كل عام وأنت بخير، أوسكار وايلد
لا يمكن للمبدع أن يكون جزءًا من المجموع، يجب أن يسلخ نفسه عنه كي يحبه من بعيد، كي ينتقده ويُشرّحه وكي ينصره بأدوات أفضل. هذا ما تركه صديقي أوسكار وايلد لي. هذه وصيته التي قرأتها في كتابات
أوسكار وايلد. “إذا أردت أن تكون محبوبًا كُن من الوسطيين”
علاء حليحل
القليل من الكتب تلك التي يتذكر الواحد منا متى قرأها أول مرة (في باريس)، وقليلة من بينها الكتب التي تتركك صريعًا في الفراش بعد الانتهاء منها، لا ترغب بقراءة أيّ شيءٍ بعدها. “صورة دوريان غراي” (The Picture of Dorian Gray) لأوسكار وايلد هو واحد من هذه الكتب.
قليلون هم الكتاب الذين يَرقون بروح دعابتهم أو ببعض أقوالهم المفذلكة إلى مستوى كتابيّ ودراميّ وفنيّ يجعل من هذه الفذلكات جواهرَ ودررًا تزين التاج الكبير المتقن، ولا تكون التاج نفسه. فالجمل الكثيرة الذكية التي تملأ هذه الرواية تُكسب القراءة فيها، تراكميًا، حالة من الذهول اللذيذ، يتحول إلى خدرٍ ثم إلى استسلام كامل لعبقرية كاتبها.
وُلد أوسكار وايلد في 16 تشرين الأول 1854 في دبلن في إيرلندة وتوفي في 30 تشرين الثاني 1900. ومنذ تشكل وعيه قرر أن يُجاهر بميوله الجنسية المثلية خارجًا بهذا على جميع المعتقدات والأعراف الاجتماعية في إنجلترة آنذلك، التي انتقل إليها وهو في السابعة عشرة من عمره. لم يَخفْ وايلد من هويته الجنسية ومن آرائه الحادة الثاقبة النفاذة، بل ضمّنها في هذه الرواية وفي مسرحياته (أشهرها “مروحة السيدة فندرمير” و”أهمية أن تكون جديًا”) ومقالاته ومسلكياته الاجتماعية. وقد دفع ثمنا لذلك حين اعتقل في 6 نيسان 1895 وقُدم للمحاكمة بعد أربعة أيام، حيث وصف مُدّعي الدولة وايلد بأنه مجرم أفسد الشبيبة “لأنه حوّل الأخلاقيات إلى كلمة مستهجنة، وحوّل “الهودينيّة” (مذهب اللذة) إلى أداة فساد، ودفع عددًا كبيرًا من أبناء الشبيبة إلى ممارسة المثلية بتأثير منه”. وأعلن المُدعي أنّ كتاب “صورة دوريان غراي” هو كتاب مُفسِد وحقير “وقد قرأته بصعوبة بالغة”.
في 25 أيار أدين وايلد بممارسة “اللواط والتسيّب المُطلق” وحُكم بالسجن لسنتين مع الشغل والنفاذ. بعد خروجه من السجن انتقل إلى باريس وتوفي جراء التهاب في غشاء المخ.
كان على دراية بالنفوس الفاعلة من حوله في “المجتمع المخمليّ” الاجتماعيّ والثقافيّ، لدرجة أنه قال عنهم: “لا يوجد ما هو أسوأ من أن يتكلم الناس عنك، سوى أن لا يتكلموا عنك”
لقد كان وايلد كاتبًا بالغ الذكاء شديد اللذع ممُعنًا في الكَلبية الأدبية والاجتماعية؛ في رواية “دوريان غراي” يُشرح وايلد حالة النفاق الاجتماعي والسياسي والأخلاقي التي سادت آنذاك. فعندما تحدث عن رجل سياسة في الرواية كتب عنه: ”لقد اعتزل السلك الدبلوماسي في لحظة غضب لأنهم لم يقترحوا عليه أن يكون سفيرًا في باريس، إذ أنه يعتقد أنه الأحق بهذه الوظيفة نظرًا لأصله وكسله والإنجليزية الجيدة التي يكتب بها برقياته، إلى جانب شهوته الفائقة للملذات”.
لقد احتقر وايلد ثقافة القطيع ورأى في الفردانية المبدعة أصل الأشياء وأهمها: “أن تكون خيّرًا معناه أن تكون في هرمونيا (انسياب) مع نفسك… التنافر ينشأ عندما تُجبَر على أن تكون في هرمونيا مع الآخرين. حياة الإنسان الخاصة هي الأهمّ مطلقًا… الفردانية هي الأسمى. الأخلاقيات العصرية مرهونة بالانصياع لمعايير الفترة التي تحيا فيها. وأنا أرى أنّ رجل الثقافة الذي يقبل بمعايير عصره يتصف بانعدام مُقرف للأخلاق.”
وايلد هو كاتب التفرّد (بمعنى: التميز؛ بمعنى: الفرد) بجدارة. يسأل في دوريان غراي (على لسان اللورد هنري باستخفاف: “إذا أردت أن تكون محبوبًا، فكن من الوسطيين”. إنها الوسطية التي تقتل المبدع، تجعله كائنًا رماديًا غارقًا في “المشهد العام”؛ في “قوانين اللعبة”، في المفاضلة والقياس اللانهائييْن لـ “ما يصحّ ولما لا يصحّ”. إنه كائن غريب، أوسكار وايلد، حادّ وساخر بشكل مؤلم أحيانًا،حتى في تعامله مع النقد الأدبي الذي لم يُنصفه أبدًا وقتها. في ردّ على نقد خبيث كُتب عليه قال: “كلّ نصّ نقديّ هو ما يُشبه السيرة الذاتية لكاتبه، سواءً أكان ممتازًا أم هابطًا”.
إلا أنّ وايلد لم يكن خاليًا من التناقضات. فتفرّده ونظرته المزدرية للمجتمع لم تمنعه من أن يكون شخصية اجتماعية معروفة، نجمًا في عصر لم يعرفوا بعد ما تعنيه هذه الكلمة. كان هندامه أنيقًا إلى أبعد الدرجات وكان يعاقر الخمر والرجال والحياة الثقافية بشهية كبيرة، حتى بعد أن تزوّج. لقد كان على دراية بالنفوس الفاعلة من حوله في “المجتمع المخمليّ” الاجتماعيّ والثقافيّ، لدرجة أنه قال عنهم: “لا يوجد ما هو أسوأ من أن يتكلم الناس عنك، سوى أن لا يتكلموا عنك”. إنها شبه نبوءة صغيرة، متواضعة، سبقت عصر الإعلام والصور والنجوم والتقولات وصناعة الـ “بَزّ” (buzz) الإعلامي.
لقد كان في قمة سخريته ضد المُسلّمات حين رفض ما يدور حوله من تقديس للتجربة والنضوج وما إلى ذلك من الزيف الاجتماعي الذي يلفّ الأوساط التي يدور فيها، حتى كتب: “التجربة تفتقر لأيّ بُعد أخلاقيّ- فهي ليست إلا كلمة يُطلقها الناس على أخطائهم”. ثم هاجم المحافَظَة الاجتماعية وزمَ الشفاه وبرم الأبواز المنافقة التي تدّعي التأدَّب والجِّدية، فكتب: “السبيل الوحيد للانتصار على الشهوة- الاستسلام لها”.
لا يمكن أن يوافق المرء مع جميع ما كتبه وقاله وايلد، خصوصًا في نظرته الطهرانية إلى الفن ودعوته إلى نفيه وتجريده عن أيّ شيء آخر، بمعنى “الفن لأجل الفن”. كتب: “ثمة عالمان فقط: الأول قائم من دون ضرورة التحدث عنه وهو العالم الحقيقي. الثاني هو عالم الفن ويجب أن نتحدث عنه باستمرار وإلا اختفى”. ككاتب يؤمن بالعلاقة الوشائجية العميقة بين الفن والبيئة (الاجتماعية، السياسية، الأخلاقية…) أختلف مع وايلد تمام الاختلاف، وأرى أنه من ضمن تناقضاته اللذيذة أنه خلّف وراءه أدبًا ومسرحًا مُتصليْن اتصالاً وثيقًا بالمجموع والبيئة. أن تكره القطيع لا يعني أن لا تكتب عنه؛ على العكس: كراهيتك له ستطلق العنان للصّدق والحقيقة في نصوصك (ولغضب القطيع وجعاره).
كان ينظر عبره إلى الناس ويرى عبر ملابسهم ووقفاتهم وأحاديثهم الحقيقة المخفية: “غالبية الناس أناس آخرون. أفكارهم أفكار شخص آخر، حيواتهم تقليد، شهواتهم اقتباس.”
لقد صرخ وايلد بنعومته المألوفة ضد الزيف والتزيف، ضد ما سُمي وقتها بـ “الأخلاق الحميدة”: “ليس هناك ما يُسمى كتابًا أخلاقيًا أو غير أخلاقي. يمكن للكتاب أن يكون مكتوبًا بشكل جيد أو بشكل سيء. هذه كلّ القصة.” لم يُحبّ السعي اللاهث للمجتمع من حوله وراء المظاهر والتزيّي: “المُوضة تعبير كريهٍ للبشاعة، لدرجة أننا نضطرّ لتغييرها كلّ ستة أشهر!” على المرء أن يكون بعيدًا عن الحسابات الاجتماعية وعن اللعبة المدروسة والمرسومة سلفًا، عليه أن يخرج ضد الجُبن والاختباء وراء الحياء المصطنع: “الإنسان يعبّر عن نفسه بضآلة عندما يتحدث باسمه الصريح. إمنحوه غطاءً وسيخبركم بالحقيقة.” كان يرى الحياة بمنظار سبق عصره: منظار التعرّي. كان ينظر عبره إلى الناس ويرى عبر ملابسهم ووقفاتهم وأحاديثهم الحقيقة المخفية: “غالبية الناس أناس آخرون. أفكارهم أفكار شخص آخر، حيواتهم تقليد، شهواتهم اقتباس.”
كما أنّ الدين لم ينجُ من براثن هذا الثائر الجميل: “المسيح هو أفضل الأمثلة: حتى عندما يُضحّي المرءُ بحياته فإنه لا يكون مُحقـًّا بالضرورة”.
أنا أحبّ وايلد حبًا جمًا. أعتبره صديقًا شخصيًا. أقرأ له بهدوء، ببطء شديد. أتمتع بكل جملة ونقلة ومزاج. أغفر له تشنجاته وكَلبيّته (الكَلبية: السخرية شديدة النقد، cynicism) الفطرية لأنه سبق عصره. فصل نفسه عن القطيع وأطلّ عليه من بعيد. لا يمكن للمبدع أن يكون جزءًا من المجموع، يجب أن يسلخ نفسه عنه كي يحبّه ويكرهه من بعيد، كي ينتقده ويُشرّحه وكي ينصره بأدوات فنية أفضل. هذا ما تركه وايلد لي. هذه وصيته التي قرأتها في كتاباته. هذا ما أحاول فعله ولمّا أبدأ بعد.
والخاتمة له طبعًا: “من هو الكَلَبيّ؟ إنه الذي يعرف سعر كلّ شيء، ولا يعرف قيمة لأيّ شيء”…
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 16 تشرين الأول 2010)