هايدي شارون، هايدي ميتسناع..
علاء حليحل
في الانتخابات الماضية في العام 1999 حصل الحزب الجديد آنذاك، الفتي، البراق، حزب “المركز”، على ستة مقاعد: أيتسيك مردخاي الذي اعتزل الحياة السياسية بعد الفضائح الجنسية التي هطلت عليه؛ أمنون ليبكين شاحاك، رئيس الأركان السابق، إعتزل الحياة السياسية بعد أن اتضح أن لمعانه وبريقه الطازجين تبخرا أدراج الريح؛ دان مريدور، الذي جاء وقتها من “الليكود”، وها هو يعود إليه اليوم؛ روني ميلو، رئيس بلدية تل أبيب السابق، في “الليكود” اليوم؛ أوري سبير، من رؤساء الطاقم الاسرائيلي المفاوض لاتفاقات أوسلو وخارج الحياة السياسية اليوم؛ داليا رابين- فيلوسوف، إبنة أبيها، في “العمل” اليوم. لم يبقَ أحد اليوم من الستة في حزب “المركز” الذي أسسوه عندها. حزب “المركز” اليوم يتألف من ثلاثة نواب فقط وهو غير موجود فعليًا في الخارطة السياسية الاسرائيلية. هل ما ذكر حتى الآن هو مؤشر على إنتهاء وهم المركز في إسرائيل، وهل تمنع الأجواء الانتخابية والسياسية في الدولة من نشوء وإستمرار أحزاب لا تُعرّف نفسها لا في اليسار ولا في اليمين؟
المركز الجديد- القديم
في الانتخابات للكنيست التاسعة التي جرت في 17 أيار 1977 حدث أمران هامان. الأمر الأول هو الانقلاب الذي حصل بقيادة مناحيم بيغن حيث حصل “الليكود” على 43 مقعدًا (39 في الكنيست الثامنة) مقابل 32 مقعدًا (51 في الكنيست الثامنة) لصالح حزب “المعراخ”، وهي المرة الأولى التي يصل فيها “الليكود” سدة الحكم. الحدث الثاني الهام هو حصول حزب “داش” على 15 مقعدًا، كقوة ثالثة في تلك الأوقات. “داش” خاض الانتخابات كحزب مركز، يتمَوْقع بين “الليكود” اليميني وبين “المعراخ” “اليساري”، وحمل الكثير من البشائر التي اعتمدت بالأساس على تعب الناس في الدولة من الحزبين الكبيرين. “داش” كان عبارة عن دمج “الحركة للتجدد الاجتماعي والسياسي” التي أقامها أمنون روبنشطاين في العام 1974، مع “الحركة الديمقراطية”. بالأساس، استطاع “داش” إختطاف الكثيرين من مصوتي حزب “المعراخ” آنذاك.
في سنة 1999 عادت تجربة “داش” إلى الحياة السياسية في إسرائيل، ولكن بنجاح أقل. فحزب “المركز” آنف الذكر حاول اللعب على وتر التعب من السياسيين والحاجة إلى “دماء جديدة” في السياسة الاسرائيلية، وحصد ستة مقاعد، معظمها من حزب “العمل” والقليل من “الليكود” و”ميرتس”. في موقع الانترنت الذي أقيم لجمع التواقيع لدفع أمنون ليبكين شاحاك، رئيس الأركان المسرّح آنذاك، لخوض الانتخابات الرئاسية (كانت طريقة الورقتين ما زالت متبعة آنذاك)، كُتب: “هناك جوع في الجمهور لقيادة، الناس تبحث عن شخص غير ملوث بالشؤون السياسية، غير مشارك في النقاشات السياسية. أمنون هو شخصية يمكن للناس أن يسيروا في أعقابها. هو يبث رسمية، إتزانًا وقدرة فكريةً. رجل عمل نظيف من الرسميات وطقوس المؤسسة”. اللافت والمثير في ذات الآن أن هذه الجملة يمكن أن تنطبق على عمرام ميتسناع وعلى حيثيات خوضه الحياة السياسية، في هذه الأيام!
في برنامج الحزب الانتخابي لحزب “المركز” آنذاك كان واضحًا أن التركيبة السياسية الجديدة تبحث عن قاسم مشترك عام قدر الامكان للتوجه إلى جميع شرائح المجتمع الاسرائيلي. أهم هذه النقاط: “قيام النظام الديمقراطي (…) بشكل يلائم قيام دولة إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية؛ ضمان المساواة التامة لكافة مواطني دولة إسرائيل بشكل يلائم قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية؛ إعداد دستور لدولة إسرائيل (…) بشكل يتلاءم مع قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية؛ قيام سياسة خارجية وأمنية من خلال الرغبة في التوصل إلى تسويات سلمية عادلة ودائمة، تضمن سلامة مواطني إسرائيل والحفاظ على الصلة بين شعب إسرائيل وبلاده وتراثه؛ العمل من أجل دعم القدس الكبرى والموحدة كعاصمة دولة إسرائيل، تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة؛ العمل من أجل تسهيل عملية إستيعاب المهاجرين الجدد؛ العمل من أجل دعم الاستيطان، على قطاعاته المختلفة، في كل مكان داخل إسرائيل؛ العمل من أجل الدمج والمشاركة الكاملة لكافة الأقليات في إسرائيل، على أساس المساواة في الحقوق والفرص المتكافئة، في كافة الأجهزة الحيوية في إسرائيل”.
كان من المهم تعداد هذه النقاط لاثبات نقطة مركزية وهامة في الانتخابات التي توشك علينا: كل نقاط “المركز” الانتخابية المذكورة تندرج بسهولة وبدون معوقات في برنامج “العمل” وبرنامج “الليكود” الانتخابيين. “العمل” اتجه إلى اليمين أكثر و”الليكود” إلى المركز أكثر!
في الاستطلاعات التي نُشرت في صحيفة “هآرتس” في الشهر الأخير هناك عدة معطيات تدعم هذه الاستنتاجات. ففي الاستطلاع الذي أجري قبل عدة ايام في الخامس من الجاري، قال (50%) من منتسبي “العمل” إنهم لا يؤيدون حمائمية ميتسناع “المفرطة” في تقديرهم. كما أن (44%) منهم قالوا إنهم يؤيدون الانضمام إلى حكومة وحدة قومية مع “الليكود” بزعامة شارون. وأيضًا: (56%) قالوا إنه في حالة فوز ميتسناع فإنهم يؤيدون إقامة حكومة وحدة قومية مع “الليكود”، وقال (34%) فقط إنهم يؤيدون إقامة حكومة ضيقة مع “شينوي” وبدعم العرب في الكنيست. في “الليكود” أيضًا هناك دعم جارف لإقامة حكومة وحدة قومية بعد الانتخابات، وهذا ما أكده استطلاع “هآرتس” في 21 من الشهر السابق.
التقارب بين “الليكود” وبين “العمل” أصبح واضحًا وقاطعًا ولا مكان للمناورة في هذا المجال. إذن، عن أي مركز يتحدثون اليوم؟
“شينوي” ووهم المركز
حركة “شينوي” اليوم هي حركة صاعدة. في الكنيست الحالية لها ستة مقاعد والاستطلاعات تتبنأ لها بإثني عشر مقعدًا. السر من وراء هذا الصعود هو إنضمام الصحفي يوسف (طومي) لبيد إلى الحزب كرئيس له قبل انتخابات 1999. لبيد كان شعبيًا جدًا بسبب إشتراكه في برنامج “بوبوليتيكا” في القناة الأولى ومواقفه الحادة والقاطعة، يمينية في معظمها، ولكنها بالأساس علمانية جارفة ضد الحريديم ونهج حياتهم وتهربهم من الخدمة في الجيش. على هذه العدائية أسس لبيد “شينوي” الجديدة وعلى هذه العدائية ما زال يزيد من قوة حزبه.
لكن برنامج “شينوي” الانتخابي لا يبشر بأية مركزية أو بطرح مغاير محدد. البرنامج يتحدث عن السعي نحو السلام، لكنه يلغي الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات كشريك ويقترح البحث عن “معتدلين” غيره؛ “شينوي” تعارض إخلاء مراكز المستوطنات والمستوطنات الكبيرة. في البرنامج الانتخابي من هذه الناحية، كتبت “هآرتس” أمس الأول الأحد، تناقض كبير. حيث لا يتفق هذا الأمر مع إعلان “شينوي” لمبدأ “رفع الثقل عن الطبقة الوسطى” كمبدأ يوازي “العمود الفقري للمجتمع الاسرائيلي” في أهميته. في البرنامج الانتخابي ينعدم أيضًا أي ذكر لمساواة المواطنين العرب، والاكتفاء بذكر مبدأ مساواة عام وضبابي. مع ذلك نجح لبيد، عن طريق التصريحات الغوغائية والصارخة ضد الحريديم، بتحويل نفسه وحزبه إلى المدافع الأكبر عن الطبقة الوسطى في إسرائيل، التي تعمل وتخدم في الجيش وتدفع الضرائب. كل ذلك مع أن “ميرتس” مثلا هي مناهضة أكبر ضد السيطرة الدينية في الدولة، و”الليكود” و”العمل” يطرحان برنامجين أكثر تفصيلا في كل النقاط. قائمة المرشحين في “شينوي” التي أنتخبت قبل أيام في فندق “شيراتون” الفخم في تل أبيب، تعكس طابع الحركة: أشكناز، طبقة وسطى، من تل أبيب وحيفا، رجال ومحامون (ستة محامين في الأماكن المتقدمة). الناطق بلسان “شاس”، غريمة “شينوي” اللدودة علق على القائمة قائلا: “شينوي كانت وستبقى حركة أشكنازية، بيضاء، شبعة ومأطومة، تعقد اجتماعاتها في فنادق فاخرة..”.
في الخارطة السياسية المطروحة اليوم لا مركز في إسرائيل. المركز موجود في أطراف “الليكود” و”العمل”. الميّالون قليلا لليمين وجدوا أنفسهم في أحضان شارون، والميّالون قليلا لليسار وجدوا أنفسهم يتأملون بميتسناع خيرًا. “الليكود” و”العمل” يشكلان معًا، ومع قليل من التغاضي عن تصريحات بعض النواب “النشاز” من الجهتين، المركز الاسرائيلي الجديد: نعم للإجماع القومي وحكومة الوحدة، نعم لدولة فلسطينية ولكن بشروط تعجيزية، نعم لاقتصاد جديد للاقتصاد البديل. تحت هذه المظلة المشتركة يمكن رسم حدود المركز السياسي الجديد في إسرائيل. إذا قارنّا هذه الخطوط العريضة مع خطوط “المركز” في 1999 و”داش” في 1977 نكتشف عِظَم التشابه.
* * *
تبقى في هذا السياق قضية قوة الجذب لدى كلٍ من ميتسناع وشارون. المعركة الآن ليست بين حزبين متناحرين يختلفان في الجوهر والتوجه. المعركة الآن بين شخصين. شارون يود أن يخوض الانتخابات وهو قائد متزن وجَدٌ رصينٌ، وميتسناع يود أن يقودها كمخلـّص جديد. المشكلة عند ميتسناع تبقى أنه في الظروف والأجواء السائدة اليوم، لا يمكنه أن ينتصر في الانتخابات كما انتصر في الانتخابات الداخلية لحزب “العمل”. حمائميته و”يساريته” ليستا في صالحه. نصف حزب “العمل” لا يوافقه على ذلك. هذا النصف هو النصف الأول من المركز الاسرائيلي الجديد. النصف الثاني هو منتسبو “الليكود” الذين يوافقون على طرح إقامة دولة فلسطينية، كما يناور به شارون اليوم. إجمعوا النصفين وستحصلون على حزب مركز بثلاثين مقعدًا على الأقل. هذه المقاعد ستنتظر الفرصة القادمة للخروج إلى الانتخابات في إطار مستقل. حتى ذلك الحين، سيصرخ المركز الاسرائيلي “هايدي شارون” مرةً و”هايدي ميتسناع” مرةً أخرى، وأحيانًا في نفس الوقت. من المثير تتبع هذه الفئة من المجتمع الاسرائيلي لأنها هي التي ستحسم في إستطلاعات الرأي العام، عند التصويت على الاتفاق السياسي القادم مع الفلسطينيين- لصالح الاتفاق طبعًا!
(نُشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” في آب 2002)