عن قصص لأوقات الحاجة
حاكم مردان
كمن يميل الى كتف القارئ ويسرّ في أذنه دعابة هامسة ويولّي بعدها مقهقها، مخلفا وراءه دهشة ممزوجة بالاعجاب وشعورا بالودّ حيال الشخص (الكاتب) الذي أفلح في زمن متجهم في زرع ابتسامة نحن في أمس الحاجة اليها على وجوه أتعبها الوقار في احدى عشرة قصة استحقت عنوانها فعلا: “قصص لأوقات الحاجة” للكاتب الفلسطيني علاء حليحل.
دعابات من دون اسفاف تبدو، ظاهرا، للتسلية وتزجية الوقت، الا ان الممعن في فحواها يلمس انضباطا في الشكل يرفعها الى مصافي الفن ويحيل أسلوبها المداعب على تهكم جدلي مدروس على خلفية نقدية ترصد ظواهر الحياة وعلاقاتها الشائكة لتنتقي منها الانسب للفن القصصي كرسالة مجتمعية، من غير السقوط في المباشرة وفجاجة الاعلان. ولعل القصة الاولى “كاتب قصة” تصلح درسا يحفظه كل مقدم على كتابة قصة لو يعي المغزى منها، والحكاية بسيطة: طالب في الثانوية اعتاد الجلوس عند عتبة بيت جاره الحاج محمد حيث ألِف الجيران الجلوس، ويستمع الى أحاديثهم وقصصهم، لكن ثمة قصة غامضة (لا يوضح المؤلف فحواها انما يوليها أهمية قصوى) تتعرض يوميا للتغيير والتلميح والتبهير. وحدث ان مرت سيارة غريبة عن الحي وتوقفت امام العتبة ولم يترجل منها او يصعد اليها أحد. ثم انطلقت السيارة في سرعة مذهلة حالما بادر أحدهم بالصراخ، وزادت صيحة: “انهم هم… انهم هم…” الموقف غموضا واضطرابا خاصة لدى طالب الثانوية الذي لا يغرف او لا يوضح من هؤلاء الـ”هُمْ”، ولا ما هي قضيتهم، سوى ان أبا محمد (صاحب عتبة الحكايات) يطلب منه على وجه السرعة تدوين رقم السيارة الغامضة، لكن طالب الثانوية لا يملك قلما: “لا يصح أن تكون ابن ثانوية ولا تحمل قلما”، يعاتبه أبو محمد، وعليه يقرر الطالب حمل قلم أينما ذهب، تحسبا لعودة السيارة. وصار الطالب يعيد كتابة القصص التي يسمعها عند عتبة الحاج محمد، بل “صرتُ أتخيل قصصا بيني وبين نفسي وأكتبها. وهكذا صرت كاتب قصة”. الامر بهذه البساطة، أن يملك المرء قلما ويستمع الى الناس، وثمة قضية لا تبين في حياتهم (قصة) تتعرض دائما للتغيير والتلميح والتبهير وفتى الثانوية يضيف اليها من عندياته ويرصف الى جوارها قصصا من اختراعه، شرط ان يمتلك بصيرة نافذة وعينين لا تغيب عنهما التفاصيل الدقيقة (نمرة السيارة) وقلم ليدوّن رأسا ما يتساقط من افواه الناس وما يبزغ في رأسه هو، اذ القصة القصيرة أصلها فكرة (محمد) واحدة وهي معرضة للطيران من الذهن، مثل كل عصافير الافكار.
تلك طريقة علاء حليحل في كتابة قصصه الاحدى عشرة. التفاصيل بلا تكلف، وللفكرة وجهان، المسلي الظاهر (الجلوس الى عتبة ابي محمد وتدخين الاركيلة والاستماع الى القصص)، ولقصصه خاصية فريدة هي اعادتها الى أصلها، أي في وسع القارئ اعادة روايتها مشافهة في الطريقة التي يرتأيها تغييرا وتلميحا وتبهيرا، أما الوجه الآخر للفكرة فهو المغزى والرسالة المجتمعية التي يجاهد القاص حليحل في اخفاء أهدافها (السيارة الغامضة) على القارئ الباحث عن تسلية خفيفة ويوفر له القاص الكثير منها بسلاسة الاسلوب وطراوة اللغة والحس العالي بالدعابة، الا انها لقارئ متمعن، دعابة هادفة تبرز واضحة في مثل قصة “تراب الولي الطاهر” حيث تحوّل هند المزار الى مكان ملائم للقاء حبيبها، وبذلك يصير الموضع الذي يفترض ان تنطلق منه النواهي التي تمنع العشاق من اللقاء نفسه الى مكان نموذجي لتبادل الهمسات والقبل، وترد هند بشجاعتها وذكائها الاعتبار الى واقعية الحياة تاركة القرية تخوض في خرافاتها حول مزار الولي وترابه الطاهر وقدرته على شفاء الامراض وتخليص الشباب من الوله، وهكذا تكون وفرت لأبنائها في ما بعد، كما القاص لقرائه الآن، مادة للتندر والفكاهة من أساطير الاولين. ويبدو المغزى واضحا ايضا في قصة “الطباخ” الذي يتعرض للسخرية لأن جارته القبيحة والعانس في البناية المقابلة اقتحمت وحدته لتعد له طعاما شهيا وشقة منظفة، وما ان اقترن بها حتى اختفت تلك المبادرات (طعام شهي ونظافة) ويظهر مكانهما ما هو عادي في حياة المتزوجين… النقّ! ففي حين يسخر منه الموظفون يكتشف القارئ انهم، كمتزوجين، لا تختلف أوضاعهم عنه كثيرا، بفارق وحيد انه صريح وواضح ويقولها كما هي. وتبرز ايضا في قصة “جميلة” الفتاة التي حرّكت بجمالها الساحر محيط النساء المتزوجات اللواتي لا يفكرن في أزواجهن الا كجزادين للتسوق من باريس ولندن، والامثلة كثيرة، لكن القصة المسماة “لِيَكن”، صادمة في فحواها ويكاد يختفي منها حس الدعابة لقسوة موضوعها (فكرتها) ولأنه مرسوم على خلفية وطن اعتاد ان يطلب من مواطنيه المزيد من التضحية والمزيد من الشهداء، لكن هذه المرة يأتي من يطلب منه ان يعيد شيئا مما للمواطنين بذمة الوطن. هما زوجان ابتليا بأمراض وراثية سيكون طبيعيا ان يورثاها الى الجنين الذي يختلفان على اسقاطه او ابقائه فيولد معوّقا: “من ناحيتي لازم تنزّليه… مش ممكن نتطلع عليه كل يوم ونتذكر انه احنا سبب عذابه في هاي الدنيا… لازم تنزّليه…” يقول الأب. وترد الأم صارخة: “هذا ابني ورح أخلفه لو شو ما كان!! فاهم؟! وهنا تطرح الأم تساؤلا غاية في البساطة والوضوح: ان الوطن الذي رعياه، هي وزوجها، وكانا ناشطين له في التظاهرات والاحتجاج ضد المحتل وتلقيا من الضرب والغاز المسيل للدموع الكثير، وجاهدا لاعلاء حريته واستقلاله، ألا يحق لهما الآن مطالبته بأن يرى وليدهما المعاق؟ اذ لا يعقل ان يظل الوطن، هكذا، يفرض البطولة شرطا لكسب حق المواطنة، وخاصة ان بطليه السابقين (الزوجان) هزمتهما وراثة أمراض ليست لهما فيها يد وليس في امكانهما تغيير أقدارهن.
مجموعة علاء حليحل القصصية من المجموعات النادرة التي يتجاور فيها الممتع والهادف. ولا يتجاوز أحدهما الآخر او يأخذ شيئا من طريقه او يتمدد كمساحة وفن على حدوده، وهذا شرط وضعه حليحل نصب عينيه في مجموعته وبلغ به شأوا يضعه في مرتبة كتّاب القصة القصيرة الخلاقين بلا ادعاء.
كنا نوهنا بمبادرة نشر أعمال جيدة لكتّاب من الارض المحتلة تعرض للقارئ العربي الوجه الآخر لمجتمع يتكون تحت ضغطين ينسحق بينهما الكاتب الفلسطيني بين تلبية حاجة الناس المقاوِمة الى الكلمة الداعمة وشروط الأداء الفني الذي ان لم يتعارض مع الأولى (الحاجة) بالضرورة الا أن فيه تمنعا طبيعيا ان يكون وقودها. ومجموعة علاء حليحل أجادت السير في حقل ألغام من غير ان تفجِّر أحدها في وجه القارئ، بل اكتفت باعلامه بوجود الحقل.
(النهـار اللبنانية)