باب الشمس: كلّ هذه الرومانسية
هكذا تكون العودة إذًا، بخيام جديدة. خيام هي النقيض من الخيام التي اعتادها الفلسطينيون. هذه المرة هم الذين نصبوها وتمسّكوا بها. ليست خيام “الأونروا” وليست خيامًا على طراز “بيروت خيمتنا”. فلسطين خيمتنا (وشكرًا لبيروت). نتمسّك بها ونتشبّث كأنّ الروح تطلع منها وكأنّ الروح تعود إليها.
منذ مبادرة “باب الشمس” و”الكرامة” ارتفع منسوب الرّومانسية في الحَراك الفلسطينيّ. النقاشات والكتابات والستاتوسات، كلها رومانسية وضاجّة بالفرح. كأننا ننتقم من خيامنا السابقة، نقتلها على مذبح الخيام الجديدة. نيّفٌ من الصبايا والشباب يضربون جذورًا من حبّ في جسد فلسطين المُنهَك من الجذور. مُنهك من جذور حبيبة انقلعت ومن جذور حديدية باردة تُغرس فيها بالقوة. المسافر بين الحديد البارد في جسد فلسطين يمرّ على أسطح القرميد في المستوطنات ويبرد مثلها. يشدّ الكنزة على جسده المتشنّج. تنزل من “شارع 6” وتبدأ المسير نحو رام الله عبر بير زيت. المستوطنة “حلميش” تجسّد الخيمة البغيضة بلسانها الشائك الممدود إليك في الطريق إلى العاصمة غير المُتوّجة. تسير بين أكوام المستوطنين وتزكم أنفك رائحة الغربة والنفور. فلسطين كريهة حين تمرّ بين الحديد البارد المنغرس في تربتها الزيتونية. على عكس رائحة “باب الشمس”.
من أين جئتم يا أحباء؟ هل كنا بحاجة إلى سنوات طويلة من الضياع والذلّ والتسليم والركض وراء لا شيء كي تقرّروا أنّ المشكلة فينا بالأساس؟ لم تكن ضيعة “باب الشمس” لتُولد بهذه الرومانسية لو لم يكن الوضع مخزيًا إلى هذه الدرجة. درسٌ في الزراعة: قطعة أرض عطشى، معول وطورية، بضع خيام رخيصة، هتافات عنيدة. هذا كلّ ما تحتاجه كي تغرس زغرودة في فمٍ فلسطينيٍّ عطب. نعم، وشهرين من الشمس الدافئة. أرأيتم؟ كلّ هذه الرومانسية الجديدة لم تكن لولا كلّ هذا الخراب.
2
صبيتان في مركز الصورة. واحدة تُحمَل كي تُطرَد والثانية تصرخ كي تبقى. امرأتان فلسطينيتان لا تعترفان بالتقسيمة التاريخية البغيضة: النساء للبكاء على الشهداء والرجال للاستشهاد أو السّجن. كم اشتقنا إلى مثل هذه الصورة. كم كانت الانتفاضة الأولى رومانسية (نتحسّر الآن). حين اعتقلت إسرائيل وقتها رجال وشباب الوطن، تنظمت نساؤه في جمعيات وحركات شعبية وأدرْنَ شؤون البلد والنضال. لم يكن “الجهاد” وقتها قد استبدل “النضال”، ولم يكن “الاستشهاديّ” طرد “الفدائيّ” من أمام عدسات الكاميرا. كنا شعبًا فدائيًا، نتجاسر على الطائرات النفاثة ونطلق الحجارة من سجّيل. ثم احتار الفيل. كيف لا يحتار وهو لا يقوى على سحق انتفاضة غزيرة، حجرية، رجالية ونسائية، طبيعية إلى هذا الحدّ؟
صبيّتان تفترشان الأرض التي جاءتا لإطعامها تفاحة. قد تكون تفاحة جولانية، من الجولان الشريك (الشقيق) في الاحتلال. وقد تكون تفاحة جليلية نمت عند سفح الجرمق الوحيد. لكنها تفاحة حمراء مثلنا. حمراء مثل دمائنا وحمراء مثل الدبّ الصغير الذي يُربك الناس في عيد العشاق.
المحاولة الثانية كانت أقلّ رومانسية في التسمية: قرية الكرامة. قفزة واضحة في التسميات والتحدّي. حتى الغرف المؤقتة لم تُبنَ بالحجارة المُرتجلة، بل باللبنات الإسمنتية. كأنّنا سنبقى حتمًا رغم أننا عائدون. عائدون إلى أين؟ إلى المكان الذي لم نعُدْ منه. الإسرائيليّ لا يفهم هذه التعقيدات. يقمع الاثنتيْن بنفس الهمجية. هلا تروّيت يا جنديّ فتفهم المعنى، فتقمع بشكل مختلف؟ بين “باب الشمس” و”الكرامة” اختلافات في الدلالة والسياقات. المحاولة الثانية تختلف عن الأولى. لا يمكن الربط بينهما إلا جزافًا. ستقول إنّ “الكرامة” لم تتعلّم من خطأ “باب الشمس” وسنقول لكم: “باب الشمس” تعلمت من الكرامة. لا تفهم أيها الجنديّ؟ صعبة. تعالَ نحاول صياغتها من جديد: رغم أنّ “باب الشمس” سبقت “الكرامة” إلا أنّ الكرامة علمت باب الشمس. فهذه لا تسبق هذه وتلك لا تأتي بعد تلك، والاثنتان سيّان. هل فهمت؟ لا لم تفهم. ألهذا السبب تضرب بلا هوادة؟ ولكنك لن تصيب القرية الثالثة التي نبتت تحت الجاكيت السوداء التي تلبسها الصبية التي تقتلك الآن بعينيها السوداويْن. هل علّموك ما الكحل وكيف يكون (“يا خوفي عدوّك بيدوّر عليك/ لا حُطك في عيني واتكحّل عليك”)؟ لم يعلموك؟ إنه سلاحنا السّريّ. قتلتْ به جدتي جدي، وقتلت به أمي أبي، وقتلتني به حبيبتي، وابنتي الصغيرة بدأت تتدرّب على قتل حبيبها به. أرأيتَ؟ الكُحل في العينيْن لا ينهزم ولا يستسلم. وتحدّثني عن الإف 16؟
شابٌ يتدفّأ قرب مِوقدة مُرتجلة. بعض الحطب اليابس تطوّع لمؤانسته ريثما ينتهي من بناء “حنجلته” الشقية. أراها تضحك هذه الحنجلة كأنها تعرف ما لا نعرف. أحسدها. تعرف لغة الحجارة. تعرف كم طاغية هدمها وكم طاغية شيّدها وتعرف كم رطلا من الدماء سالت عليها. لذلك تضحك “حَنجلتنا” الآن وهي تستسلم لمداعبة الطين البنيّ الطازج المبلول الخارج من الفرن.
الحافلات.
حافلات زرقاء داكنة، خضراء زيتونية، مثل لون شرطة “حرس الحدود” الكريهة. وأخرى بيضاء. وسيارات عسكرية وشرطية كشّافة أضواؤها. تنير الليل بخجل كي لا ترى النجوم عودة الدلعونا إلى ساحة البيت. خيام لونها أبيض داكن. بيج. تمسك بها حبال مشدودة إلى صخور كبيرة كي لا تفكر للحظة بالتحليق في سماء القدس. كي نلومها إلى فكّت قيدها وحلّقت، هذه الخيام. ألم تحدثها الخيام التي ولدتها عن بكاء الليل بين جنباتها؟ أتعتقدون أنّ الخيام معدومة الفضول، فلا ترغب برؤية ما بكى هؤلاء من أجله؟ علم فلسطيني يرتفع عاليًا بين الخيام، يرتجّ في الريح ويرتجف مثل خلايا القبلة الأولى. من صوّر المشهد؟ من سمع حفيف الكنزة الصوفية بالقميص الرجوليّ المشدود قبل القبلة الأولى في “باب الشمس”؟
الحافلات تخرج محمّلة بأبناء وبنات العُرس، بعد أنّ “سحّلوهم” وجرّوهم. هناك يُسحّلون على إسفلت القاهرة (هيا كاتب تعمل إيه هناك؟) وهنا يسحّلونهم بجانب القدس (ما الذي يفعلونه هناك؟). يجرونهم لأنهم يتحرجمون حول بعضهم البعض، يقعدون على الأرض متراصّين وينظرون إلى الجنود والشرطيين بوقاحة جميلة. ماذا تريدون؟ التقاط الصور لنا؟ هل ترسلها إلى حبيبتك في تل أبيب؟ ستحبّ الرجل القويّ الذي فيك وستأخذك ملتهبة حين تعود الليلة إلى حضنها الدافئ. كيف تريدنا أن نجلس في الصورة؟ هكذا؟ هل نتظاهر أننا نصرخ؟ هل نصرخ “إذبح اليهود!” كي يكتمل مشهد الفنتازيا الذي تحبّون التسلي به في ليالي عشية “عيد الاستقلال؟
يرتجلون ألارتجال: أنبوب مياه أسود يكفي لريّ الفم واليدين والشَعر (والشِعر) وبعض معجون الأسنان. “حنجلة” من الأحجار. تعرفونها الحنجلة؟ حين تبنون سورًا أو غرفة سريعة بأحجار كلسية بيضاء، تتماسك فيها بينها بالصمغ البدائيّ الجميل: تراب وماء. يقولون: حَنجَل الرجل ذقنه، أي شذّب أطرافها حول وجهه كي تكون ذقنًا مرتبة. ويقولون: حَنجل أبناء “باب الشمس” الأرض، أي نكشوا تربتها كي يخبئوا فيها ذاكرةً من يافا أو حيفا أو صفورية، لم يحظوْا بمتعة عيشها. “باب الشمس” و”الكرامة” انتقال الذّاكرة من جيل لم يعِشْها إلى جيل لن يعيشَها. هذا السرّ في “باب الشمس” لمن كان يبحث جاهدًا.
أوّل الرقص “حنجلة”. أول الرقص “بابٌ” و”كرامة”. والرقص أغانٍ والأغاني ذاكرتنا. يحضرنا راشد حسين:
“بالأغاني حَرّروني.. بالأغاني
رسموني بدمي القاني، على كلِّ المباني
كتبوني.. لخّصوني
وأذاعوا كلّ عمري وبلادي
في ثواني
ثم… لمّا اعتقلوني،
بالأغاني اعتقلوني…
بالأغاني”