فرويد مات
من أجمل الجُمل التي قالها لوسيان فرويد عن طريقته في العمل تتعلق بسؤال وُجّه إليه يرتبط بالنقطة التي يدرك فيها أنه انتهى من اللوحة: “أشعر بأنّ اللوحة انتهت عندما يتكون لديّ الانطباع بأنني أعمل على لوحة لرسام آخر”
علاء حليحل
هكذا، برمشة عين، مات لوسيان فرويد. سمعتُ بالخبر بعد أيام، ربما بأسبوع. لم يدخل الخبر في دوائر مصادر الأخبار لديّ، وفي كلّ الأحوال لم تطأ قدمي الفرتوالية المواقع الثقافية المحفوظة عندي في “المفضلة” منذ شهرين أو أكثر. حالة جمود في فلاتر الفضول.
قبل أشهر وقفتُ أمام لوحات فرويد (حفيد فرويد الأصليّ) في معرضه المفاجئ في البومبيدو في باريس وتمتعتُ بكامل حواسّي. في تاريخي السّحيق، قبل ألف عام، كنتُ طالبًا للفنون الجميلة، وكنت أقضي أيامي الجامعية برسم الموديلز العُراة والعاريات ونختم اليوم بقعدة بيرة مع المحاضر في ورشات الرّسم والنحت؛ في تلك الأيام كان لوسيان فرويد طاغيًا عليّ (ومعه: أيغون شيليه، ميرو، مونيه ومانيه ويعقوب دورتشين). رسومات الجسد التي كان يرسمها كانت تصدم تفتّح الفنان فيّ، وهو مسؤول –مع جيوكاميتي وبيكاسو وهوكني- عن قراري الشجاع المشهود له محليًا وعالميًا بترك الفن والتفانين بعد إنهاء اللقب الأول، اعترافًا مني بأنّ فشلي في الفنون الجميلة ينافس بتراجيديته فشلي في أكون شاعرًا. وهكذا صرتُ ناثرًا، أكتب النثر وألحس بقايا الإبداع من أصابع لوسيان.
اِحتفل لوسيان بالجّسد الإنساني، لكنه ليس احتفالا سمِجًا، مقدَّسًا، “كيتشيًا”؛ لقد ارتقى لوسيان بالجّسد الإنساني إلى قمة عالية لأنه نزل به إلى القاع. بلا رتوش. الموديلز الذين قضوا ساعات وأيامًا وشهورًا أمام فُرشاته (وفَرشاته) كانوا رجالا ونساءً “غير نموذجيين”: ثخيني الأجساد، مشوّهين قليلا، غريبين وبعيدين كلّ البعد عن حُسن تكويرة الوركيْن في جسم الموديل التي أصوّرها مؤخرًا في دورة التصوير الفوتوغرافي.
أحببتُ رسومات فرويد لأنه كان صاحب مشروع عنيد، مثابر، طموح وغير تقليديّ؛ كان لوسيان يتعامل مع الجسد بنظرة مغايرة، خارج وداخل النظر والتأمل: “لا أرسم الناس بفضل أشكالهم، وليس تمامًا بصرف النظر عن أشكالهم، بل لأجل أشكالهم التي تشكلت بالصّدفة”. هناك فرق كبير بين رسم الأشكال والأجساد كتقنية “نسخ” أو “استنساخ” بجميع التقنيات القديمة والجديدة، وبين رسم “الصدفة” التي جعلت من هذا الجسد كما هو عليه. هذا المنطق يُعفي الرسام والمتلقي والموديل نفسه من “المسؤولية” عن تكوينة الجسد، عن كونه “جميلا” أو “قبيحا”؛ يُعفي الجميع من أيّ حكم أخلاقي أو إستيتيكي (جماليّ) على بطن المرأة الكبيرة أو عضو الرجل المتهدل أو التشويهات في الجلد والبشرة. ولذلك فإنّ رسومات فرويد أكثر قدرة من غيرها على نحت جمال وبشاعة الجسد الإنساني من دون أية ملاحظة أو انطباع جانبييْن حول ماهية هذا الجمال أو هذه البشاعة. إنه فنٌ من دون طوباوية، من دون حشرجات ندم أو تأتأة؛ إنه يرسم “الصدفة” فقط، والجسد ترونه مرافقًا ومحمولا على هذه الصدفة. ومن يستطيع الاعتراض على الصدفة؟.. أليست “حيلة الله في أن يظلّ مجهولا؟” كما قال أحدهم؟
من أجمل الجُمل التي قالها لوسيان فرويد عن طريقته في العمل تتعلق بسؤال وُجّه إليه يرتبط بالنقطة التي يدرك فيها أنه انتهى من اللوحة: “أشعر بأنّ اللوحة انتهت عندما يتكون لديّ الانطباع بأنني أعمل على لوحة لرسام آخر”. مَن طرق هذا النوع من العملية الإبداعية يعرف تمام المعرفة الأهمية الحاسمة لهذا الفهم البسيط للحظة التي يجب التوقف فيها عن العمل على اللوحة (أنا اخترعتُ آلية مفحوصة ومدروسة نشأت من وضعي الاقتصادي المُتبرِّز أثناء دراستي الجامعية: أنتهي من اللوحة عندما تنفد الألوان. وبتفكير مُجدّد: يمكن لهذه الجملة أن تكون بداية الحلّ لمعضلة فشلي في الفنون الجميلة).
لنفس السبب أحبّ شيليه وهوكني. الأول حوّل جسد المرأة إلى مرآة لنفسياتنا التائهة والثاني حوّل جسد الرجل إلى ما هو أكبر من شهوته له كمثليّ. تقلبات وتبدّلات يقوم بها الفن التشكيلي منذ الأزل وحتى الأزل، لكنها كلها تراوح في المساحة الصغيرة بين الخطأ والصواب في تعاملنا مع الجسد الإنسانيّ كمادة خامّ للفنون. في هذه النقطة بالذات عمل فرويد: كان يعمل مراتٍ لأشهر طويلة على لوحة واحدة، يقف أو يستلقي فيها الموديل لخمس أو ست ساعات يوميًا لأشهر طويلة في نفس الوضعية، حتى عندما كان فرويد يعمل على ألوان الكرسي مثلا. كان يتنفس الجسد ويحاول أن يحيطه بكل ما أوتي من القساوة الجميلة.
الفن التشكيلي سيكون أكثر فقرًا اليوم بعد رحيل لوسيان فرويد وسنظلّ فريسة لصرعة الإنستيليشن (الأعمال الإنشائية أو التركيبية) المُملة والمراوحة على حدود التفاهة التي تسيطر اليوم على المشهد الفني. عندما أكبر أريد أن أعلق لوحة للوسيان فرويد في صالة بيتي وأن أدخن الغليون مقابلها. هذا غير متعلق بالكبر وحده، فقط، بل بأن أصبح غنيًا أيضًا. وحول هذه المسألة ثمة حاجة مُلحّة لرثاء آخر.
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 1 آب 2011)