خالتي حكمية
كان اسم “حكمية” يتردّد في فضاءات الطفولة، في قريتي الجش. منذ أن سمعته للمرة الأولى، وأنا طفل في بداية تشكُّل الوعيِ، عرفتُ أنّها إنسانةٌ هامةٌ. كان اسمُها يتردّدُ بحُبٍّ واحترامٍ وبعض الهيْبة. فحين يَروُون شيئًا عن حكمية، تتبعه كلماتٌ معهودةٌ لا زلتُ أتذكّرُها، مثل “فظيعة” و”كل احترام” و”جدعة”.
خالتي حكمية، تعلمتُ أن أناديها، كما علّمتنا أُلفةُ القريةِ الصغيرةِ، حيثُ الجميعُ “عمّي” و”خالتي”. أمّي تُحبُّ خالتي حكمية كثيرًا، وكانت تتعامل معها على أنها نموذج للمرأة المثالية: متعلمة، قوية، مُدبّرة، لبقة وقيادية. وأنا أيضًا أحببتُ خالتي حكمية. فهي مثلت في عينيّ هذا النموذج بجدارةٍ، وفي كلِّ زيارةٍ لها ولعمّي عدنان إلينا كُنتُ أحبُّها أكثرَ، لأنني مع تقدُّمِ وعيي وفَهمِي للحياةِ، عرفتُ كم هُو نادرٌ أن تجتمعَ هذِهِ الصِّفاتِ في إنسانٍ، وخصوصًا في امرأةٍ، في مُجتمعِنا الصَّعبِ والمُنغلقِ.
لم تلتقِِ دوائرُ حياتنا كما يجبُ، ولكنها كانتْ دائمًا حاضرةً في خانةِ الناس الذين يَعنُون للمرءِ شيئًا هامًا في الحياةِ. في كلِّ مكانٍ كُنتُ أصلُهُ، خصوصًا في الجليل، كنتُ أُسألُ دائمًا أسئلةً عن عائلتي وابنُ مَن أنا، ولكن السُّؤال التالي أو الذي بعدَهُ كان دائمًا: “شو بتقرب لعدنان وحكمية؟” وكنتُ أجيب بفخر عائليٍّ فِطريٍّ، لأنّ خالتي حكمية تبنّتْ اسمَ عائلتي وصارت جُزءًا من مُكوِّناتِه وهُويّتِهِ عند الكثيرين. أعتقدُ أنّ الكثيرين يَحترمونني ويحترمون عائلتي بفضلٍ منها، لأنها احتضنتْ عائلتَنا، بالاسمِ وبالفعلِ، ورفعتْ من شأنِها بقدر ما كانتْ محبوبةً وكبيرةً.
الموتُ دائمًا يُحيلنا إلى الحسرة والتحسُّر، ولكنني لا أجدُ نفسي فاعلاً ذلكَ في حضرة خالتي حكمية. فهذا لا يليقُ بها. هيَ، القوية، المقدامة، الشجاعة، لا يليق بها رثاءٌ بُكائيٌّ ولا كلماتُ وَداعٍ باكيةٌ. فنحنُ، جيلُ العائلة الشابِّ، وجيلُ هذا الوطنِ الشابِّ، تعلّمْنا الكثيرَ مِمَّن سبقونا، والمحظوظُ المحظوظُ –مثلي ومثل غيري آخرين- من تقاطعتْ دروبُهم مع أشخاص مثل خالتي حكمية.
كنتُ دائمًا أشبِّهُها بأمي، أطال الله في عمرها، فالاثنتان قويّتان وحازمتان ورياديّتان، كُلٌ في موقعها ومحيطها وخصوصيتها، وحين رحلتْ خالتي حكمية أحسَستُ أكثرَ من أيِّ شيءٍ بخسارة أمي لصديقة أحبتها كثيرًا وقدّرتها، وأحسستُ بوحدة أمي، في جيلها وبما قطعته من السنوات، وهي تودّع صديقة كهذه، يندر أن تتكرر.
منال ووجدان وأروة، بناتها، هنّ أيضًا طيف جميل من ذاكرة الطفولة، كان يُحتفى بحضورهنّ للقرية، في أوقات مُتباعدة، وكُنّ جزءًا من طقس العودة ليوم أو اثنين، “لعائلة عدنان”، في فرح أو ترح، أو لمُجرّد نهاية أسبوع هادئة. هي عودةُ ابن القرية مع عائلته، لتثبيتِ وجودِهِ وحضورِه، سوية مع من يُحبّ. وكُنا، أطفالاً وفتيانًا، ننظرُ بحُبٍّ وإعجابٍ لهذه العائلةِ الآتيةِ من بعيدٍ، من الناصرةِ، إلى قريتِنا المُسالمة المُختبئة بتلابيبِ تلالِها، حتى كبِرْنا، وخرجتُ من القريةِ، وصرتُ أعود ليومٍ أو اثنين، لفرح أو لترح أو لمُجرِّدِ نهايةِ أسبوع هادئة. وصارتْ أمي تلقّبنا، عامر، أخي الصغير وأنا، بأننا “عدنان وأكرم”، ولم يكن ينقصها الآن، بعد الشهادة والعمل، إلا أن نجد ابنة الحلال التي تستوي في مكانتها ومواهبها وصفاتها مع خالتي حكمية…
في كل مرةٍ يموتُ فيها أحدُ رموز الجيل الذي سبقنا تضطربُ الحياة، ولا تعودُ كما كانتْ. الفراغُ الذي تركَتْه خالتي حكمية في الحياةِ العامةِ والاجتماعيةِ والسياسيةِ عصيٌ على الامتلاء. سيمرُّ الكثيرُ من السنواتِ قبل أن تغمرَ حياتَنا واحدةٌ مثلَ خالتي حكمية، بوعيها الاجتماعي والوطنيِّ والرياديِّ.
في يوم جنازتِها، إلى رقدتِها الأخيرةِ، وقفتُ عند درجاتِ بيتِ خالتي حكمية ونظرتُ صوبَ التلال المُمتدةِ أمام المنظر الجميل، ونسيتُ للحظةٍ ما الذي نفعله، كلنا، هنا. فقبل كثير من السنوات جئنا في “فزعة” عائلية جميلة كي نساعد في ترميم هذا البيت الذي كانت خالتي حكمية فرحته الكُبرى، وها نحن نقف الآن، ننتظر عند درجات بيتها ريثما ترتوي دموع مُحبّيها من البكاءِ فوق رأسِها، وأنا أعرف في داخلي أنّ بيتًا رحلتْ أمُه هو بيتٌ لن يضحك بعد الآن، إلا ضحكاتٍ حزينةٍ.
(كُتب النص لكتيب التأبين للراحلة حكميّة حليحل)