شاعر يقاوم الخراب
طه محمد علي شاعر وسيم، جميل، خلاب. إنه من أجمل ما أنتجته مأساة فلسطين: صفّوريّ عنيد لا يخدش هدأة الطبيعة كي لا تنزعج برقوقة حمراء متفتحة
علاء حليحل
من يقرأ طه محمد علي خارج سياج هويته الفلسطينية سيكتشف شاعرًا نادرًا في إنسانيته الشاملة. ومن يقرأه في سياق فلسطينيته سيكتشف شاعرًا فلسطينيًا سار على درب متفردة، طويلة، عنيدة وصادقة: درب الفلسطيني الذي يُحبّ بلا حدود. علمنا طه محمد علي أنّ الشعر يكبُر كلما صغرت كلماته، يتسع كلما ضاقت مجازاته، يحتضن كلما قلّت كلماته.
إنه واحد من مُبشّري الحداثة الفلسطينية وصُنّاعها. طرْقُه لقصيدة النثر والشعر الحديث غير مسبوق في متانته وذكائه. ما جمعه طيلة مسيرته الشعرية لا يُختزل في مشروع واحد. هاكم بعضًا من بصماته: البساطة الهائلة المستندة إلى ذكاء متقد وحادّ؛ سرعة البديهة والدعابة المستفيضة في شعرية فلسطينية تحبّ الحزن (تاريخيًا)؛ سعي مستمرّ نحو تلابيب الفرح الطفوليّ الصّفّوري وإصرار على طفولة لم تستسلم لوهن الجسد؛ شبوبية طاغية في الصياغة والتفكير والمعالجة؛ انسياب رقراق في عناصر القصيدة؛ مداعبة هادئة للنمرة الهائجة.
نهل طه محمد علي من ينابيع الغرب كما الشرق. لم يكن إليوت غريبًا عن المتنبي في وعيه، وتزاوجا دائمًا عند حدود الشرق والغرب المرسومة والمتخيلة. حبه للفنون التشكيلية والشعر الإنجليزي جعلا انحيازه لنفسه وبلده وذكرياته خليطًا متفرّدًا لا يتكرّر من “وسامة الشعر”. طه محمد علي شاعر وسيم، جميل، خلاب. إنه من أجمل ما أنتجته مأساة فلسطين: صفّوريّ عنيد لا يخدش هدأة الطبيعة كي لا تنزعج برقوقة حمراء متفتحة.
لقد كان معلمًا كبيرًا رغم أنه لم يرغب بتعليم أحد، فهو الطالب الأزليّ والقارئ النهم والسّاعي بإصرار نحو جمالية عصيّة. أخال دواوينه كلها تمشي سوية، يدًا بيد في أرجاء صفوريته المفقودة، تبحث عن طنين نحلة تتجوّل في البرية باحثة عن رحيق خاصّ ومميّز تنقله إلى حيث يُخصب الوردة الواحدة والوحيدة. طه محمد علي وردة صفورية وفلسطين، شاعرها المجروح بخفر، الثائر بخجل وتواضع، المتجدّد مثل نهر فائض على جانبيه.
أبكيه اليوم رغم أنّ من مثله لا يعرف طقوس الحزن. بكاؤه على صفورية كان أنشودة للفرح والحياة، ارتكاؤه على ذكرياتها وتفاصيلها وتضاريسها كان كتابًا شاملا من تاريخه وتاريخنا. إنه الحكّاء الشعبي/الفصيح بجدارة. قصائد تروي “قصصًا شعبية” يكتبها بثقافة المُتبحّر الذي صال وجال وعاد إلى البيت كي يروي للعالم القصة الأهمّ. في أحد اللقاءات الصحافية معه قال إنّ صفورية هي “الحنين الأبدي إلى المجهول”. فصفورية وفلسطين تهجّرتا وتبدلتا وتشوّهتا. صارت الذاكرة تنافس الخراب المحيط من كلّ جانب. صارت مجهولاً يأبى التعرف إلى ذاته؛ كيف يمكن للشاعر أن يستعيد صفورية وقد تحوّلت إلى “تسيبوري”؟.. هل هناك وصفة لذلك؟.. في قصيدة “ناقوس” يكتب:
“صفّورية!
ماذا تفعلين هنا
في هذا الليل المجوسيّ
العاكف على ذاته
عكوف القلب على البغضاء…
فأين جواد شرحبيل؟
ماذا صنعت بسيف صلاح الدّين؟
وأين وفود الظاهر؟
أين الجميع؟”
أما في قصيدة “عنبر” فيكتب:
“الأرض خائنة
الأرض لا تحفظ الودّ
والأرض لا تُؤتمن
الأرض مومس
أخذت بيدها السّنين
(…)
تضحك بكلّ اللّغات
وتُلقم خصرها لكلّ وافد”.
من هذا الفلسطيني الذي يقول عن الأرض (أرض فلسطين) إنها مومس؟.. خائنة؟.. من يجرؤ على مثل هذه “الشتيمة” هو الابن الحبيب، يحقّ له ما لا يحقّ لغيره، يحبّ هذه الأرض حدّ الجنون، يغضب منها، يبكي عليها ومعها و”يشتمها” في لحظة حزن وغضب. فلسطين نزلت في شعره من علياء الشعار والمأساة المقدسة إلى التراب والطين والوحل، أرجعها ثانية إلى أبنائها الذين يفتقدونها، سمّاها بأسماء جديدة، لوّنها بألوان زاهية وبهيّة بعدما اكتست بالأسود القاتم.
هذا الرّيفيّ حتى النخاع، كيف حمل مشروع الحداثة وطوّعه ليتغزّل بطقوس وأقاويل القرية الوادعة؟ لقد حوّل الموسيقى الغربية الكلاسيكية التي أحبّها إلى صوت مرافق للجدول والبيادر وقعدات الديوان. وظّف امتداد الشعر الحرّ والحيّ ليكون شاهدًا عربيًا بليغًا فصيحًا وناطقًا رسميًّا باسم “العامية” الشهيّة المِطواعة. قضيته كبيرة لكنّ الإنسان موغل في البساطة:
“أيها السّادة!!
إنّ موكلي لا يعرف شيئًا عن عدوّه!!
وأؤكد لكم،
أنه لو رأى بحارة الإنتربرايز
لقدّم لهم البيض المقليّ،
ولبن الكيس!!”.
كان طه محمد علي شابًا أزليًا وأحبّه الشباب. يردّدون مقاطع من قصائده كما لو أنهم يتغزلون بجسد امرأة ريّانة. يبتسمون ويقولون “ما أحلاه”. في العام 1998 استضافه الفنان التشكيلي شريف واكد في بيته في حيفا في أمسية شعرية له. وقف أمام عشرات الشبان والصبايا وقرأ ما تيسّر من حُسنه الغامر. كانت الألفة والحبّ أبرز ما حضر، وكانت عفويته وبساطته الشخصية طاغيتيْن مثل طغيان قصائده. طه محمد علي من الشعراء الذين تحتفل باكتشافهم؛ تسأل: هل صحيح أنني عشت حتى الآن من دون أن أقرأه؟ هل صحيح أنّ فلسطين بُعثت حية، ضاحكة، مُزهرة، وأنا لم أشارك حتى الآن في رعاية هذه الشجرة المبتسمة؟
قبل عدة سنوات جمعني به لقاء إذاعيّ في إذاعة “الشمس” في الناصرة وسألته: كيف تفسر أنك معروف على نطاق عالميّ وكتبك تُترجم وتُباع ولا نرى هذا الكمّ من الشهرة لك لدينا؟” أجابني فورًا قاطعًا عليّ السؤال: “أبدًا! أنا آخذ كلّ الحب من بلدي وأهلها…” لو كان شاعر آخر بقامته لتبرّم واشتكى، لكنه كان يرى في احتضان قارئ كاحتضان مئة ألف قارئ. في أحد المهرجانات الشعرية جلستُ وأكثر من مئتي كاتب وشاعر نستمع إليه وهو يقرأ “عبدالله ومدللة” و”انتقام” و”عبدالله يحارب دولة عظمى”. كان جمهور الكتاب والشعراء يستمع ويتأثر ويضحك، وإلى جانبي قالت كاتبة أجنبية بحماس: “يا إلهي، من هذا؟”.. قلتُ بفخر لم يُصبني من قبل وأنا أدمع: “هذا طه محمد علي”!
أنا أحبّ طه محمد علي؛ أحبّ “أبو نزار” لأنه علّمني حروفًا جديدة في اللغة وبحورًا خفية في الشعر ومبادئ خافية في الحنين!
سأترك له النهاية فهو أبلغ من يكتبها:
“إن كان ثمّة مدبّرٌ لهذا الكون
بيده البسط والقبض
بأمره يبذر البذار
وبمشيئته يحصد الحصاد
فأنا أصلي له طالباً إليه:
أن يقْدُر أجلي
حين تنضب أيامي
فيما أنا جالسٌ
أحتسي من كوبي المفضل
خفيفٌ شايه
طفيفٌ حلاه
في ظلّ صيفٍ بعد ظُهري الحميم.
وإذا لم يكن شايٌ وظهرٌ
فإبان نومتي العذبة بعيد الفجر.”
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 4 تشرين الأول 2011)