هيّا إلى المدوّنات

إفتتح قبل يومين الصديق العزيز والزميل الصحافي فراس خطيب مدونة جديدة له وهي بهذا تنضم إلى المدونات القليلة التي افتتحها مبدعون وكتاب وفنانون وصحافيون وناشطون من فلسطينيي الداخل، مع أنّ تقليد فتح المدونات صار تراثًا يكاد يكون تقليديا اليوم في العالم العربي وغزة والمناطق الفلسطينية المحتلة (بوضعها السياسي اليوم: المُختلة) عام 1967.

ولكن يبدو أنّ المدوّنات هي خيار الفقراء والمطارَدين؛ فهي خيار الفقراء لأنّ تكلفة فتح مدونة لك على الشبكة العنكبوتية هي صفر من الدولارات أو الريالات أو الشيكلات. بضعة كبسات وخيارات (مع أنّ هذه مهمة شاقة للبعض من جبناء التقنيات!) وأنتَ عنوان جديد على الشبكة الكبيرة. صارت لك مساحة متخيلة، مفترضة (فيرتوال) تستطيع فيها أن تصول وتجول، وتعلم الناس أصول فلسفة ابن عربي أو تعلمهم كيف تُصنع الكبة في الجش (كبة إم علاء) والفرق بينها وبين الكبة في الناصرة (كبة إم العبد التي لم أذقها حتى الآن- ولهذا مقال في مقام آخر!)، أو أن تعلمهم أن يحبوك أو أن يحبوا كتاباتك- والأمران سيّان.

ومن خلال تجوالي في عالم المدونات العربية اكتشفت كون المدونات في معظمها مُعدَّة للمُطارَدين من خلق الله، فترى المدونات المصرية عالمًا هائلاً من السياسة والاحتجاج والكليبات المصورة لأحداث سياسية عاصفة تجري في مصر، ولكن التلفزيون المصري لا يبثها. جنة من المعلومات والمعلومات البديلة وحرية كتابة وحرية ردّ، وأحيانا لدرجة الشتم “الشارعي” الإنترنتيّ (أمثلة: “إيه اللي انت كاتبو ده يا ابن المتناكه؟”؛ “الود ده خول والا إيه؟”؛ “الشرمطة دي لازملها حد بقى!”؛ “والله واكبرت يا (فلان) وطلعلك شعر عالبيض”). ولا أجد تحرّجًا من إيراد هذه الشتائم هنا لأنها: (1) موجودة في الإنترنت وبالعربية منذ فترة؛ (2) لأنها مؤدبة إلى جانب الواقع الذي نعيشه؛ (3) رحم الله امرأ قال: الواقع أكثر بذاءة من أية شتيمة؛ (4) وهو الأهم: لا يوجد كلام بذيء، يوجد أناس بذيئون!

وهذه روعة أخرى من روعات المدونات: هل تعتقدون أنه كان يمكنني أن أنشر المَسبّات التي بين الأقواس أعلاه في أية جريدة عربية في العالم؟ لا أعتقد. وكي أكون صادقًا معكم حتى النهاية، سأقول لكم من خلال تجربتي كمحرر في صحف عربية مختلفة: أنا كمحرر كنت سأشطب هذه الجمل أيضًا من هذه المقالة. سأشطبها وسأشرب كأسين سريعين من الفودكا المثلجة كي أقمع الثورة المُهانة في داخلي. هذه قوانين اللعبة، وعلينا جميعًا أن نلعبها، إلى أن يحصل أمران، لا ثالث لهما: أن نموت بسرعة (أي أن نموت مَجازًا، من الداخل) ونعيش كما يعيش الباقون؛ أو أن نفتح مدونة.

وأنا صراحة لا أفهم الدافع من وراء فتح مدونة لا ينوي كاتبها/ كاتبتها قلب الدنيا رأسًا على عقب وتجاوز قوانين اللعبة في عالم النشر “السَّويّ” (يعني النورمال). في دول القمع السياسي (مصر، سورية، الأردن، وغيرها) تجد المدونات السياسية تكتب وتسبّ وتنتقد وتناقش وتشرئبّ بشراهة كبيرة، فماذا لدينا هنا؟ ولماذا لم نُغرق الدنيا بمدوّنات عن وضعنا السياسي والاجتماعي؟ هذا سؤال كبير أعتقد أنه بحاجة إلى إجابات علمية أشمل وأوفى من جرات قلمي التدوينية (أين د. أمل جمال ود. مصطفى كبها حين نحتاجهما؟).

إذًا، فها هو فراس خطيب يدشن دخوله إلى العالم الرقمي ويصبح عنوانا في الإنترنت. منذ اليوم سيصير مسؤولا عن موقعه، عليه أن يدافع عنه بشراسة، أن يجعله فريدًا ومتميزًا ومتجددًا وإلا ملته “ماوسات” المتزحلقين بين المواقع. وسيكون من حسن حظ خطيب إذا ما شيّعت الجماهير الرقمية مدونته في داخل الفيسبوك (شيّع الشيء: أشاعه، وليس بالضرورة قبره!)، وعندها هو السعيد السعيد، المديد المديد.

سأترقب هذه المدونة كونها لصديق وكاتب عزيز، وكونها تنضاف إلى مدونات “الداخل” القليلة وغير المتجذرة، وكونها ستكون مثيرة وممتازة، بفعل معرفتي بخطيب ومقدراته.

ولكننا في النهاية، المُدوِّنين، نظلّ لاعبي هامش، نعلق ونزايد ونحاضر، ونسبّ ونشتم ونتأوّه بفعل الواقع وخرائياته. نحن كمن أعطوه ميكروفونا في حفلة ديسكو ماجنة: الملايين ترقص على الصوت الصاخب لموسيقى الترانس والنقود والتديّن والماريحوانا والكوك والعرقسوس والأرغيلة، ونحن نقف على المنصة مع ميكروفون ضئيل ونصيح بأعلى أصواتنا المبحوحة: “سَمَعْ يا! سَمَعْ!!!!).

تحضرني هنا قصيدة “كلب الستّ” لأحمد فؤاد نجم، والتي يحبّ أخي عامر أن يرددها حين تبدأ أبخرة الكحول بتبخير القعدة. أذكر منها بوجه خاص هذين السطرين:

“هيص يا كلب الست هيص

لك مقامك في البوليس”.

لنا المدوّنات لنهيص بها، مع أننا لم نصل بعد إلى مقام كلب الستّ ومَحظيّاته. فنحن مجرد كُتاب لا يجدون من ينشر لهم شتائمهم وعذاباتهم، لأنه من غير اللائق أن تغرّد “خارج السرب”. ولكن، بالأحرى ومن الأصدق أن أقول: نحن مجرد كُتاب…

(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 1 تشرين الأول 2008)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *