الاقتصاد الثقافي الفلسطيني: مربط الفرس (الجوعانة)
يتجسّد العنصر الاقتصادي المفقود في معادلة الإنتاج الثقافي على اختلافه عبر شقي المعادلة: المنتج والمستهلك. فانعدام التفكير والتخطيط الاقتصاديين لدينا في الفعل الثقافي، أدّى إلى الاعتماد بشكل شبه مطلق على التبرعات والمعونات (الحكومية وغيرها) من أجل توفير “أقلّ قدر من معايير الإنتاج”
علاء حليحل
منذ نكبتنا في العام 1948 ارتبط الفعل الثقافي الفلسطيني، عندنا في الداخل وخارجه، بالابتعاد عن الاقتصاد. وقد تطور هذا الفعل الثقافي في ظلّ العمل التطوّعي والمبدئية والالتزام على أنواعه، حتى غدت كلمة “ملتزم” ومشتقاتها (أغانٍ ملتزمة، أدب ملتزم، فن ملتزم) الهوية الأبرز والأقوى لكلّ فعل ثقافي فلسطيني.
لست بصدد تحليل هذا المصطلح وتبيان مواقع تأثيره على مضامين العمل الثقافي، الإيجابية في معظمها ولا نقاش على ذلك، بل سأعرض في هذه المقالة القصيرة إلى تأثيره على الاقتصاد الثقافي، وهو بنظري تأثير سلبيّ في سياق الاستقلالية الاقتصادية. أقول هذا في مقابل الوعي التام للظروف السياسية القمعية القاهرة التي مرّت بها الأقلية الفلسطينية في البلاد بعد النكبة، مرورًا بالحكم العسكري وبالملاحقات السياسية التي تستمر حتى اليوم بأشكال مستحدثة، واستهداف الثقافة بشكل خاص.
كون الفعل الثقافي الفلسطيني فعلا ملتزمًا عنى للكثيرين، وخصوصًا للحزبيين والسياسيين والمتسيسين، أكثر من أيّ شيء، التطوع. وقد أتى هذا التوجه في نظري من منطلق الأوضاع السياسية الصعبة التي سادت فلسطين التاريخية منذ قبل النكبة وحتى يومنا، وبالتالي “ضرورة التجند” من الجميع، وعلى رأسهم الكتاب والموسيقيين والمسرحيين. هذا ليس أمرًا سيئًا في جوهره، ولا زلنا نقوم به حتى اليوم، ولكنه أدى إلى أزمة حقيقية تتلخص في “العيب” و”العار” إذا ما طلب كاتب مردودًا ماديًا على ظهوره في ندوة أو إذا غنت مغنية ملتزمة في حدث سياسي أو محفل حزبي، ومؤخرًا- في نشاط جمعياتي. هذا البخل الكبير في كلّ ما يتعلق بتمويل الفعل الثقافي والمُنتج الثقافي أدّى إلى حالة من عدم التفرغ لدى المبدع(ة) واضطراره للعمل في أمور أخرى لا شكّ حرمتنا من إنتاجات ومضامين أكثر غنًى وكمًا. كان هذا –ولا يزال- إحدى المشاكل الأكبر في ثقافتنا الفلسطينية، بدأت أساسًا في النكبة، لأنّ دور السينما والصحف والمطابع والكتب في يافا وحيفا والقدس قبل النكبة كانت مصالح تجارية مربحة وكانت في حالة تزايد وازدهار.
كما أدت هذه الظاهرة إلى نشوء معادلة مشوهة مفادها: القيادات والنخب الوطنية تتعامل مع الفعل الثقافي كحالة شؤون اجتماعية تستدعي “التضامن” و”المشاركة” و”الوقوف إلى جانب الفنانين” (بدعوات مجانية طبعًا)، فيما ذوّت صُناع الثقافة الفلسطينية هذا الأمر، وخوفًا من الشعور المهيمن بأنهم يستجدون حقهم الطبيعي في مردود ماديّ، رفضوا هذا الحق. بل وأكثر: تبنوا نموذج فصل الثقافة عن الاقتصاد خوفًا من “التلطخ” بتهمة “الانتفاع” أو “الربح” من الكتب أو الأغاني أو المسرحيات.
يتجسّد العنصر الاقتصادي المفقود في معادلة الإنتاج الثقافي على اختلافه عبر شقي المعادلة: المنتج والمستهلك. فانعدام التفكير والتخطيط الاقتصاديين لدينا في الفعل الثقافي (وفي مجالات أخرى كالعمل والاقتصاد المستقلّ وغيره من المجالات: تشجيع المنتجات المحلية القليلة مثلا.) أدّى إلى الاعتماد بشكل شبه مطلق على التبرعات والمعونات (الحكومية وغيرها) من أجل توفير “أقلّ قدر من معايير الإنتاج”، الأمر الذي أثر على: 1) مهنية ومستوى الإنتاجات والإعمال الفنية، 2) قلة احترام من طرف الجمهور أو القراء أو المستهلكين كردّ فعل على مستويات الإنتاج الفقيرة، 3) عدم التخطيط المستقبلي وانعدام أيّ استراتيجيات تسويق وترويج تكافلية ومشتركة بعيدة الأمد. المُنتج يجد صعوبة قاتلة في تمويل الإنتاج واسترداد المبلغ المستثمَر والاستمرار نحو استثمارات أخرى. كان هذا سيكون متاحًا لو أنّ الجهات المنتجة (على اختلاف تفاصيلها وهوياتها) تتلقى الربح المادي وتستثمره في تطوير الأعمال والتركز في التخطيط المستقبلي، ولو أنّ هيئاتنا الحزبية والمنتخبة والتمثيلية التي ترفع راية الثقافة والهوية والاستقلال الثقافي دعمت الفعل الثقافي حقيقة وعلى أرض الواقع وليس بالشعار الرنان فقط (بعض الاقتراحات: قاعدة مشتركين من كوادر الحزب وقياداته للمسارح أو المجلات الفصلية؛ شراء وترويج ألبومات فلسطينية جديدة؛ فصل محترف أو اثنين وإقامة صندوق ثقافي بمعاشيهما، الخ…).
في المقابل، اعتاد المستهلك من جهته على الارتجال والتفاوتات في مستوى المهنية وعشوائية الاختيارات وانعدام التراتبية الإنتاجية السنوية التي يمكن أن تكفل الركيزة الأهم للعلاقة بين المنتج والمستهلك: الثقة والرغبة في المزيد (أنا أصرّ على استخدام كلمة “مستهلك” و”منتج” من أجل كسر التفكير النمطي الرجعي بأنّ هذه مصطلحات تخص السّوق المالية أو عالم البزنس؛ هذا بالضبط ما يعيق انتقالنا إلى مرحلة الاستقلال الثقافي، إصرارنا على مصطلحات كانت ملائمة (ربما) لسنوات خلت ولم تعد ملائمة اليوم).
وهنا بالذات تبرز الصعوبة الهائلة في الاستغناء عن التمويل الحكومي الرسمي (إلى جانب الإشكاليات الأخرى المطروحة والمرافقة لهذا التمويل)، والجفاء (كأقل ما يُقال) الذي تُقابل فيه حملة المقاطعة الثقافية ضد إسرائيل في الأوساط الفنية والأدبية والثقافية الفلسطينية في إسرائيل. وحتى حين تجري مقاطعة الدولة أو الدعوة لمقاطعة مؤسساتها، فإنّ تجليها الأسطع يتجسد دائمًا في رفض التمويل الحكومي للثقافة كانعكاس للموقف المبدئيّ. في المقابل، لا يمكن تطبيق مظاهر مبدئية أخرى أكثر صعوبة، مثل عدم التحدث بالعبرية أو استهلاك مضامين الدولة وأذرعها في الميديا؛ عدم الاختلاط بالمجتمع اليهودي الإسرائيلي أو إعلان العصيان المدني في الضرائب، رفض العلاج في مستشفيات “صهيونية” أو الإحجام عن تلقي مردودات التأمين الوطني من دولة الاحتلال، وغيرها. لذلك تبقى مسألة التمويل الثقافي الأكثر حضورا وإلحاحًا لأنها التعبير الأوضح عن هذه المسألة والأسهل لدى الشرائح الواسعة، فالثقافة وأهلها في أدنى سلم الأولويات.
من كبير المفارقات المحزنة في هذا المكان والزمان أنّ الخطاب الوطني الفلسطيني المُتقد حافظ على بقائنا وهويتنا، لكنه كان شريكا -من دون أن يقصد- في جعل هذا البقاء منقوصًا ورهينة للأموال الحكومية في فضاء الإنتاج الثقافي.
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 2 نسيان 2012)