5 ملاحظات على موقعة “مشروع ليلى”
المدافعون يقولون إنّ هؤلاء يساريون حقيقيون ولا مانع من أن يكونوا شركاء في الفضاء الثقافي العربي طالما أنهم “معنا”. المعارضون يحتجّون: لا مكانَ للإسرائيليّ في الفضاء العربي الثقافي
علاء حليحل
1
بعض المطلعين والمقرّبين من فرقة “مشروع ليلى” اللبنانية قالوا إنّ أعضاء الفرقة لم يكونوا على دراية بكلّ الموضوع منذ البداية. أي أنّهم لم يعرفوا أن الفرقة الموسيقية “رد هوت تشيلي بيبرز” التي صدحت ليلة أمس (6 أيلول) في بيروت، ستصدح بنفس الحماسة في تل أبيب في 10 أيلول الجاري، والأنكى أنهم لم يفهموا ما المسألة من وراء ذلك. وهكذا، لم يدركوا أن عليهم مقاطعة حفل الفرقة في بيروت الذي كان من المفترض أن يقدموا فيه الوصلة الأولى (التحماية) قبل “الفلفل الحارّ”. الجماعة مساكين، شباب يقدمون الموسيقى بأسلوب يلائم الكثيرين ويزعج الكثيرين، لا أكثر ولا أقلّ. عندما أحسّوا بخطورة الموضوع قرّروا إلغاء المشاركة، بعد جلسة جمعت جميع أعضاء الفرقة. الناطق بلسان الفرقة لم يتطرّق لأيّ ملابسات سوى جملة بسيطة وناشفة: (we will not be opening for the red hot chili peppers on september 6 inbeirut). جملة إنجليزية خارجة عن سياق المعركة الحامية جذبت حتى الآن ٥١٩ تعقيبًا. مشروع ليلى ليس مشروعًا سياسيًا وواضح أنّ أعضاء الفرقة غير مُسيّسين ولا علاقة لهم بكلّ الجّلبة والضّوضاء التي أثيرت حول الحفل في بيروت. زوبعة في فيسبوك أثارها مُحبّو الفرقة الواعون سياسيًا، ليذهب ضحيتها أمل عربي شرقي باللعب مع الكبار. ما نسميه في سراديب المعركة: تضحية.
يا ليتني كنت ذبابة على حائط الغرفة التي جمعت هؤلاء الموسيقيين وهم يحاولون إدارة نقاش سياسيّ شائك. متعة خالصة.
2
ولا تسيئوا فهم الشّاعر رجاءً: نحن سعداء بأنهم ألغوا مشاركتهم كي لا تمرّ قافلة الفلفل الحارّ بسلام من بيروت إلى تل أبيب، وكأنّ الضيعة بلا بواب.
3
ولكنّ العراك الحقيقيّ يدور الآن في أزقة السّايبر الفلسطيني التماني وأربعينيّ: فهمتُ أنّ هناك حفلة لمشروع ليلى في عمان ومجموعة من اليسار الإسرائيليّ ترغب بالسّفر إلى عمان وحضور الحفلة، بمعيّة فلسطينيين من الداخل ينشطون معهم في مشاريع عمل واحتجاج ويسار. المدافعون يقولون إنّ هؤلاء يساريون حقيقيون ولا مانع من أن يكونوا شركاء في الفضاء الثقافي العربي طالما أنهم “معنا”. المعارضون يحتجّون: لا مكانَ للإسرائيليّ في الفضاء العربيّ الثقافيّ، حتى لو كانوا يساريين حقيقيين- عليهم قبل ذلك أن يتركوا الدولة. نقاش لن يُحسم في هذه المعركة بالتأكيد كما أنه لم يُحسم في معارك سابقة ولن يُحسم في معارك قادمة. إنه تمرين إنتلكتوالي أزليّ يروح ضحيته عادة جوهر الموضوع: هل يمكن للضحية أن تكون متسامحة مع من ينتمي إلى دائرة الجلاد، قبل أن يُفضّ النزاع التاريخيّ بما يرضي الطرفان؟ هل هناك “برزخ” (منطقة بين الجنة والنار) يمكن تخصيص بعض المقاعد فيه لعدد قليل من اليساريين اليهود الإسرائيليين الحقيقيين؟ والسّؤال الحقيقيّ: هل يمكن تحرير فلسطين (اختاروا أنتم أيّ جزء بحسب انتماءاتكم) من دون مساعدة وشراكة اليساريين اليهود الحقيقيين؟
مثل هذه الأسئلة الهامّة تضيع في معمعان الفذلكات النّصّية واللفّ والدّوران حول نفس الموقف بطرق لا نهائية. مثل هذه المعارك الموسمية تثير التقزّز أكثر ممّا تثير الفضول والفائدة: جوقة مستنكرين يمتهنون المزايدة وجوقة من الوطنيين “المُحبين للإنسانية كلها” ولا يفهمون ما المشكلة في الموضوع أصلاً. الجوقة الأولى تزايد على الثانية بأنها متهاونة أو متساهلة أو متخاذلة، والجوقة الثانية تزايد على الأولى بأنها متعصّبة وعمياء وقومجية. نقاش جدّيّ ومطلوب وحيوي لنا هنا يتحوّل دائمًا إلى طوشة مزايدات منفرة لا يسع المرء إلا أن يقول لصُناعها: وماذا مع مشروع فلسطين؟
4
ولا تسيئوا فهم الشاعر رجاءً: نحن سعداء بإثارة هذه المواضيع وطرحها للنقاش العام، من دون احتكار أيًّا كان للحقيقة أو للوطنية الفلسطينية. باب الاجتهاد واسع، وهو أكبر وأغنى بكثير من أيّ مشروع ليْلويّ “مهضوم”. المطلوب هو: سياق أكبر وتسامح نقاشيّ أوسع.
5
وما يثير الانتباه في خضمّ هذه المعارك مقولة تتغير كلماتها لكنّ مضمونها ثابت: نحن مجبرون أن نكون “ملوّثين” في مناطق 48 في علاقتنا الاضطرارية مع الإسرائيليين، ولكن لماذا يجب أن نصدّر هذا “التلوث” إلى العالم العربي؟ أعتقد أنّ هذه الجملة بتركيباتها المتنوّعة تقوم على عدة افتراضات: 1) علاقتنا مع الإسرائيليين في الدولة هي اضطرارية ومؤقتة ولا علاقة بيننا وبينهم إلا السلاح أو الثورة أو الانتفاضة؛ 2) العالم العربيّ كتلة من الجَّهلة والأغبياء لن يفهموا ما الفرق بين يهودا شنهاف مثلا وعمير بيرتس؛ 3) الشّعور بالدُّونية المرافق لنا، نحن أهل البلاد الأصليين، في كلّ مسألة علاقتنا مع اليسار الإسرائيليّ (الحقيقيّ!). هذا شعور قاتل ومعيب ويقلل من شأن مهمتنا التاريخية: النضال من أجل فلسطين من الداخل. من يتعامل مع نفسه على أنه ملوّث أو مجذوم لأنه يحمل جوازًا إسرائيليًا سيظلّ قاصرًا عن خدمة فلسطين من قلب الجليل والمثلث والنقب. لا نرقص في الشوارع حاملين “الحُردبّة” لكننا لا نخجل بها. إنها نكبتنا بكلّ تجليها. هل تخجلون بنكبتكم؟
ولا ننسى أبدًا أحد مفاتيح القضية الهامّة: عمان و”مشروع ليلى” كطرف حاسم في هذه المعادلة. هل يمكن أن نحسم من دونه؟ من دون فضائنا العربيّ الواسع؟ وهل يمكن الحسم من دون إشراك هذا الفضاء في فضاءات معاركنا الموسميّة؟
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 7 أيلول 2012)