هذا الصيف الحقير!
علاء حليحل
في مثل هذه الأيام، أكاد، ودون إرادةٍ وتصميمٍ حقيقييْن مني، أن أرزم حقيبة سفري وأن أعود الى قريتي الجبلية الوادعة الهادئة حتى الملل المُشل. كل ذلك بسبب الصيف. هذا الصيف الرطب، الكريه، البغيض، الدنيء، الحقير، البليد، الدبق، الهُلامي، الغضروفي، الانتهازي، النفعيّ، المتسلق، المتساقط، المتذبذب، المتزبزب، المارق، الداعر، الفاسق، العربيد، العميل، المتعاون، اللحدي، الكتائبي، الصهيوني، المرتشي، السخيف، الغبي- وأكثر من كل ذلك: الكلب!!
أنا أكره صيف حيفا. وفي لحظات الانكسار تتحول كراهية الصيف الى حيفا نفسها؛ حيفا التي أحبها وتحبّني حتى النخاع، حتى أن الحب بيننا انتقل الى أغراضنا المشتركة والى أصدقائنا المشتركين والى البهائم التي تدب في شوارعها أيضًا، كقول الشاعر:
وأحبُها وتُحبُني
ويُحبُ ناقتَها بعيري
ولولا الحياء لأعلنت قطع علاقتي مع حيفا، سيدة العشق والهيام، وكاشفة نهديها المكتنزين في شارع “أبي النواس” القهوجي. ولكن ما يمنعني من القيام بهذه الخطوة المصيرية هو شتاء حيفا الرائع، ولكن لهذا باب آخر. وأتمنى في هذا الموضع الحياة الزاخرة للجريدة الفتية التي تحتوي مقالي الآن بدفءٍ وحرارةٍ شبقيْن، لتتسنى لي الكتابة عن شتاء حيفا الرائع مستقبلاً. والى بعض الانكسارات:
العرق: دلت إحصائية رسمية أخيرة، أجريتُها وأنا متبطح على الكنبة قبل يومين، مقابل الهوّاية التي تطن أكثر مما تُهوّي، على أن عدد القتلى من ضحايا رائحة العرق في الصيف يضاهي عدد القتلى في حوادث الطرق، أو ينيف قليلاً. واكتشفت في هذه الاحصائية الجذرية أن قتلى العرق الصيفي لا يلتكش لهم أحد، ولا يُوثقون في سجلات الدولة الرسمية، باعتبار أن السلطات لم تنتبه الى السبب الحقيقي حتى الآن. أمثلة: من يسوق السيارة ولا يستعمل السبيد ستيك، أو مزيل رائحة العرق، تفوح رائحة إبطيه في السيارة المكيفة فيتفاعل ثاني أكسيد العرق مع هايدروكربونات النتانة، فينتج عن التفاعل غاز الابطين المنوّم الذي يشتت عقل السائق ويفقده التركيز ويصبح لا يرى ألوان الطيف المشعة من الرمزونات، فيضحي شهيد عرقه. مثال آخر: إذا كنتم من رواد الحفلات الراقصة في الناتنزون فإن احتمالات الاختناق تزداد أضعاف الأضعاف، خاصةً إذا كان الرُقّاص من المجاهدين الصنديدين، وكان المكيف إبن حرام والدي دجيه طربجيًا قارحًا، والبارمان غزير السوائل. على إدارة المكان (راديو “الشاطئ”) أن تشترط الدخول الى الحفلات باصطحاب كمامات صدام مع الفلتر والإبرة (يمكن بعد ذلك تنظيم مسابقات لأجمل كمامة، لأكثر كمامة واقية، لأشطر كمامة راقصة، والجائزة: شمة هواء نظيف لمدة 5 دقائق، من أنبوبة أكسجين كبيرة يشتريها عنان حمام بالتقسيط المريح).
الحر: لن ينفعكم شيء. الشمس في صيف حيفا ملتهبة. أتمنى لو تكون زوجتي المستقبلية على ربع التهاب شمس حيفا الحارقة. أو على عُشر. أو على واحد بالمئة حتى، فالقناعة هَبَلٌ لا يفنى. إذا تفيأتَ بظل شجرةٍ، لحقت بك أشعتها من بين الأغصان؛ وإذا انزوَيْت تحت ظل عريشة مرتجلة أمام دكان الخضار، رأيت الأشعة تعيث فسادًا في البسطة الذابلة؛ وإذا قررت البقاء في البيت، اليوم أيضًا، وتفادي الخروج الى الأتون المستعر، ترى الحر يجلس في صالونك ويدخن من سجائرك ويشاطرك هواء الهواية التي كتبتْ وصيتها منذ زمن وتنتظر أقرب فرصة للانتحار (القفز الى البانيو وهي شغّالة، أو تفجير نفسها في المحطة المركزية في التشيك بوست). الحر في صيف حيفا ضربة من السماء. لا تحاولوا الهروب، لا تحاولوا التحايل، لا تحاولوا الانزلاق الى متاهات من سرابات الأمل بالضحك عليه. هو هناك، معلق فوق رؤوسنا، مثل القضاء المستعجل، ولن يزحزحه مُزحزحٌ- تمامًا مثل ميتسناع، رضي الله عنه.
البحر: قد يبدو للبعض أن البحر في صيف حيفا هو الحل. أبدًا. الاسلام هو الحل (يا عَضْرا!!). لأ عنجد. البحر ليس الحل. البحر هو العلّة العليلة. هو الوهم، هو السراب. هو الداء وليس الدواء. البحر، هذه البقعة الكبيرة الملأى بالماء (الملوّث على الأغلب والمليء ببول الكبار والصغار ومجاري المدينة وكوندومات طافية على وجهه)، هو سبب كل علة. فمنه الرطوبة واليه تعود. لولا الرطوبة لكان صيف حيفا جنة الرحمن على الأرض. الرطوبة هي أم الشرور. إذا كنا نحن السنافر السعداء، فان الرطوبة هي شرشبيل الشرير. وعلى بابا سنفور (ميتسناع، لمن لم يفهم) أن يتبنى خطتي الجهنمية على الفور: شراء مادة شمعية بكميات كبيرة ورشّها على وجه الماء المحاذي للشاطئ. عندها لن تستطيع الشمس السمجة أن تبخر الماء وسيبقى الهواء خاليًا من الرطوبة. اليكم بالحل. نحن بانتظار التنفيذ. وإذا جاء بابا سنفور في الانتخابات القادمة ليأخذ أصواتكم فقولوا له عالمكشوف: رطوبة ما بدنا نشوف!
حتى هنا هذه المقالة. العرق يتصبب مني ولوحة المفاتيح في حاسوبي ترفض الانصياع لأصابعي. كنت سأستمر في الحديث عن موبقات الصيف، ولكن اتضح لي الآن أن الموبقة الكبرى لهذا الصيف الزئبقي الحقير أنه لا يسمح للمرء بكتابة (749) كلمة للجريدة، دون أن يقع هو نفسه ضحية لهايدروكربونات النتانة. إشربوا الكثير من المياه ولا تقتربوا مني أبدًا، أنتم وروائحكم الصيفية. كل من يود الجلوس الى جانبي عليه أن يقدم لي كشفًا مُوقعًا من محامٍ فيه البيانات التالية: ساعة الاستحمام الأخيرة، نوع الديدورانت، نوع الشامبو، مواقيت الأيض والأفرازات الجسدية ومتى كان آخر مرة في البحر. وإلا، فلا!!
(نشرت هذه المادة في “حيفانا”، تموز 2002)