عرص!” قال الأب بغضب مفتعل لم يستطع إقناع حماده، رغم أنّ الأب دفع رأس حماده إلى الأسفل حتى أحسّ حماده بأنّ رأسه ستلتصق بمعدته الخاوية، لكنه ضحك رغم كلّ شيء وهو يعي أنّ أباه يفتعل الغضب. ضحك الأب فجأة وأمسك بأذن بكره الصغير ابن الثمانية أعوام وهزّها بلطفٍ، فضحك حماده معه.
“حُطيلو يُوكل”، قال الأب للأم.
“تعال.”
قام حماده إلى طرف الخيمة حيث غطت والدته طنجرة حديدية بغطاء ثقيل، فلما رفعتها تأفف حماده:
“دايمًا مجدّرة؟!”
“إحمد ربك وَلا! غيرنا مش طايل الميْ!” نهره الأب.
“لازم نحكي مع المسؤول. ييجي يشوف قصة هالخيمة”، قالت الأم وهي تصبّ المجدرة في الصحن المعدني صدِئ الأطراف.
“ولك قبل تلات أيام صلحها. رجعت انخزقت!”
“شكلها من الكاجا.”
“رايح جاي هالمسؤول على الخيمة”، قال الأب بصوت أكثر انخفاضًا، ولم يرَ وجه الأم وهو يتضرّج احمرارًا.
هزّ الأب رأسه ثم وقف وألقى عقب السيجارة في الجردل الذي امتلأ حاليًا بالماء، فحمله وخرج به مسرعًا إلى خارج الخيمة، وعاد بعد ثوان بالجردل الفارغ ليضعه تحت الثقب مباشرة. كان صوت الماء المنهمر من الثقب يصدر ضجيجًا معدنيًا مزعجًا، إلا أنّ الأطفال الثلاثة كانوا يعتقدون أنه مُسلٍّ وجميل. عندما جلس الأب بجانب الجردل رآهم ينظرون بفرح صوب الجردل، فأشار لهم بيده:
“تعالوا…”
هرع الأطفال الثلاثة صوب الجردل وتحلقوا حوله، ثم أخذوا يضحكون ويلعبون لعبتهم المفضلة: كان أحدهم يُمسك بالجردل بيديه الاثنتين فيتغير الصوت الناتج عن ارتطام النقاط بسطح المياه التي في الجردل. وكان الثاني يحاول الإمساك بجميع النقاط المنهمرة من أعلى الخيمة، فيفلح في القبض على بعضها، فيما كان الآخر، ابن الثالثة، يتحلق حول الاثنين ويهتف فرحًا:
“مي مي…”
.
لم يستمرّ هطول المطر لأكثر من ساعة. فنيسان لا يحتمل عادة مثل هذه النزوات الماطرة، وحتى وإن نجح الشتاء في تجاوز سدود وحدود آذار، فإنّ نجاحاته ليست إلا زفرات موته الأخيرة. هكذا، وجد حماده نفسه يستلقي في الليل ويرقب الكواكب التي لمعت بوضوح وصفاءٍ كما تفعل بعد كل مطر وكأنّ المطر يُلمّع لوحًا زجاجيًا هائلاً موجودًا فوق الناس، كي يتسنى لهم رؤية الكواكب اللامعة بثقة. إنه يحفظها عن ظهر قلب: هذا عطارد وهذه الزهرة. لم يكن ليعرف أسماءها وحركاتها (التي يعرف القليل منها فقط) لولا جلوسه الليالي الطويلة مع ابن عمه وديع الذي كان يدرس الجغرافيا والتاريخ في جامعة بيروت ويعود في الصيف ليقضي عطلته مع أهله في قديتا. توجد كواكب داخلية وأخرى خارجية، كان وديع يلقنه كل مرة من جديد. الداخلية هي عطارد، الزهرة، الأرض، والمريخ والخارجية هي المشتري وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتو. كان من الصعب عليه أن يحفظ كل هذه الأسماء، لكنه أُعجب أكثر من أيّ شيء بعطارد والزهرة، فحفظ إسميهما.
بدا وديع في نظر حماده إنسانًا غريبًا دائمًا. فهو يتحدث بكلمات لا يعرفها أهل القرية، ويرتدي ملابس لا يعرف أحد من أين يجلبها، وكان أهل القرية ينتظرون عودته كل صيف كي يتسلوا على ملابسه وكلماته في دواوين وتعاليل الصيف عند البيادر وفوق السطوح وعند العين. لكنّ حماده كان يحبّ وديع، رغم غرابته. كان يلتصق به كلما سنحت الفرصة، وفي حال سمح له وديع بمرافقته في جولته الليلية كان حماده يطلب منه أن ينتظره عشر دقائق. ثم يهرع إلى بيت العائلة عند كرم العنب، وعند وصوله يقف دقيقة أو أكثر ليلتقط أنفاسه أمام البيت، وعندما يستعيد تنسفه العادي يدخل البيت بتثاقل. في تلك اللحظة كان يجد والده دائمًا وبلا استثناء يجلس في زاوية الغرفة الكبيرة، يدخن بصمت ويصغي إلى أحاديث أمه عن مستجدّات النهار. وعندها يقترب حماده من والده ويقبله على خده، ثم يقول وهو يصطنع التثاؤب:
“تصبحوا على خير…”
“تصبح على خير يما”، تجيب الأم من المطبخ وهي تجلب بعض اللبنة المُدَحرَجة المغمسة بزيت الزيتون.
“تصبح على خير يابا”، يجيب الأب.
يدخل حماده وهو يقول:
“أنا نايم على السطح الليلة.”
يخرج حماده من الغرفة إلى الساحة، ثم يعتلي السطح بواسطة السلم الخشبي المرتجل الذي صنعه أبوه قبل سنوات، فيقفز ببراعة من الجهة الأخرى صوب الطريق الترابية خلف البيت، وما هي إلا ثوانٍ حتى يكون قد قطع الطريق كلها صوب التلة المرتفعة بجانب القرية، حتى يلمح شبح وديع وهو يمشي وحيدًا صوب التلة. وعندما يقترب منه يلتقط أنفاسه، ثم يسير إلى جانبه وهو يشعر بأهميةٍ ما تعتريه لمجرد مشيه إلى جانب وديع، لم ينجح في فهم سرّها. كانا يقطعان الدرب الترابي صوب قرية “طيطبا”، ثم “دلاتة” حتى يصلا “الرأس الأحمر”، حيث التلة الكبيرة المشجرة.
في الليل، كان وديع يشرح له حركة الكواكب ودوران الأرض حول محورها، ثم يحكي له قصص الشعوب عن درب التبانة والقمر والشمس والدبيْن، الأصغر والأكبر. كان حماده ينذهل كل مرة من جديد حين يسمع تلك القصص، رغم معرفته بها، لأنّ وديع كان يرويها بشغفٍ وحبٍّ كبيريْن. وفي نهاية كلّ سهرة كهذه، كان وديع يتنهد وهو ينظر إلى القمر ويقول لحماده:
“القمر متل وجه مي.”
لم يتجرّأ حماده على سؤال وديع عمّن تكون مي هذه، لكنه تكهّن بأنه يتحدث عن امرأة يحبها ولا شكّ في أنها تعطيه خدّها من مرة إلى أخرى، كما تفعل أخته نجاح مع ابن الطحّان في اللحظات المسترقة في التبان.
في تلك الليلة، بعد أن توقف المطر ولمعت الكواكب في السّماء، إستلقى حماده وتخيّل وجه مي في القمر الأبيض، تبتسم له بدلال.
.
“مش معقول إنو هاي القطب فتقت لحالها يا أبو حماده”، قال المسؤول عن المخيم بانزعاج، وهو يقف على الجردل المعدنيّ ويتأمل الثقب في أعلى سقف الخيمة.
“والله حطة إيدك”، قال الأب بتخوّف، ثم نظر صوب الأم بصرامة، فهرعت إلى خارج الخيمة.
“غريبه والله”، تمتم المسؤول عن المخيم، “غريبه”.
“ما غريب إلا الشيطان”، حاول الأب أن يضحك مع هذه الجملة الممجوجة.
“بدها تقطيب من جديد، ما في حكي.”
“الله يكون بعونك”، أجاب الأب بخنوع.
تأمل المسؤول الثقب بتمعّن وساد الصمت الخيمة لدقائق. دخلت الأم الخيمة بسرعة وهي تحمل كوبًا من الشاي البنيّ الغامق.
“تفضل”، قالت الأم وهي تُعطي الكوب لزوجها الذي عبس في وجهها فهرعت إلى الجهة الأخرى من الخيمة وانزوت مع الأطفال.
“تفضل”، قال الأب رافعًا كوب الشاي للمسؤول.
“شاي”، قال المسؤول بتعجّب، “صاير غني أبو حماده”.
ضحك أبو حماده ضحكة صادقة من مجرد وصفه بالغنيّ، فتدارك:
“كلو من خيرك وخير الوكالة.”
لم يقصد أن تُفهم جملته على أنها ساخرة أو ناقدة، بل على العكس، أراد لها أن تكون ممتنة امتنانًا حقيقيًا للمسؤول ولوكالة الأونروا التي ترعاه وترعى باقي اللاجئين.
“مالها الوكالة يا أبو حماده؟”
“ملهاش! والله ملهاش! كل خير.. كل خير”، تمتم الأب الكلمات الأخيرة وهو يعرف أنّ المسؤول أساء فهمه. فاستمرّ متحمسًا:
“والله لولا الوكالة إلا نموت من الجوع!”
نزل المسؤول عن الجردل وأخذ كوب الشاي من يده وارتشف رشفة خفيفة، فهزّ رأسه بإعجاب ونظر إلى الأم المنزوية مع أطفالها، فأخفضت إم حماده عينيها فورًا، خجلا وخوفًا.
“يعني اليوم بتتصلح إنشالله؟” سارع أبو حماده وهو ينظر إلى زوجته بغضب.
“قول انشالله”، قال المسؤول وهو يرتشف الشاي بهدوء.
“إنشالله”، قال أبو حماده بصدق.
أسرع المسؤول في رتق الخيمة بمهارة والكل يرقبه ثم تناول كأس الشاي. تمهل المسؤول في شرب الشاي أيّما تمهّل، حتى إنه في منتصف ارتشافه للشاي قعد على الفراش وأخذ يبتسم باتجاه الأم والأطفال في الزاوية الأخرى. كان أبو حماده مضطربًا، وأخذ يفتل شاربه بأصبعه الأصفر بفعل النيكوتين والسجائر العربية التي يلفها، وهو يرمق زوجته بنظرة قاتلة ودّت لو أنها تُصاب بالعمى للتوّ على أن تتلقاها مباشرة من عينيه. كان المسؤول يرتشف الشاي ببطء وببعض “الغلاسة”، إلى أن قام حماده ووقف بقربه ومدّ يده إلى المسؤول سائلا:
“خلصت عمو؟”
لم يفهم المسؤول ما قصده حماده في البداية، ولكن يد حماده ظلت ممدودة حتى منتصف الطريق بينه وبين كوب الشاي الذي كان يحمله، فأحسّ المسؤول للحظة بأنه غير مرغوب به في الخيمة، خصوصًا أنّ الأب لم يبادر إلى نهر الفتى أو ردعه عن حركته هذه، فمدّ المسؤول كوب الشاي الممتلئ حتى نصفه إلى حماده، ثم ليقف بسرعة ويتنحنح.
“بكير”، قال أبو حماده وهو يقف إلى جانبه.
“ألحق أمرق عالخيم. بخاطركو.”
خرج المسؤول مهرولا، ولكنه لم ينسَ أن يرمق الأم بنظرة خفية بطرف عينه، فقامت الأم بحركة لا إرادية بجمع فستانها على جسدها باضطراب وعجز. عندما خرج المسؤول تقدم الأب نحو الأم مسرعًا وصفعها على وجهها صفعة قوية، فصرخت نجاح برعب!
.
بعد ثلاثة أيام أمطرت ثانية. تردّد في المخيم أنّ نيسان هذه السنة أقوى من السنوات الماضية. فقبل سنتين كانوا يحرسون زرعهم الأخضر السّاعي إلى نضج صيفيّ أصفر، ولم يذكروا أنّ نيسان أمطر كما يمطر الآن. “عم ببكي علينا”، كانت بعض العجائز تردّد من مرة إلى أخرى وهنّ يجلسن في مدخل الخيم يرقبن المطر المنهمر الذي يحوّل المخيم في كلّ مرة إلى مستنقع رطب ثقيل.
لكنّ أبو حماده لم يتوجه إلى المسؤول هذه المرة. فقد نجح في المرة السابقة بمراقبته جيدًا وبمراقبة طريقة قطبه للثقب، ثم نجح أيضًا، حين كان المسؤول يحتسي الشاي بهدوء في الخيمة وهو ينظر إلى إم حماده، بسرقة خيط طويل وإبرة غليظة من كيس العدة الذي يحمله المسؤول وهو يجوب المخيم لإصلاح ما يجب إصلاحه. عندما دخل حماده الخيمة راكضًا وعلائم الخوف تبدو على وجهه، وجد أباه وهو يقف على الجردل يقطب الثقب وهو يدندن بفرح:
“شَنيورك نفّس لِعْجال…”[1]
كانت أمه ونجاح وأخوته الأطفال الثلاثة يجلسون في الطرف الآخر ولا يبدو أنهم يخشون غضب الأب. كانت الأم تُجدّل شعر نجاح والأطفال الثلاثة يدورون حول إحدى الفرشات التي قُلبت بعد انهمار الماء. جلس حمادة وأخذ يتأمل أباه وهو يرأب الخيمة بتلذذ. حين انتهى نزل عن الجردل، لفّ لنفسه سيجارة وأخذ يتأمل الثقب الذي انسدّ بإحكام وتوقف عن الدلف، رغم المطر في الخارج. وفجأة وكأنه تذكّر شيئًا، جلس القرفصاء على الأرض وبعد مجّة طويلة من سيجارته قال:
“هاتي نجاح يابا كباية شاي. ولا يطفحها ابن الكلب!”
هرعت نجاح إلى الخارج، فيما جلس حماده إلى جانب أبيه على الفراش، ولم ينتبه أحد إلى دمعة الأم التي رغرغت في عينها.
“كمان مره؟” سأل حماده بتردّد.
“هالمرة أخيرة”، قال الأب وهو يهزّ رأسه باعتزاز، ثم رفع رأسه ليتأكد من أنّ الرتق متين يسدّ المياه، فلما تأكد فتل شاربه ونظر بزهو نحو إم حماده، التي بادلته نظرة مرتبكة. لم يُزح الأب نظره عن الأم، فتبدل ارتباكها باستحياء شبه طفوليّ كأنها ترى زوجها للمرة الأولى. فتل الأب شاربه وهو ينظر إلى الأم، ثم ابتسم لها.
“قوموا، حماده، خود أخوتك وروحوا إلعبوا بالساحه.”
لم يعترض حماده لأنه كان يحب ترك الخيمة وقضاء وقته في الساحة، خصوصًا أنّ المطر قد توقف الآن. خرج حماده مع الأخوين، فيما حملت نجاح الأخ ابن الثالثة الذي بدأ يضحك لمجرد رؤيته الشمس.
إحمرَّ خدّا الأم احمرارًا ملتهبًا حتى تحوّلا إلى رمانتين مُحمرّتين مثل الرمان الذي كان ينبت على الشجر المحاذي للسِّنسلة المحيطة بساحة البيت في قريتهم. تنحنح الأب، ثم وقف وتوجه إلى مدخل الخيمة. جمع طرفيْ ما يمكن تسميته بالباب وشدّهما إلى بعضهما البعض بإحكام، ثم عاد ليجلس إلى جانب الأم، ملتصقًا بها.
“ما تزعليني بعد اليوم.”
“أنا أزعلك؟ إنتي زلمتي وتاج راسي.”
“الناس عم تنهش فينا زي الكلاب.”
“وشو زنبي أنا؟ شو أعمل؟”
“هاظ المسؤول رح ييجي يوم أكسرلو رقبتو زي ما كسرت رقبة عبد العجّال!”
“عشان يكرتونا من هون! ووين بدنا نروح؟”
“عالطالعه والنازلة بمجّ عليكي!”
“يا أبو حماده خلينا مستورين تنشوف شو بدو يصير معنا.”
“الله كبير… بس لونك ما كنتي حلوة هلقد…”
اشتعلت النيران في وجه إم حماده. أخفضت رأسها حياءً وخفرًا في وجه تبدّل مزاج أبو حماده، وانكمشت في داخلها، فيما كان أبو حماده يلتصق بها.
“أبو حماده… شو في؟” سألت إم حماده بدلال وهي تعرف الجواب.
“من زمان ما بقينا لحالنا”، همس أبو حماده.
إنها همسته التي تعيد إم حماده إلى حبهما المشتعل، الراقص في القلب بعنف مثل الدبكة الشمالية. حين يهمس في أذنها تنسى أنه أبو حماده وأنهما يرعيان خمسة أطافيل وأنهما فقدا كل شيء ملكاه وها هما يقبعان في خيمة عفنة في بلاد لا تحبّهم؛ تنسى كلّ ذلك وتتذكر أنه مصطفى الأكحل، أجمل شباب القرية وأكثرهم صحة وعنفوانًا. حين خطبها كان أطفال القرية يجوبون الأزقة المتربة ويصيحون بفرح: “مصطفى الأكحل تجوّز بدرية اللي بتجنن”. هكذا كان لقبها: “بدرية اللي بتجنن”. وها هو مصطفى الأكحل يزيل عنهما في لحظة كلّ الأتربة التي تجمّعت في القلب والجّسد ويتنفس على رقبتها.
ثم مدّ يده وأراحها على ظهرها، وبدأ يزحف ببطء إلى أسفله، فغمغمت الأم:
“أبو حماده… الدنيا ظو…”
.
عاد حماده متأخرًا تلك الليلة. وجد الجميع نائمين، فدحش نفسه في فراشه وغطى جسده بإحكام. كان تنفسه لا يزال مضطربًا، رغم أنه لم يجرِ أو يركض. أحسّ بثقل الأفكار وأعاد في مخيلته الصفعة التي أنزلها على وجه محمد الطيطباوي، ابن التسعة أعوام، حين قال له إنّ كل رجال المخيم يَمجّون على أمه. شعر حماده ببعض الفخر، لأنه صار رجلاً يدافع عن سمعة أمه، ولكنه تذكّر أنّ أحدًا في قريتهم لم يكن يجرؤ على مثل هذا. كان والده وعائلته من أقوياء البلد، يحمون نساءهم وأطفالهم وأراضيهم بشجاعة كبيرة. منذ أن هربوا في تلك العصرية أحسّ حماده بأنّ أباه مات وبأنّ رجلا آخر حلّ محله. لم تكفِ لغة حماده ابن الثامنة لوصف الشعور الذي ينتابه الآن حول تحوّل أبيه من رجل إلى آخر، ولكنه كان متأكدًا أنه هو، الآن وهنا، سيعيد الهيبة إلى عائلتهم وإلى والده وأمه بقوة الذراع، والصفعة التي أنزلها بذلك الطيطباوي أول المشوار.
بعد ما يقرب النصف ساعة رفع حماده رأسه، ولما تأكّد من نوم الجميع، قام بهدوء وخفة وتوجّه صوب الجانب الآخر من الخيمة، حيث الثقب، وسحب الجردل في طريقه ليضعه على الأرض تحت الثقب ومدّ يديه إلى الأعلى وبدأ بفكّ القطب.
“حماده!!” جاء صوت الأب من ورائه عاليًا مُدوّيًا.
نزل حماده عن الجردل بسرعة فوقع على الأرض، ثم قام بلمح البصر واختفى راكضًا خارج الخيمة من دون أن ينظر جهة أبيه. وقف الأب سريعًا وهمّ باللحاق بحماده، فصرخت الأم من فراشها:
“حرام عليك!”
“يحرّم جلدو!”
“إحكي معو… لونك تحكي معو!”
ركض حمادة بأقصى سرعة حتى قطع المخيم طولاً من أوله إلى نهايته، ثم وجد نفسه يعرج إلى اليمين حيث “ساحة الكويكات” المتربة الكبيرة. توقف عن الركض وتوجّه نحو سياج المخيم بالقرب من الساحة وجلس على مرتفع ترابيّ صغير وأخذ ينظر صوب السماء بصمت.
لم تمرّ أكثر من دقائق حين تفاجأ حمادة وانخلع قلبه وهو يرى أباه يجلس إلى جانبه على الأرض، من دون أن يشعر بمجيئه بتاتًا. كان قلب حمادة يخفق بعنفٍ إذ أنّ أباه سيُوسِعه ضربًا كما يفعل حين يرتكب حماده إثمًا كبيرًا، لكنّ الأب أخرج كيس الدخان من جيبه ولفّ لنفسه سيجارة وأشعلها ثم نفث دخانها. إستغرب حماده ما يراه، فخفّ وجيف قلبه قليلاً، ولكنه لم يُزح نظره عن وجه أبيه توقعًا للطمة أو صفعة منه تأتي مباغتة.
“قبل يومين قطبتها”، قال الأب بهدوء.
لم يُجب حماده- فبماذا سيجيب؟
“بلكي شتّت بكرا؟” استمرّ الأب.
“مش رح تشتي”، وجد حماده نفسه يقول، فتندم لحظتها أشدّ الندم.
“نيسان مْفرعِن السنة. شو بعرفك؟”
صمت حماده ثانية. بدا مُحرَجًا الآن أكثر من كونه خائفًا. نظر صوب الجهة التي ينظر إليها الأب. الكواكب اللامعة.
“الكواكب”، وجد نفسه يقول فجأة.
نظر أبوه إليه متسائلاً.
“الكواكب، بحبّ أنام وأنا أتطلع عَ الكواكب… وإنتي بتقول إنو ممنوع ننام برّات الخيمة. بَكرَه المخيم!”
أحسّ حماده بسيل حار من الدموع ينهمر من عينه اليمنى، ثم اليسرى. مسح الدموع عن وجهه.
“الكواكب؟ من وينتا بتحبّ الكواكب؟”
“من زمان. وديع علمني عليها.”
“وديع. شو علمك؟”
“هاي الزهرة”، قال حماده وهو يشير إلى أعلى السماء، “وهاظ عطارد”، مشيرًا إلى جهة قريبة، “وهاي درب التبانات”، قال وهو يشير إلى جهة بعيدة.
تأمّل الأب السماء بحيرة. أكلّ هذه أسماء للكواكب والنجوم التي يعرفها منذ ولادته والتي نام تحتها طيلة الصيف، سنة بعد أخرى؟
“والقمر بشبه مَي”، قال حماده متحمّسًا.
“مَي؟ مين مَي؟” سأل الأب بخوف.
“حبيبة وديع”، قال حماده بتخوف. أحسّ بأنه أخطأ بتهوّره.
“هاظا الخِرع بعرف يحبّ؟ الحبّ بدّو رجال”- قال أبو حماده ولفّ شاربه بيده غير قادر على التغلب على الابتسامة التي دهمته.
“يعني إنتي بتحبّ إمي؟” تساءل حماده بخوف متشجعًا من ابتسامة أبيه.
نظر الأب إليه متفاجئًا. تطلع إلى وجه ابنه الطفوليّ وشعر بغتة بأنّ حنجرته تثقل وشفتيه ترتجفان. لم يدرِ كيف يجيب على هذا السؤال المباغت:
“إمك مره أخت الرجال. دايري بالها علينا كلنا.”
هزّ حماده رأسه موافقًا. إبتسم لأنّ أمه “أخت الرجال” وتذكر على الفور أخواله الذين لم يرهم منذ شهور طويلة. حين نظر حماده إلى إبيه لم يصدق أنّ ما يلمع في عينيه هو دموع! أبوه يبكي مثله، أبوه القويّ ذو الرهبة. دمعت عينا حماده أيضًا. إنه يبكي الآن لأنّ أباه يبكي. لقد عرف الآن كيف تغير أبوه بعد أن تركوا بيتهم: لقد صار أبوه يبكي.
شعر حماده بحاجة لا تقاوم لاحتضان أبيه، لرمي نفسه في حجره، للنوم هذه الليلة بطولها على صدر أبيه تحت الكواكب. مسح أبو حماده رأس ابنه بعطف وحنوّ. ضحك قليلاً. نظر في عيني ابنه وقال بما يشبه الفخر العارم:
“عم بتصير زلمه.”
إبتسم حماده لهذا الإطراء المباغت وعلى الفور تخيّل نفسه واقفًا على الجردل في الخيمة يقطب الثقب بسهولة وقوة مثلما يفعل أبوه. ثم تشجع أكثر فهمّ بأن يخبر أباه بالصفعة المدوية التي أنزلها بالطيطباوي، إلا أنّ شيئًا ما في تطلع أبيه إلى السماء أوقفه. بدا الأب ساهمًا وكأنه يتفحص من جديد الكواكب التي ظللته منذ ولادته حتى اليوم، ولم يكن يعرف أسماءها. الآن، بعد أن عرف أسماءها، صارت أجمل وأكثر لمعانًا.
أمعن الأب النظر إلى السماء، فاقترب حماده منه وغمره سيل جارف من الفرح حين رفع الأب ذراعه وسمح لحماده بالدخول تحتها، فالتصق بجسد أبيه الذي يبثّ رائحة الرجال، ثم سمع أباه وهو يشير بيده صوب السماء ويسأل:
“وهاظ اللي بعيد هناك، شو إسمو؟”
(شكرًا لأسعد أبو خليل، من حيث لا يدري…)
(من مجموعة “كارلا بروني عشيقتي السرية”، كُتب قديتا، 2012)
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 17 حزيران 2012)