خيانة
كنت في قمة سعادتي في تلك اللحظة لأنّ خالد وجد عملا ذلك اليوم وحصل على كمية كبيرة من التفاح وبالتأكيد سيقبض أجرته كاملة. وازدادت فرحتي أكثر لأنّ ياسر عمل كل النهار مثل الحمار ولم يحصل سوى على ليرة واحدة صدئة
علاء حليحل
كنا ياسر ابن صفي وخالد ابن عمي وأنا نقطع طريقنا إلى بلدة الصفصاف في الخامسة صباحًا في أواسط آب من العام 1985، مشيًا على الاقدام. كنتُ عندها في الحادية عشرة من العمر وكنا نتجه إلى الصفصاف المحاذية لقريتي طلبًا للرزق. إذ أنّ فرصة الصيف لم تكن لدينا، نحن أولاد القرية ومن ثم مراهقيها، لم تكن استراحة للترفيه أو للتصييف في أيلات واليونان وربما أوروبا. كنا جميعًا نغتنم هذه الفرصة للعمل في “الحواش” عند جيراننا اليهود من أصحاب البيارات وبساتين الخوخ والأجاص والتفاح.
في ذلك الصباح الحار الملتهب كنا ندور في شوارع البلدة الصغيرة عندما توقف إلى جانبنا تراكتور “فيرچسون” أحمر يقوده نيسان اليهوديّ الأبله. تأملَنا نيسان لبرهة ثم أشار إليّ وإلى ياسر وقال:
“إنتو، بدكو شغل؟”
وأي سؤال هذا؟.. قفز ياسر إلى العربة الصغيرة المجرورة وراء التراكتور الهرم بينما تطلعت أنا إلى نيسان وأشرت مترددًا إلى خالد. خالد ابن عمي كان عندها من “القطع الصغير” بينما كنا، ياسر وأنا من “القطع المتوسط”. خالد ترقى اليوم إلى “القطع المتوسط”، ياسر حافظ على مقاييسه المعتدلة وأنا ترقيت إلى “القطع الكبير”.
“صغير”، أجاب نيسان بعربية تليق بيهودي عراقي آثر العودة إلى أرض الميعاد.
“ولكنه يعمل جيدًا”، توسلتُ.
تطلع نيسان إلى خالد ثانية. في تلك الاثناء كنت أرضخ لضغط رهيب من ياسر تلخّص بحركات سريعة وعنيفة من يده معناها: شو بدك بخالد، تعال…
“لا، أنا بدي اتنين بس”، قال نيسان الأبله واستدار متهيئا للمَسير.
لم أدرِ ما أفعله: خالد أم العمل؟.. نظرت إليه مليًا. كان سيبكي للتوّ.
“إجينا مع بعض”، قال خالد دامعًا.
قفزت أنا بسرعة إلى العربة عندما بدأ التراكتور بالتحرّك، وعيناي لا تفارقانه. استدار خالد وبدأ بالعودة إلى القرية. كان ياسر يتمسّك جيدًا بالعربة الصغيرة محاولا ألا يقع منها عند المطبات والحفر، ووقع على رجلي، عندما اختفى خالد من وراء البيوت.
عندما وصلنا إلى البستان المفترض اتضح أنّ البستان الذي سنقطف ثماره ليس إلا مساحة واسعة من الأعشاب البرية العالية، نمت بينها بصعوبة أشتال من البندورة. واتضح لنا أيضا أننا سنعمل في تعشيب هذه المساحة من الوطن، وحدنا. لم يكن من السّهل علينا اتخاذ القرار بالعمل أم لا. ياسر من جهته فضّل البقاء والعمل بالرغم من صعوبته. أنا اقترحت عليه من جهة أخرى العودة إلى البيت وتناول الزوّادة أمام البريد، ربما تمرّ بعض الفتيات الجميلات. في النهاية استطاع ياسر إقناعي بالعمل وأشعل ذهني بما يمكن أن نفعله بالليرات العشر التي سيتقاضاها كلٌّ منا.
في آخر النهار، وبعد أن عشبنا، ياسر وأنا، 10 أتلام من البندورة المليئة بالاعشاب الضارة المقرفة التي يزيد ارتفاعها عن المتر، أعلمْنا نيسان أننا انتهينا لليوم من العمل، لكنه لم يبدُ أبلهَ بالمرة في تلك الساعة. قال إنه اتفق معنا على تعشيب المساحة كلها ونحن لم ننجز سوى ربع العمل على الأكثر. حاولت اقناعه، مرة بعبريتي المتواضعة آنذاك ومرة بعربيتي الدامعة، بأنّ الانتهاء من تعشيب كلّ هذه المساحة في يوم واحد هو أمر مستحيل، وأنه تلزمنا خمسة أيام لإكمالها على الأقل. في النهاية أعطانا ليرتين للاثنين وأقسم بأنه إذا لم نذهب في الحال فإنه سيقطّعنا إربًا. هاتوا لي ولدًا واحدًا لا يرتعب من يمين كهذه يطلقها أبله!
في طريق العودة والانهاك يؤلم يدينا وقدمينا مرّ بالقرب منا، متوجّهًا إلى القرية، تراكتور يجرّ عربة كبيرة محملة بالتفاح الاحمر ويجلس فيها خالد، ابن عمي، محتضنا سلة زوادته التي ملأها بالتفاح. لوّح إلينا بيده فرحًا فرددتُ له التلويح. كنت في قمة سعادتي في تلك اللحظة لأنّ خالد وجد عملا ذلك اليوم وحصل على كمية كبيرة من التفاح وبالتأكيد سيقبض أجرته كاملة. وازدادت فرحتي أكثر لأنّ ياسر (وأنا، ولكن لم يكن يهمني ذلك في تلك اللحظة) عمل كل النهار مثل الحمار ولم يحصل سوى على ليرة واحدة صدئة. شعور غريب تملكني تلك اللحظة. شعور بالعدل الاجتماعي أو ربما بالعدل الربّاني. نحن تخلينا عن خالد وتركناه يعود إلى القرية من دون أن نصرّ على أن يعمل معنا. الشعور السّيء هذا حملني على التأخر قليلا عن ياسر كأنني كنت أحاول إنكار صلتي بهذا الوغد البائس.
“الله بجازي”، قلتُ وانهمرت الدموع من عينيّ.
لم يبكِ ياسر مثلي في عصر ذلك اليوم الملتهب من أواسط آب، إلا أنه ظلّ يردّد كل الطريق وهو يتوقف بين الفينة والأخرى ليسد الفجوة المتسعة بيننا: “الله بجازي”…
(نُشرت هذه القصة في العدد الأخبر من مجلة “الآداب” في ضمن ملف “القصة العربية الجديدة” وهي من مجموعة “كارلا بروني، عشيقتي السّرية” للكاتب التي ستصدر قريبًا)
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 4 كانون الأول 2011)