فتّاحة وبْتِـفْتَح!
علاء حليحل
في أحد المشاهد القوية في مسرحية “الفتاحة”، المعروضة أخيرًا في مسرح “الميدان”، يجلس جاك (علي سليمان) و”يقرأ” في كتاب موضوع على ركبتيه. وسرعان ما يكتشف جان (أيمن نحّاس) أنّ جاك لا يقرأ حقيقةً، بل يردد عن ظهر قلب ما هو مفترض أن يكون مكتوبًا في الكتاب. فجاك لا يعرف القراءة. وجان يعرف. يعرف جيدًا، فهو مثقف، وجاك غبي بعض الشيء، إن لم يكن كثيرَهُ. ومع أنه بالامكان التعامل مع هذا المشهد على أنه نكتة عابرة، إلا أنه يمثّل في معتقدي المشهد الأقوى والأنصع لتفكيك رموز هذه المسرحية الجذابة في بعضها، الضعيفة في بعضها الآخر.
أنا أقرأ إذًا أنا شرّير!
فمشهد “القراءة” إذا صحّت التسمية يذيب الفوارق بين من يعرف القراءة وبين من لا يعرفها. فجأةً يتحوّل الأمّيّ إلى قارئٍ متمكّنٍ من النص الذي يحفظه ويردده عن غيب. وكأن فيكتور مالو –الكاتب- يريد أن يقول لنا ما نعرفه كلنا اليوم إنّ التاريخ المكتوب هو بدعة اخترعها المثقفون والكاتبون (المنتصرون) ليوهمونا بأنّ هناك “حقائق” في الكون، يجدر تقبلها واحترامها وأحيانًا السجود لها. تمامًا مثلما حاول جان طيلة المسرحية أن يفعل بجاك، إلى درجة إقناعه بأنّه المسؤول الأوحد عن جوعه وعن بؤسه وأنه –أي جان- يسدي له معروفًا أصلاً بأنه يشرح له الخطأ من الصواب. إمبريالية خالصة. إذا كانت هناك مسرحية تتحدث عن الديماغوغيا والسلطة في طريقة بارعة- فهي هذه المسرحية.
القصة باختصار: جان وجاك يختبآن في ملجأٍ ما هربًا من كارثة (نووية؟) ألمّت بالبشرية جمعاء، وعليهما أن يحافظا على بقائهما الآن. لديهما علب بازيلاء “تيتا” خضراء وبسكويت، ليس إلاّ. وفي لعبة “شيكِت” يستولي جان على علب جاك من دون وجه حق (مع جاك كانت “كِنته” بالقص كأقل تقدير ومع جاك “كِنته” عادية- والغالب إذًا جاك)، ويأخذها كلها، ليبقى جاك مع بعض علب البسكويت، التي سرعان ما يلتهمها. عندما تضيع فتاحة العلب يصبح “من المستحيل” فتح علب البازيلاء، فيلقي بها جان إلى الجحيم، ليجدا الفتاحة بعد ذلك. ما تبقى من المسرحية هو محاولة جاك التغلب على جوعه القاتل عبر أكل حزامه وحذائه وما تيسّر من المنتوجات الجلدية وغير الجلدية. باختصار: صراع بقاء مرير. وبماذا ينصحه جاك أن يفعل؟ أن يمارس اليوغا!
في المسرحية، بالإضافة، طُرفة ذكية مفادها أنّ شركة بازيلاء “تيتا” وفّرت الرعاية للمسرحية وفي كل مرة يقول فيها أحدهما إسم الشركة يسجلان خطًا على لوح موضوع في الجانب ليتلقيا المردود الموعود. وهذه الطُرفة، إلى جانب كونها موتيفًا جيدًا يعيد المشاهد في كل مرة إلى سخرية المسرحية وعبثيتها، تشكل نقدًا شديدًا على ثقافة الاستهلاك والتجارية التي احتلت حياتنا من الوريد إلى الوريد.
ثلاث مشاكل
في المسرحية ثلاث مشاكل رئيسية: في المبنى الدرامي، في انعدام العمق في إحدى الشخصيات (شخصية جان) وفي انعدام الإقناع بالصّراع الأساس في المسرحية: إستحالة فتح العلب!
المبنى الدرامي متطور ومتشابك جيدًا حتى لحظة فقدان الفتاحة. عندها تبدأ مشكلة جدية في انخفاض التواتر الدرامي وتطوراته، أحيانًا إلى مستوى الصفر. ولولا قدرات علي سليمان الخارقة في الأداء لتدهورت المسرحية نحو “حالة فلسفية وجودية” عقيمة لا نهائية، معدومة الدرامية. فمعظم ما تلا لحظة فقدان الفتاحة غير مقنع بالمرة. وهنا تدخل المشكلة الثانية: فشخصية جان التي أداها أيمن نحاس ظلت تراوح بين السطحية والاجتهاد غير الكافييْن. ويتضح جليًا عدم تركيز المخرج (خليفة ناطور) ونحّاس على هذه الشخصية وعدم بلورتها بما يقنع. فجان هو “الشر المُنمّق” في عالمنا والمدعَّم بتنظيرات وهلوسات ديماغوغية، وعليه فإنه شيطان في بدلة. وهذا لم يتّضح على الخشبة. الحالة التي مثّلها جان هي كاريكاتور لا يشكّل إلا رمزًا أو اثنين لشخصية جان الحقيقية. لا يمكن في مسرحية فلسفية كهذه أن يخاف الممثلون أو المخرج من الغوص في أعماق الفلسفة حتى النخاع، من أجل بناء دراما صحيحة. وهذا لم يحدث في شخصية جان. البرهان الأكبر على “شيطنة” جان يكمن في الخدعة التي بناها لجاك: بدّل ملابسهما وأقنع جاك بأنه جان وبالعكس، ليثبت له أنه –أي جاك_ يتصرف مثله إذا كان يملك موقعه وقدراته. وهذه نقطة مثيرة بحدّ ذاتها.
المشكلة الثالثة في المسرحية تكمن في التوليفات التقنية التي رافقت العمل. فالديكور (إعداد: أشرف حنا) لم يخدم الفكرة والحبكة كما يجب. كان يمكن في أربع أو خمس أدوات متوفرة في الديكور أن تُفتح علب البازيلاء. وهذا خطأ شنيع في مسرحية تعتمد كلها، من أولها إلى آخرها، على عدم القدرة على فتح العلب. خاصةً أن المسرحية في تطورها وحيثياتها واقعية جدًا وطبيعية (ناتورالِست)، ولا مجال هنا للتغاضي عن مثل هذا الخطأ. ويُضاف إلى ذلك عدم وضوح موقف جان عندما يقوم جاك برمي العلب بعد ضياع الفتاحة إلى القمامة- العالم الخارجي (وهذه استعارة جميلة لم تُستغل جيدًا أيضًا). فكيف يرضى المثقف المفكر الخبيث بأن يقوم هذا الأهوج برمي الطعام الوحيد في هذا المكان؟ فهما لم يجرّبا قبل ذلك فتح العلب بأية وسيلة أخرى مُهيّأة ولم ينتصر جاك على جان جسديًا أو بالقوة!
في نهاية المسرحية نرى الاثنين –الأمّيّ والمثقف- متحّديْن في جسد واحد وفي “أنا” واحد لا يمكن (في الظروف المعطاة) فكّ رباطهما، وهذا الاتحاد هو انتصار جاك المطلق اللذيذ. من هنا، ومن دون الخوض والمبالغة في المعاني والاسقاطات، نعود إلى البداية في المسرحية حين سأل جاك جانَ: لماذا أتيت بي معك؟ فأجاب جان: لأنني لم أرغب في أن أكون آخر من يموت. وهذا جواب عبقري في سياق المسرحية، لأنّ المثقف البرجوازي لا يمكن أن يواجه تأنيب ضميره وتصرفاته “العملية والعقلانية” طيلة حياته، لوحده.
ما برز في المسرحية من جانب آخر الموسيقى التي أنجزها حبيب شحادة، والتي رافقت الانتقالات بين المقاطع. فقد استطاع شحادة أن يضع مقاطع قصيرة ولكن كثيفة من الناحية الآليّة ومن ناحية الدمج بين روح الفكاهة الحذِر في التعامل مع المواقف وبين بناء أجواء ساعدت الممثلين على بناء المواقف غير الاعتيادية. ولكن خسارة أن الموسيقى لم ترافق المشاهد أيضًا، فبسهولة، كان بامكانها أن تتحوّل إلى ممثل ثالث له حضوره وميزاته وإسهامه في الارتقاء بالأحداث إلى أبعد من توتراتها القائمة.
القافلة تنبح والكلاب تسير!
قتلني علي سليمان، ولم يُحي قتلايَ. فهو أثبت أنه ممثل بارع وقدير. استطاع أن يجترح الشخصية من أعماقها وأن يتلاعب بها إلى درجة التماهي المطلق معها- من جانبه ومن جانبنا. المسرحية جديرة بالمشاهدة وحتى ولو من منطلق رؤية علي سليمان يتألق على الخشبة بكامل حضوره الطاغي.
كما أنّ إنتاج المسرحية والدأب على إخراجها إلى النور، من جانب كل أعضاء طاقمها، هو إثبات آخر لمن كان يبحث عن إثبات، بأنّ “الميدان” في أساسه هو مبدعوه وليس إدارته الركيكة وغير المهنية، حتى الخَبَل غالبًا. وقد يكون من المؤسف أن يُستغل هذا الانتاج –الجيّد في مُجمله- من أجل التستر على عيوب الإدارة الحالية في “الميدان”، والقول: ها نحن ننتج أعمالاً. “الفتاحة” أنتِجَت على الرغم من الإدارة الحالية، وليس بفضلٍ منها، وهذه شهادة كبيرة لكل من عمل في المسرحية بأيمانٍ كبير.
ولكنّ هذا يُقال من باب أضعف الأيمان، ومن أجل التاريخ فقط. فالقافلة تنبح والكلاب تسير!
(نشرت هذه المادة في شباط 2004)